مروان ياسين الدليمي
1 / الفكرة:
أعطيتُ ظهري لخرائط النزف،
وانضممتُ طوعًا إلى طابور الذين يعبدون اللامعنى،
تحت أضواء النيون الباهتة،
في حافلة تمضي بلا وجهة.
* * * *
تركتُ الحرب داخل الخزانة
في جيب بنطالي القديم،
مع مفاتيح بيت لا أعود إليه،
وسماعات الأذن
التي تسكرني بأغانٍ أجنبية لا أفهم كلماتها.
* * * *
أنا الآن واحد من الذين
يتقنون التحديق في شاشة الهاتف
كمن يصلي للفراغ.
أربتُ على كتف الرتابة،
أعتذر لها عن كل ما فاتني من نعيمها.
* * * *
أصحو متأخرًا،
وأقرأ أخبار المجازر كما أقرأ النشرة الجوية:
حرارة مرتفعة هنا،
ورياح حمراء تعبر هناك،
والغد غائم فوق الشرق.
* * * *
لا أرفع رأسي،
السماء مرآة مكسورة
لا جدوى من التحديق فيها.
* * * *
في جيبي علبة سجائر منتهية،
وفاتورة كهرباء لم تُدفع،
وأمنية بأن أتحول إلى كرسي انتظار
في عيادة حكومية،
أو إلى كوب شاي بارد
نسيه موظف في دائرة الأحوال المدنية.
* * * *
أعبر الشارع مثل فكرة خام،
لا تصلح للنشر،
أهرب من الدماء
إلى بقعة ضوء فوق الرصيف
حيث تبصق المدينة روحها
في سلال المهملات.
* * * *
كل شيء مشغول بالحرب،
حتى البائع المتجول
يرصف التفاح كأنها ألغام،
والقطة تلهو بذيلها كأنها تقرأ بيانًا ثوريًا.
* * * *
أما أنا،
فأصنع لنفسي وطنًا
من رائحة المعقم في المستوصف،
ومن صوت التكييف المركزي،
ومن ساعات النوم غير المكتمل.
* * * *
أريد أن أكون “لا أحد”،
أخلع اسمي وألبسه لأحد غيري،
أسمي نفسي:
ظل كوب على طاولة نسيها الجميع،
أو بقايا إعلان ممزق على جدار لفيلم سينمائي.
* * * *
فليكن هذا انتمائي الجديد:
حزب اللاشيء،
جوقة الأحياء الرخوة،
الذين يتقنون فن الإفلات من الفكرة،
ويرقصون — دون موسيقى —
في قلب غرفة مغلقة.
* * * *
٢ / تَأَمُّلَاتُ الحَيَاةِ اليَوْمِيَّةِ:
جلستُ طويلًا أمام الغسالة،
أرقب دوران الملابس كأنها مجرة صغيرة،
فيها قمصاني القديمة،
وقصائد لم أكتبها.
اكتشفتُ أن الدوران حلّ،
وأن السكون أسطورة اختلقها الواقفـون.
* * * *
في درج المكتب،
تنام علبة مسامير،
وبجوارها فكرة:
هل يحتاج الكون إلى تثبيت؟
أم أننا نحن فقط من يرتجف؟
* * * *
أضع قدح القهوة على حافة السكون،
وأرقب بخاره كأنه صلوات معلقة،
تبحث عن إله
لا يحارب.
* * * *
سكنني الفراغ لا كوَحشة،
بل كضرورة.
كل شيء ممتلئ أكثر من اللازم:
الأنا،
الصور،
الأسلحة التي تنتظر من يحملها.
فكرتُ أن أترك الحرب لأصحابها،
وأتفرغ لتهذيب الصمت،
لجمع الغبار من فوق الأرائك
كمن يراكم طبقات التاريخ.
* * * *
لا أريد بطولة تُدوّن،
ولا فشلًا يُبثّ مباشرة.
أريد فقط أن أتنفس
كمن يجري تمرينًا بسيطًا
في رياضة الوجود.
* * * *
هكذا بدأت أنتمي:
إلى الضجر النبيل،
إلى غربتي عن الأجوبة،
إلى الجلوس في المقاهي
كمن ينتظر شيئًا
يعرف أنه لن يأتي.
صرتُ أُبجّل الحياة البليدة،
لا لأنها الأفضل،
بل لأنها الأقرب إلى الحكمة:
المياه الراكدة ترى كل شيء،
ولا تنفجر.
