عبدالله المتقي
ممهدات
(حين كنت تحدثينني عن الحب 1) ديوان للشاعر التونسي محمد العربي، صدر عن دار ميارة للنشر والتوزيع 2018، ولا يمكن أن تمر العين بحياد دون ان تثمن هذه الباقة الشعرية التي جاءت على شكل كتاب الجيب، فبقدر ما تفتح شهيتك، تصطادك للدخول إلى سقوف مجازاتها.
إنه الديوان الثالث في مسيرة هذا الشاعر المتحصل على العديد من الجوائز الوطنية والعربية، بعد ديوانيه (حتى لايجرحك المطر) الصادر ضمن منشورات بيت الشعر التونسي 2041، و(القتلة مازالوا هنا)، الصادر عن مؤسسة اروق للنشر والتوزيع القاهرة 2016.
ولا يختلف المتتبعون لحركية الشعر التونسي المعاصر على تميز تجربة محمد العربي.وقصيدته التي تميزه، رفقة فسيفساء أخرى من الأسماء التي تتشابه حينا، وتتمايز عن بعضها أحيانا كثيرة، بيد أن جميع طرقها الشعرية تؤدي إلى الخروج عن تقاليد كتابة النص الشعري المعاصر تخييلا وكاليغرافيا ورؤية.
ولعل ما يلفت الانتباه في هذا العمل الشعري الموسوم ب” حين كنت تحدثينني عن الحب “، هو الحضور اللافت للميتاشعرية sciteopatem “، وهومصطلح يشير إلى التنظير أو الوصف أو الكلام على الشعر ضمن اطار العمل الشعري نفسه. «الشعر على الشعر» أو «القصيدة في القصيدة» “2، ومن تقنياته حسب الناقد (جون ريتشارد)، استعمال الشاعر مفردات تشي بعملية القول الشعري و تنطوي على مكونات المنجز الشعري، مع توكيد الشاعر على انه يستوطن ملكوت الشعر وان الواقع المعاش نقطة انطلاقه، و إشارات إلى اثر القصيدة في نفوس متلقيها.
و القارئ لهذه الباقة الشعرية، يجد أول ما يجد اعتداد الشاعر بالكلمة الشعرية، واحتفاؤه بها إلى درجة التقديس أحياناً، لأنها الحقيقة من وجهة نظره، أو لأنها المركبة التي تنطلق به إلى أراضيه الشعرية.
وعليه، يكون محمد العربى في هذا الديوان مشغولا بالحديث عن قصيدته وعن نفسه في علاقته بهذا الشعر، وهو بمعنى آخر دائم البحث عن ذاته الشعرية، ويعيش قلق الشعر والبحث عن القصيدة التي لم تكتب بعد. ولعل دوال الشعر المهيمنة التي تحتشد احتشادا، فضلا عن السياقات التعبيرية الأخرى تزكي وتعزز هذا الحضور الشعري في الشعري.
هكذا يحفل شعر الديوان على مفردات تنطوي على القول الشعري وتشي به، ولو وضعنا معجما للشعر للألفاظ المشغولة بتشكيل الشعر لتحصلنا على نتيجة ملفتة : ” الشعر، الشاعر، القصيدة، إيكاروس – عبدالفتاح حمودة، خالد الهداجي، سعدي يوسف، بسام حجار، مخيلتي، لغة، يكتب، يشطبه، البياض، المعنى، كلمات….”
تجليات الميتاشعري
محمد العربي شاعر، وأعظم بها من لعنة جميلة ، بلغ به هذا الجنون بها أنه لم يكتب غير القصيدة و الكتابة عن الشعر بالشعر ” فللشعر هيبة، وليس لأي متخرص أن يلوي لسانه به “3، فسيد الكلام يتنزه عن هذا، بل وينأى بمسافات عن حفاة الشعر وعراته، لأن القصيدة حرقة وجمرة من نار، وليست مكيفا للهواء :
” عاش بغابات وأنهار في قلبه
لكن حريقا هائلا نشب في كلماته
يجوب لطرقات كل مساء
كومة من رماد “ص 24
هكذا يبدو الشاعر وريثا لبروميتيوس الذي سرق قبس النار من جبل الأولمب،بقصد إسعاد الناس، لكن محمد العربي كان بارعا في تشكيل ناره الشعرية التي حولها إلى نار تلهب لغته، وإلى حريق يأكل داخله، وبذلك يكون شاهدا وشهيدا في نفس الآن، شاهدا على واقع موخز وحارق، وشهيدا لأنه ألهب لغته و أحرق دواخله ليرسم ويكشف عن كومة من الرماد.
وفي سياق اعتداد الشاعر بالكلمة الشعرية، واحتفاءه بها، والحديث عن الشعر وعن طبيعته وأسراره وعلاقته به، تأتي مكابدة المحو والتشطيب التي تفرضها طبيعة القصيدة :
” يمشي بغصة في صدره
بها يكتب الطريق ويشطبه ” ص 34
إن المتأمل في هذا المقطع سيجد مكابدتين، مكابدة غصة القصيدة، ثم مكابدة التشطيب أو المحو، إنها لذة الاكتشاف المركب، حيث القصائد تمسح كي تعلن الميلاد، تهدم كي تشيد، تنسى كي تتذكر، وتنفي كي تثبت، ثم أن ” لا عمل يَصِلُنا بدم الولادة، فالجنين، حين يغادر رحم أمه، القابلة لا تُسَلِّمَه لها إلا بعد أن تُنظِّفه، وتغسل أطرافه كاملة، ليبدو في صورته التي خُلِقَ عليها.” كما يذهب إلى ذلك الشاعر والناقد الأكاديمي المغربي صلاح بوسريف، وكذلك قصيدة محمد العربي لم تصلنا ملطخة بدم رحمها، بل خضعت لعملية الوضوء الأكبر.
