ترميم الأحلام

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ما زاد الطين بلة هو هذا العَرج!!

أهذه هي البنت التي طالما تحاكوا ووصفوا كيف تفنن في إبداعها خراط البنات؟!! من لا يعرفها سيحتاج لكثيرٍ من التأمل كي يكتشف فيها ما يشي بجمالٍ قديم. تبدو أيضاً هادئة بشكل مغيظ، أين راحت شيطنتها القديمة!؟ هي التي كانت تهبط من أعلى الجرف المطل إلى الشاطئ كأنها تطير، الآن تزك بساقها اليسرى حيناً وباليمنى حيناً آخر.

مددت يدي ومسحت دمعة من فوق خدها الأيمن وتركتُ أخرى توقفت فوق خط شفتها العلوية. ضغطتُ يدها وهمست: كنتي فين؟ وفيما كانت رائحة المطهرات تهف من البلاط اللامع راحت نظرتها تخترق عينيّ طويلاً كأنها ستجيب على سؤالي، لكنها ظلت صامتة، تراقب شرخاً في زجاج إحدى النوافذ ببهو المستشفى حيث التقيتها مصادفة، كانت ترتدي معطفاً أبيض، فرحت لأنها حققت حلمها وصارت طبيبة، لكن فرحي تبدد بعدما لاحظت تغيرها.

مشيت طويلاً بعد أن ودعتها، كان بالجو رائحة شواء زادت من ضيق صدري.في الليل تعمدت إلهاء نفسي عن التفكير بها. شاهدت مباراة كرة قدم وأنا أتناول عشاءً خفيفاً، آملاً في نومٍ هادئ.

…… وراء الغيطان المحتشدة بغابة من عيدان الذرة كانت هناك رقعة أرض تكسوها نجيلة تضوي ببريق فضي عكسه عليها ضوء القمر. “ندى” تبدو يافعة _ تفيض بالجمال والحيوية كما ظلت بذاكرتي طوال السنوات التي فرقتنا _ تجلس مستندة بظهرها إلى جذع كافورة ضخمة، فيما يفترش فستانها الأبيض الأرض مشكلاً نصف دائرة حول ساقيها النحيلتين. كنت “يافعاً” أجلس قبالتها وأصغي إلى غناء بعيد:

يا بت ياأم غويشة فضة قلبي بجمالك يتوضا

يابت يا أم غويشة دهب العقل من حسنك ذهب

سبحانه ربي اللي وهب

أخرجت من جيبي أحجار السيجة وبينها كنت قد دسست حبة توفي بلون الفراولة، غافلتها واقتربت لأقبلها في وجنتها فغافلتني وأخذت حبة التوفي بين أنملتيها وراحت تلعقها باشتهاء مدهش، حتى اصطبغ لسانها وشفتاها بلون الفراولة، فرُحت أضحك منها وضحكت هي أيضاً.

صحوت غارقاً في عرقي، تضمخ أنفي رائحة الفراولة، وتكدرني صورة عرجها الحالي. كانت الشمس قد تربعت في كبد السماء ولم يكن لديّ ما أفعله.

اخترت للقائنا حديقة تطل على النيل، كان قرص الشمس قد انزلق مسيلاً فوق المياه ألوانه الشفقية، طلبت كوبيّ عصير فراولة فقالت إنها لم تعد تحبها، بل تفضل القهوة، أصغت إليّ بنصف اهتمام وأنا أحكي عن حياتي خلال السنوات التي فرقتنا، بينما هربت مني الكلمات التي ادخرتها لهذه اللحظة، لا أعرف كيف هبط الظلام فجأة فأخفى روعة المشهد الذي كنت أعتمد على رومانسيته لمساعدتي في البوح؟ لا أعرف أيضاً لمَ كانت القهوة سوداء ومرة إلى هذا الحد؟سألتها عن نفسها فلم تقل شيئاً، بل أمعنت في احتساء القهوة، أثنيت على طموحها، فلم تبد مسرورة، تذكرت كلامها القديم عن أطفال يولدون على يديها، تحملهم من أقدامهم وتربت ظهورهم فتنطلق منهم صيحات الحياة، انتبهت على صوتها تقول إنها تنوي التخصص في مجال التشريح كي “تكفي نفسها شر التعامل مع.. الأحياء”، فاحت من الفنجان رائحة غريبة تشبه الفورمالين، فتركته ولم أستطع منع نفسي من السؤال:

_ إنتي بتعرجي ليه؟

بفزع، تركت الفنجان وفتحت عينيها على آخرهما وصاحت مستنكرة:

_ أنا بأعرج! إنت اللي مابتشوفش.

