حينما شاهد “علي” التلفزيون لأول مرة في حياته كان يصدق كل ما يدور داخل الشاشة الصغيرة وكأنه يراه من نافذة بيتهم، وكأنه يحدث عند الجيران، لدرجة أن أخاه أمسك به ذات مساء وهو يحاول إخماد النيران التي اشتعلت في منزل بطل أحد الأفلام التي كان يشاهدها، وعبثًا حاول أن يفهمه أن هذا مجرد” تمثيل”، وأن البطل لم يمت، ولم يحترق بيته، …
“علي” ليس طفلاً صغيرًا، إنه شابٌ على قدرٍ من الوسامة، ولكن تأخرًا طارئًا في عقله جعله غير قادرٍ على استيعاب ما يشاهده على الشاشة، وفصله عن واقعه، على الرغم من إدراكه أنه بمجرد إطفاء “الشاشة” يخلد الجميع إلى النوم.
حاول (عمر) (أخو علي) أن يبعد أخاه لفترة عن مشاهدة التلفزيون، … ولكن ذلك الأمر لم يستمر طويلاً ..
تعرَّف بعض الأطباء على مشكلة “علي” النفسية، وحاولوا أن يساعدوا أخاه على التعامل معه، وأكدوا له أن رغبته في “فعل الخير” للغير ستجعله أفضل بصفة دائمة، وأن عجزه، في المقابل، عن مساعدة الناس ستصيبه باكتئاب حادٍ، وقد تؤدي به إلى محاولة إيذاء نفسه، ..
شيئًا فشيئًا أدرك “عمر” أهمية أن يجعل أخاه قادرًا على مساعدة الناس، فبدأ بتعريفه على جمعيات المساعدة الإنسانية، وفوجئ بكم العطاء الذي يبذله لأفرادها، وقدراته الواسعة على زرع الابتسامة فيمن حوله، وتحويل كدر عيشهم وضيقهم بأحوالهم إلى سعادة ورضا، ولاحظ كم كانت روحه المعنوية في تلك الزيارات تكون في أعلى حالاتها ..
إلا أنه كان كلما عاد إلى منزله تفقده مليَّا!
ببسـاطــة … سأله ذات يوم عن “التلفزيون” ..
حاول “عمر” مرارًا أن يشغله بأمورٍ أخرى، وكان يبدو على “علي” أنه ينسى، ولكنه يعود مرة أخرى، فجأة، ليسأله عن “التلفزيون”، …بدا أمر “التلفزيون” أكثر خطورة مما كان يتوقع!!
بعد خمسة أيامٍ تقريبًا وجد “عمر” أنه لا جدوى من إخفاء التلفزيون عن أخيه، بل وفكر في حيلة تجعل أخاه قادرًا على مساعدة أبطال المسلسلات والأفلام التي تُعرض في التلفزيون طوال ساعات بثه ..
توجه “عمر” إلى المسئولين في التلفزيون، وشرح لهم حالة “علي” باستفاضة، وعرض عليهم أن يساعدوه في التعرف على أبطال المسلسلات والأفلام التي ستعرض في الأيام القليلة القادمة حتى يتمكن من استضافتهم في المنزل، ومن ثم يجعل عليًا قادرًا على مساعدتهم، مؤكدًا أنه يجب أن تكون هناك حلقة إضافية بعد مساعدة “علي” للبطل توضح مدى استفادته منه، والعجيب أن مسئولي التلفزيون رحبوا جدًا بالفكرة، ووجدوا فيها تواصلاً جديدًا وفريدًا بين الشعب وهذا الجهاز الإعلامي الجديد …
5 أفلام و 3 مسلسلات هي حاصل الأسبوع الأول من التجربة التي جعلت عليًا يتقافز بين أركان البيت لفرحته المفرطة لأنه استطاع أن يقرض البطل الأول مالاً يتمكن به من أن يتزوج حبيبته، ويساعد الثاني في إكمال تعليمه حتى يحصل على الوظيفة المناسبة، والثالث والرابع والخامس … إلخ ..
كانت الأفلام تنقسم إلى ثلاثة أجزاء يشاهد علي جزءها الثاني فقط بطريقة “البث المباشر”؛ لأن الأبطال يكونون حاضرين عنده، ويتمكن في دقائق أو ساعات من حل أزماتهم ومشاكلهم، ليظهروا في الجزء الثالث وقد علتهم الابتسامة، شاكرين مقدرين لعلي ما فعله من أجلهم ..