وليس الأمر بدعا، أن تحفر الشاعر الذات الشاعرة، مسارات شاقة للوصول إلى الضوء :
” أكتب كمن يفتح ثقبا في جدار
ليعبر منه الضوء ” ص 14
وبقدر ما تتسع المسافات للخروج من القتامة والعتمة بغاية القبض على النور، ولا شيء سوى شاعر يصطاد الضوء كما الأطفال، وكما الفراشات تنجذب إليه :
- ” أكتب كمن يفتح ثقبا في جدار
ليعبر منه الضوء ” ص 14
- ” أكتب مثل سجين يحفر فراره بملعقة
وهو يفكر في الضوء نفسه ” ص 14
في قصيدته ” الحب ” ينتقل الشاعر محمد العربي إلى أسباب نزول قصيدته، والدافع لكتابة هذه الطاقة البركانية بشكل جنوني، ولم تجد لها طريقا سوى الحب :
” نحتاج حبا مربكا كي نكتب خيبتنا
انحناءنا أمام رياحه
طقطقة عظامنا حين يعبر مزهوا ببذلته الجديدة
تعثر الكلمات بالكلمات
التهامه أرواحنا المرتعشة من برد الحكاية ” ص 19
إنه حب الشعراء، بعيد عن الجانب الاستهلاكي، يتكلم بأكثر من لغة، ومحاط بما هو مختلف، فهو يرتبط بالخسران، الاستلام والخضوع لعواصفه، وتكريرُ عظامنا لطَقْ اندهاشا بكِبره ونضارته، إنه تعطيل للغة الكلام.
لكنه بالرغم من فرادته، يبقى بحق، حاجة هواء تتنفسها القصيدة، وفضاء تحلّق في داخله، وحاجة لا بدّ منها. و يصعب تصور قصيدة لا يتوجها الحب مختلف.
في قصيدته ” أشرف فياض “، الشاعر الفلسطيني في معتقلات السعودية، بتهمة تكفير قصيدته وخنق روحه ورئته الشعرية :
“يقودك الشعر خلف قضبان سجنت أرواحنا
لقرون متالية
ها أنت تهلك أيضا
تقع بين أنيابهم
بين براثن إله جديد” ص 38
في هذا الشاهد النصي يختزل الشاعر اعتقال الشاعر والقصيدة، في ظل حال أكياس الغائط تتطهر بحب الله، الفاقدون للمعنى والجدوى، بعد أن تكلس شعورهم وتساوت لديه الأضداد وتواترت عليهم تعاسة الفكر.
أما في قصيدة ” الشعر “، فتغدو كتابة الشعر فعلُ مقاومةٍ، تسندها طاقة نفسية وقومية متجددة:
” مازال الشعر طريقنا في المنحدرات التي لا تنتهي
كم منزلا سكناه بين نابلس وتونس
كم حضنا ودعناه في الجزائر
كم رصاصة أطلقنا أيها الشاعر
ونحن نمسك الكلمات كمن يمسك بزناد ” ص10
وبعد، لقد قديم شهادة من داخل اللحظة، تلمح وتشير، إذ ما يهمه أساسا سوى أن الكلمة والرصاصة سيان.
وفي موضع آخر من القصيدة ترى الذات الشاعرة أن أمثال أشرف من الشعراء مكتوب عليهم أن يتعرضوا للأذى من كل الجهات، ويلقى بهم في دهاليز الحبس، ولا غرابة أن يصابوا باللعنة التي تشبه لعنة الفراعنة:
” التعليمات بالداخل
التعليمات بالخارج
أن تبقى أرواحنا مسجونة خلف قضبانهم التي لا تنتهي ” ص 38
نمط آخر من الميتاشعرية نجده في الديوان، نمط يتأسس على إشارة الشاعر إلى نفسه ليقول أنا أكتب القصيدة :
” كل عام أنت بخير أيها القلب العنيد
محمد العربي ليس سعيدا أو حزينا
لا يتحسر
محمد جرح غائر
يتذكر سكاكينه
ويحاول أن يبتسم ” ص 62
إنه النزوع الذات الشاعرة، والحفر في طبقة من طبقاتها، شعار يبرز أنا الشاعر وصوته، ومن ثم، تحويل فعل الكتابة من طبيعته المهملة والمرموزة إلى الوجود المرآوي والواضح.
ما يشبه الخاتمة:
مجمل القول، ديوان ” حين كنت تحدثينني عن الحب ” لمحمد العربي، فضاء لطرح أسئلة نقدية تتعلق بتعريف الشعر ودوره وما يتكلفه الشاعر ويكابده في سعيه نحو لغة شعرية متجددة يحملها معه إلى سرير القصيدة.
وتحية شعرية من المغرب، أزجيها لصديقي محمد العربي، وشكرا للدواوين القادمة
°°°
إحالات :
1 – محمد العربي، حين كنت تحدثينني عن الحب، دار ميارة للنشر والتوزيع،
2- هدى فخر الدين، الميتا شعرية: مشاريع الحداثة العربية، مجلة نزوى، ع 26 سبتمبر,2014
3- عادل حد جامي،شمم تطرزه محنه، خاطف ظله، احتفاء بالشاعر محمد عنيبة الحمري، ص46، منشورات الاتحاد الاشتراكي