* * * *
٣/ التَّفاصيلُ الحَضَرِيَّةُ:
أجلس إلى الطاولة،
كأنني أوقع عقدًا مع العدم،
فنجان القهوة نصفه تبخر،
والنصف الآخر
ينظر إليّ بعين سوداء لا ترمش.
الهاتف صامت منذ يومين،
أشعر أن إشعاره الوحيد
هو تنبيهي إلى أنني لا أحد،
وأن الخوارزميات
تتجاوزني كما تتجاوز الأرصفة
أقدام المتشردين.
* * * *
مرآة الحمام تكشف عن رَجلٍ
يحاول أن يقنع وجهه
بأنه ما يزال يعيش،
لكن عينيه كانتا تؤمنان أكثر
بأنه مجرد مشروع غياب مؤجل.
* * * *
أفتح الحنفية
لا بحثًا عن الماء،
بل لأمنح المكان صوتًا،
حتى وإن كان هديرًا لا يفضي إلى نهر.
أفكر:
هل نحن من نصنع الضجيج،
أم الضجيج هو الذي
يصنعنا،
ويرمينا في شقق فوق شقق،
نحمل وجوهنا كأكياس قمامة
لا نعرف أين نُلقيها؟
الغبار يتراكم على الكتب،
كأن المعرفة نفسها
استسلمت لوطأة النسيان.
* * * *
الكرسي في الزاوية
لم يعد يستقبلني كما في السابق،
بات أكثر حكمة،
يرى جلوسي عبثًا،
في زمن لم يعد فيه انتظار أحد فضيلة.
أدرك أنني صرت أعيش
في جملة اعتراضية،
لا تنتمي للنص،
لكن لا أحد يجرؤ على حذفها.
* * * *
أمشي في البيت كمن يعبر مقبرة،
كل شيء يحتفظ بهيئته النهائية:
الساعة لا تتحرك،
لكنها تصدر صوتًا،
السرير لم يُرتب،
لكنه يحتفظ بحرارة النوم الأخيرة،
والستائر تنكمش قليلًا،
كأن الضوء نفسه يشعر بالذنب
* * * *
4 / السُّخْرِيَةُ:
فكرت أن أكتب بيانًا،
أعلقه على باب المطبخ،
أعلن فيه انشقاقي عن الطموح،
واعتزالي الحياة كثورة خاسرة
ضد المنطق.
كتبت:
“أيها البائعون،
خذوا جثتي بالتقسيط.
ولا تنسوا الخصم للزبائن الجدد.”
ثم أضفت بخط صغير:
“آسف، الكرامة غير مشمولة بالعرض.”
* * * *
أعدت ترتيب دولابي،
أخرجت الأحذية القديمة
كما يخرج شعب منهك
قادتَه من المتحف،
لم أرْمِها…
فرُبما يعود الزمن ليرتديها!
* * * *
تابعت مقاطع ” تأمل صامت لمدة خمس دقائق”،
لكني سمعت نفسي
تفكر في وجبة العشاء،
وتخون الطمأنينة
بمقارنة عروض “الدليفري”.
* * * *
اكتشفت أنني لست زاهدًا،
بل فقط مفلسًا أنيقًا،
يرتب انهياره في علب مرتبة،
ويمنحه أسماء لامعة:
“مراجعة الذات”،
“تأمل عميق”،
“استراحة محارب”!
* * * *
أردت أن أصاحب الكتب،
لكنها لم تردني،
فوقفت أمامها كموظف طُرد للتو،
يطلب من المدير تفسيرًا
لأن الفصل “ليس شخصيًا”.
* * * *
ضحكت…
بملء الصمت،
كمن يكتشف فجأة أن المسرح بلا جمهور،
وأن الممثل الوحيد نسي نصه.
* * * *
أجل،
أنا أعيش على الهامش،
لا كشاعر مهزوم،
بل كأحد الذين صدقوا أن “لا شيء”
هو شكل متقدم من الحكمة.
* * * *
٥/ ٱلتَّفَاصِيلُ ٱلْحَضَرِيَّةُ ٱلْجَدِيدَةُ:
صعدت إلى الطابق الرابع
بمصعد لا يعرف الحياد،
يهتز مع كل صعود
كأنه يعيد التفكير بقراره.
* * * *
في زاويته كاميرا ميتة،
تنظر إلي كأنها تقول:
“نراك، لكن لا أحد يهتم.”
* * * *
خرجت إلى ممر بألوان القلق
كوجوه المسافرين في القطار
من الموصل إلى بغداد،
وحيث السكون يحمل رائحة طعام بائت
من شقة لا يطرقها أحد.