* * * * *
في البداية لم يكن هناك لنشرات الأخبار “الحقيقية /الحقيقية” مجال …
وكأن كارثةً حطت على رأس “عمر”، بعد أن كان قد اطمئن على سير الأمور على أحسن حال، وبدأ يهتم بمشاريعه الخاصة، ويدع أمر “علي” لزواره من أبطال المسلسلات والأفلام الذين يتوافدون عليه مساءً، فوجئ “عمر” ذات مساء بأخيه يسأله:
ـ من هو حاكم مدينة”ميلانو”؟ ولماذا يثور عليه “شعبه”؟ وما معنى “مظاهرة”؟
الحقيقة أن أيًا من تلك المعلومات لم تكن متوفرة عند “عمر” لحظة إلقائها عليه، إلا أنه استطاع بما أوتي من حنكة أن يتخلص من تلك الأسئلة فرد عليه قائلاً: نعم، إنه فيلم جديد، نسيت أن أخبرك عنه، إنها مفاجأة ..
وعلى الرغم من اقتناع “علي” السريع بتلك الفكرة، وتقديره لها، إلا أن أخاه وجد نفسه فجأة في مأزقٍ حقيقي، فقد بدأت شبكات التلفزيون ببث ما أسمته حديثًا “نشرات إخبارية” تتضمن ما يدور في البلاد وحول العالم بكل مصداقية، وشفافية، وتحقق!! …
هذه المرة لم يكن للحيل العمرية أي مجال! فحتى إن هو استطاع أن يقنع رئيس الدولة بالمجيء إلى علي، والرضا التام بالحلول التي يضعها لكل مشاكل الشعب، فليس بقادرٍ على تعريفه بحاكم”ميلانو”، ولا إقناعه بجدوى التظاهر ضده؟!!
الحقيقة أيضًا أن وعي “علي” كان قد تغيَّر ولو بشكل جزئي، فقد بدأ يدرك أحيانًا أن أبطال الأفلام لا يلتزمون بما يقوله لهم، ومع ذلك تكون مشاكلهم قابلة للحل بطرقٍ أخرى، وأن بعض المشاكل لا تحل وعلى الرغم من ذلك تسير حياة أبطالها بطريقة أخرى، قد تبدو أفضل في الحلقات التالية (بدا ذلك في المسلسلات أكثر) … وكانت جلساته مع أخيه في مساءات كثيرة تتناول جوانب من هذه المشكلات، حتى أن “عمر” أدرك أن عليًا اليوم قد تغير …
كل ذلك جعل “عمر” يفكر جديًا في عرض الأمر على “علي” هذه المرة مباشرة، وبدون استشارات طبية معقدة، سيخبره أن هذه “الفقرات” لا علاقة لها بأبطالٍ حقيقيين، وأنها مجرد “مشاريع” (نعم حلوة فكرة مشاريع هذه) لأفلامٍ ومسلسلات قد ينجح صانعوها في تحويلها إلى أفلام أو مسلسلات (وحينئذٍ سيكون من اليسير عليك مساعدتهم) أو يفشلون في تحويلها فتظل مجرد “أخبار” أو ” أقوال” في الهواء لا فائدة منها …
….
وبالفعل تحولت عدد من “نشرات الأخبار” إلى فيلم أو مسلسل، ولكن ظهرت مشاكل جديدة على سمع “علي” مثل “احتلال” و”مجاعة” و “فيضان”، وغيرها … وبالتالي انتشرت بعض الأفلام التي كانت تأتي بهذه المعاني، حتى يتمكن “علي” من أن يحل مشاكلها، وأخذ يسأل أخاه عن تلك المشاكل، وبطبيعة الحال بدأ “عمر” يعرفه على كيفية تكون “المجاعة”، وأمور “الاحتلال” …
شيئًا فشيئًا فكَّر “علي” بسرعة وتعرف على كيفية سد “المجاعة” وإلغاء “الاحتلال” و كسوة الناس وإيوائهم بعد الفيضانات، كانت الأمور كلها بسيطة … واستطاع “علي” أن يساعد أبطاله على التغلب على ما يواجهونه من مشكلات .. حتى بدأ التلفزيون يعرض شيئًا جديدًا ..مختلفًا كليًا عما سبق.
“فيلم أجنبي”
عبثًا حاول “عمر” إثناء الجهات المسئولة بالتلفزيون عن هذا القرار الخطير، والذي قد يهد في لحظات كل ما بناه في وعي “علي” وعقله من سنوات! لم يتخيل عمر للحظة أن يقف أخاه فجأة عاجزًا عن حل مشكلة من مشاكل تلك الأفلام، لهذا السبب التافه الذي جلبه المسئولون من الخارج، بدعاوي التفتح على العالم الخارجي، والعالمية والعولمة، وغيرها من شعارات بدأت تفرض نفسها على الساحة!! …
وكالعادة فكَّر “عمر” مليًا في حيلة، وجلس مع أخيه أثناء عرض أحد الأفلام الأجنبية، وحاول أن يشرح له كيف أن أبطال هذه الأفلام يتكلمون ـبادئًا ذي بدء ـ لغةً مختلفة عن لغتنا، وكان “علي” قد أدرك ذلك ببساطة من “شريط الترجمة” الذي ظهر أسفل الشاشة، وبدأ يقرؤه، بل تشجع وأخبر أخاه أن هناك لغاتٍ أخرى يتكلم بها الناس في مناطق بعيدة، ارتاح”عمر” تمامًا لهذا الخبر، وأضاف إليه أنه لذلك لن يتمكن من أن يحل مشاكل أبطال هذه الأفلام، لبعد أصحابها عنَّا مسافاتٍ طويلة من جهة، ولتعذر فهم لغتهم من جهة أخرى..