ثم نهضت ومشت بنفس العرجة التي تشهد عليها عيناي التي سيأكلها الدود ذات يومٍ آمل ألا يأتي قريباً.

همست لنفسي بعد أن افترقنا: يا ويلي من هذه البنت!

بذلت جهدا حقيقياً في المساء كي أتوقف عن التفكير بها. أعددت عشاء معتبراً، بيض بالبسطرمة وجبن بالفلفل والطماطم وأكلت بنهم، يناسب مباراة المصارعة الحرة التي اخترت مشاهدتها، حتى أتخمت، آملاً أن أنام كالقتيل متخلصاً من إلحاح طيفها.

…… جالسان لم نزل فوق نفس النجيلة، وكنت قد شبعت من تقبيل وجنتها، وكانت قد كفت عن لعق حبة التوفي وألقت بها لطائر أبي قردان حط قريباً منها، فمد منقاريه والتقطها، ثم دحرجها داخل فمه فتابعت أعيننا النتوء وهو يتحرك داخل رقبته الطويلة حتى اختفى مستقراً، فيما أظن، داخل تجويف بطنه الكبير.

سألتني: ليه مابناكلش أبو قردان زي الحمام والفراخ؟

أجبتها: لأن لحمه مر.

ضحكت بانفعال: يا عيييني! كده اللحم الحلو مظلوم.

ضحكت أنا أيضاً، حتى أوقف ضحكنا عواء بعيد يقترب.

صحوت مكبوساً لا أقوى على فتح عينيّ، وجدت أنبوبة البوتاجاز فارغة “لن أهنأ بكوب شاي” كما لم أجد زيتاً لطبق الفول، ولا ليموناً. كان كل شيء ناقصاً، وبلا معنى.

في الكابوس التاسع ظهر “عارف أبودراع”، بجسده الضخم وعينينه العدائيتين. أتى من وراء “تلة وردان” تسبقه زوبعة من الغبار، وما أن رآنا حتى جأر بعواء مرعب وهو يطوح الهواء بجنزير حديدي،خشيت أن يبرحني ضرباً كما فعل بالولد “همام” ابن الجيران بحجة تأديبه، راح يركله بقسوة وشراسة جمداني مكاني مكللاً بالخجل من جبني _ لذا وجدتني أحدق إلى عضلاته الجرمة وأفكر بأن ضربة واحدة منه ستجعلني “بسيسة.

في الكابوس الحادي عشر قيدني إلى جذع الشجرة وراح يضربني دون رحمة، ودون أن يأبه لصرخات ندى، فأحسست بالدنيا تدور بي ولم أعد أرى سوى كفه الغليظة بأظافرها الحيوانية. ازداد عنف ضرباته حتى أظلمت على إثرها الدنيا، وعندما عاد النور لم أجده ولم أجدها.

أخبروني بعد أن تعافيت أنها وأمها غادرتا البلدة لتقيما عند الجد المريض في بلدته البعيدة إلا أن الشك داخلني، فقط الآن، بأن يكون لعارف أبودراع يد في رحيلهما المفاجئ، ربما ادعي لأمها أشياء سيئة عني وعنها، فهو “صايع” شقي، يستأجره البعض للبطش بخصومهم، لذا يخافه أهالي “منية وردان” ويكرهونه، ويُكرهون على إظهار الاحترام له، وبالنسبة لي فأكثر ما آلمني هو أنها لم تسعَ للاطمئنان عليّ بعد علقة الموت التي أخذتها تلك الليلة، ولم تهتم بترك عنوانها الجديد لي، غير أن طيفها أبى أن يفارقني.

طوال هذه السنوات كانت تداهمني غصة كلما تذكرت ما حدث، وكنت أجابهها بلعبة للنسيان ابتكرتها كي أزيح ما يثقل جوانحي، وبالفعل نجحت، خاصة بعدما قطعت رجلي من “المنية” وعملت بالمدينة القريبة. ما ظل عالقاً بذاكرتي من ذلك الرجل هو عقفة أنفه الغريبة التي أتيح لي رؤيتها عن قرب لحظة غرزه لأظافر يسراه في لحم كتفي كي تتمكن يمناه من لكمي كما ينبغي. لم أسعَ وراء أخباره، بل عرفت، مصادفة، أنه يقضي لياليه مع رفاقه الأشقياء في خنٍ مريب على تخوم المدينة، وبدا لي من حسن حظي أني لم أضطر للمرور بحذائه قط.