* * * *
مررت بجهاز صراف آلي
يعرض اعتذارًا على شاشته:
“عذرًا، الخدمة غير متوفرة حاليًا.”
ضحكت…
كأنه يكتب سيرتي الحياتية.
* * * *
في المحطة،
آلات التذاكر باردة مثل أكف رسمية،
لا تسألك من أنت،
بل كم تدفع،
ولا ترشدك إلى الخروج،
بل إلى الانتظار.
صوت القطار يأتي كإجابة على سؤال لم يُطرح،
يضج كأن المدينة تسعل،
كل عربة هي غرفة انتظار
للناس فقدوا عنوانهم
لكنهم لا زالوا في الطريق.
* * * *
عند الإشارة،
رجل يبيع ولاعات،
وصبي يوزع مناشير إعلانية
عن دورة تنمية بشرية
في بناء الذات المهجورة.
البنايات تنظر إلى بعضها
بلا ود،
كل شرفة تشبه فمًا مغلقًا
بلا رغبة في الحوار.
* * * *
حتى القطط الحضرية
أصبحت أكثر واقعية،
تبتعد عن اللحظات
ولا تلتفت إلى الخبز المهمل.
* * * *
٦ / ٱلسُّوَادُ:
أعرف الآن أن الخراب ليس صوتًا،
بل ما تبقى بعد أن يصمت كل شيء.
في منتصف الليل،
حين تتوقف حتى الثلاجات عن الطنين،
أسمع صدري كغرفة فارغة
تئن من نفسها.
* * * *
المدينة تطفئ أضواءها واحدة واحدة،
كمن يخلع ملابسه أمام العدم،
دون خجل،
دون رغبة.
* * * *
لا شيء يعود إلى مكانه،
ولا أحد يفتقد أحدًا.
البنايات تنام واقفة
كجنود في جيش ألغي أمره
ولم يُبَلغ أحد.
* * * *
في أسفل السلم،
صرير باب مكسور
يعزف لحن النهاية،
والمصابيح المكسورة
تعرف أننا لن نصلحها.
* * * *
الشوارع مبللة
لكن لا مطر،
ربما تبكي المدينة نفسها،
أو ربما تتسول ذريعة للبكاء.
* * * *
في صندوق البريد
رسالة لم تصلني،
لكنها تعرف اسمي.
أزلتها من الهاتف،
خشيت أن تحتوي على جملة أعرفها جيدًا:
“نأسف لإبلاغك أنك ما زلت حيًا.”
* * * *
كل شيء متصدع،
لكن لا أحد ينهار،
الناس يبتلعون خوفهم
كما يُبتلع دواء انتهت صلاحيته.
* * * *
تعبت من محاولتي البقاء “عاديًا”،
من قول صباح الخير لموظف الاستقبال
وكأنني لا أصرخ من الداخل.
صرت أرى وجهي كجدار عازل
نسيت أن أعلّق عليه مبرر وجودي.
* * * *
في النهاية،
أيقنت أنني لا أعاني،
بل فقط:
أحافظ على شكلي
لأبدو صالحًا للاستعمال،
رغم أنني لم أُستعمل يومًا.
* * * *
٧ / ٱللَّا شَيْءِ:
في النهاية،
لم يحدث شيء خارق.
لم أتحول إلى نبي مهجور
ولا إلى شهيد إعلان ضخم.
فقط،
جلست على حافة السرير
أقشر برتقالة
وأفكر أنني لا أرغب في أكثر من هذا:
ألا أكون على أي جبهة،
ألا أرفع كشعار،
ألا أسحب إلى معركة تحتاج دمًا أكثر مما أملكه.
* * * *
كل الطرق تؤدي إلى الصخب،
إلا هذا الطريق الوحيد،
الذي لا يحمل لافتة
ولا يبشر بشيء،
ولا يسير عليه أحد
سلكته.
هو اللا شيء،
لكنني وجدته مفرشًا بسجاد النسيان،
تزينه فتات الخبز الذي تركه العابرون،
ويهمس لك:
“هنا، لا حاجة لإثباتك.”
* * * *
في جوقة الفخورين باللا شيء،
نحن لا نصفق،
بل نكتفي بالنظر إلى يدينا
كأننا نتحقق من بقائهما،
ثم نطويهما بهدوء
كمن أنهى آخر رقصة في الحفل الأخير.
* * * *
نعم،
أبجل الرخاوة،
وأحني رأسي لنعمة اللامعنى،
لا لأنني استسلمت،
بل لأنني جربت كل الأشكال
ولم أجد ما هو أنقى
من أن تكون…
ببساطة، لا أحد.