ذهبت إلى المستشفى مبكراً وسألتها عن تلك الليلة، وعن ذلك الرجل، فانكمشت تحمي جسدها بذراعيها، أحسست بحاجة إلى ضمها إليّ، أردت أن أقول لها أنا أكلمك، لست أضربك، لكن الأسى الذي اكتنفها تحول إلى نشيج مكتوم، وجمَّد الكلام بحلقي.

متأرجحاً فوق فراشي بين اليقظة والنعاس، أراقب استطالة ظلي فوق الحائط، وأفكر بالبنت التي كانت رحابة روحها تمنحها صلابة ومرحاً واعتزازاً، تبدو ذكراهمجريحة بخمولها الحالي ورغبتها في الاختباء. أضرب رأسي في الحائط، ولا أنجح في التذكر، كنت مصراً أن أعرف حقيقة ما جرى حتى لو كان هذا آخر ما سأفعله بحياتي، لذا ألقيت بنفسي في أتون الكابوس الثاني عشر محتشداً بكل ما لديَ من تحدٍ.

…… أراني مقيداً إلى جذع الكافورة فاقداً للوعي، أهزني بقوة حتى أفتح عيني، أتلفت فلا أجد ندى ولا الرجل إياه، لكن أنينها يصل لأذني، أفكر بما يحدث، أسمع ولا أرى، أحاول فك قيدي فلا أفلح، يأتي أنينها في أذني مختلطاً بالعواء الخافت، الآن فقط أدركت أني لم أكن هدفه.

بدت عيناها منطفئتين عندما صافحتهاوهي خارجة من باب المشرحة، تجنبت عينيّ وظلت تضغط حقيبتها بيدها، كانت حرارة منتصف النهار قد صنعت دائرة مبللة بالعرق فوق قميصها حول منطقة الإبط، ولم تنجح مواد التجميل في إخفاء تورم جفنيهما، أخبرتني أنها لم تنم جيداً ولهذا لا تستطيع الكلام، كنت على وشك أن أقول: أنا أيضاً. لكني لم أفعل.

مشيت طويلاً وركلت كل ما صادف قدميّ من أحجار، كان القمر بدراً هذه الليلة، أراقبه من نافذة غرفتي بينما أذرع الصالة بخطوات ساخطة وذهن ينحو إلى الجنون، عاجز عن النوم وعن الصحو، لا أكف عن التفكير في معنى الظلم والعدوان.

…… أنجح قي فك قيدي في الكابوس الثالث عشر، أعدو باتجاه أنين ندى، فيوقفني العواء المرعب. أستجمع شجاعتي وأتقدم. أقترب غاضباً، فأسمع أنينها وأحسه يرتد وخزاً في صدري. يزداد غضبي من خوفي وعجزي فأضرب صدري مرة، مراراً ، فيستيقظ الذئب داخلي وينطلق لينشب أنيابه في ظهر أبودراع حتى يرفعه من فوق جسد ندى شبه العاري _ جسدها الملطخ بالطين والعشب والحشرات الرفيعة وأشياء أخرى _ ويلقي به بعيداً. أختبئ قبل أن تفتح عينيها، ومن مكمني أراها تئن وهي تحاول النهوض. أراها، ولا تراني، تقف، برأسٍ مائل وشعر مهوش، تفرد، فوق جسمها، ثوبها ثم تمشي، تزك على رجلها اليمنى حينا وعلى رجلها اليسرى حينا آخر.

نهضت مبكراً فيما كانت الشمس تغمر الكون بضياءٍ ساحر، وكان للهواء رائحة الربيع، وللفول المدمس مذاق الفراولة الناضجة. أحسست بأني مرتاح ومفعم بالطاقة، إنحنيت والتقطت الجريدة التي يمررها البائع من تحت عقب الباب، فرأيت صورته، إنه هو.. بنفس عقفة أنفه الغريبة التي رأيتها لحظة غرزه لأظافره بذراعي.

بسرعة ذهبت، فلم أجدها عند المشرحة، بحثت حتى وجدتها في إحدى العيادات تفحص سيدة حبلى، وضعت الجريدة على المكتب أمامها، فحدقت إليّ، فقرأت عليها الخبر: مهاجمة الضواري لرجل من قرية “منية وردان” تتركه في حالة بائسة بين الموت والحياة.

 التقطت الصحيفة وراحت تقرأ فلفتتني أناملها.. بدت مخضبة بلون أحمر قاني. ابتسمتْ ابتسامة غامضة ثم قامت وسارتْ بثباتٍ وتوازن أدهشاني، وفيما كنت أهم باللحاق بها تجمدت نظرتي فوق أناملي.. هي أيضاً مخضبة بلون الدم.

مقالات من نفس القسم