بدا الضيق في البداية على وجه “علي”، ولكنه يومًا فيومًا تفهَّم الأمر …
… الحقيقة .. التي لم يدركها أحد أن عليًا أصبح يتفهم أمورًا أخرى عديدة …
بعض الأبطال بدءوا يستخفون بما يقوم به من أجلهم، ولم يخبر “عمر” أن بعضهم الآخر أخرج له لسانه في إحدى الحلقات، ولم يستجب لنصيحته! بعضهم الآخر كان يأتي ليأكل ويشرب ويمزح معه، ثم لا يرى له أثرًا في الحلقات التالية أصلاً …
ما لم يعلمه أحدٌ أيضًا أن عليًا تغيَّر كثيرًا …
علي لم يعد يحب “فعل الخير للغير” كما كان في البداية، “علي” لاحظ أن بعض من يقدم لهم العون والمساعدة لا يكونون بحاجة حقيقية لها، “علي” كان يعرف أنه لا يهم إذا كانوا بحاجة إليها أم لا، المهم أنه يكون “سعيدًا”، ولكن عليًا لم يكن “سعيدًا”!.
* * * * * *
مات “عمر” في وقتٍ متأخر من مساء إحدى ليالي الصيف، ككل خلق الله، كان يجب أن يموت “عمر”، ويبدو لنـا أنه أدرك قبيل موته بأيام أنه سيفعل، أو يًفعل به، فترك وصيته لكل من يأتي بعده، حتى يعيش أخوه “علي” ما تبقى له من عمره هانئًا مطمئنًا ..
ترك لهم وصية بحروفٍ منقوشة بخط كبير وواضح :
اسمه: علي …..
يحب فعل الخير، صباحًا، ويشاهد “التلفزيون” كـ “حقيقة” طوال فترة المساء ..
دليل الاستعمال :
أفلام عربية: يُفضل مجيء البطل الرئيس واثنين من معاونيه قبيل الحلقة الأخيرة
أفلام أجنبيه: يجب التنويه عن أماكن حدوث الفيلم ” الأماكن الحقيقية” وشرح وتوضيح صعوبة الذهاب إليهم .
نشرات أخبار: يجب الإشارة إلى أن بعض الأخبار “عالمية” وعليه لا يمكننا التعامل معها ..
المشكلة التي لم يضع لها “عمر” حسابًا أبدًا أن مؤسسة الإعلام قررت (قبيل وفاته بأيام) المشاركة في فتح “قنواتها” للفضاء الخارجي، وعليه فلم يعد “علي” مكتفيًا بعرض قناة واحدة، ولا شاشة واحدة، وأبطال محددين، بل أصبح هناك أبطال متعددون، وشاشات كثيرة، وعدد لا حصر له من الأفلام والمسلسلات ونشرات الأخبار …
بلغنا أن عليًا لم يصبه العجز ولا الاكتئاب الحاد، بل ولم يؤذ نفسه ..
سُمع وهو يتحدث مع أحد جيرانه بصوتٍ عال:
(( هناك مظاهرة راقصة دبلوماسية وش بدك إنتا حرب على بغداد ما تكلمنا شوية عن تاريخك قلت لك كرة بحبك القدم لصالح الفريق مات المنافس))
يؤكد على الجميع أن أخاه لا يزال يعيش معه، ويأتيه مساءً متمثلاً دور …….
مات “علي” موتًا طبيعيًا قبيل ثورة الـ “فيديو كليب” … تاركًا بعض الحروف التي استطعنا أن نستخلص منها هذه العبارات :
الورقة قناة “فوكس موفيز” الذي عرضتها عشية ضرب غزة حول العلاقة بين السلطة والشعب والديمقراطية
الفيلم التي تركها لي أخي، بعد احتدام نقاشنا لم يكن عن الحرب، ولا عن الحب، ولا حتى عن مهارات الدفاع عن النفس لم تكن تتحدث عن هذه القضية أصلاً، لماذا لم أتزوج حتى الآن ؟!! على الرغم من أني لم أولها اهتمامي، رسائل المحمول ولم يرد فيها مسألة خياراتي الشخصية” النصر لنا”
عبارات التنديد والشجب والفيلم، والورقة، ومظاهرات البسطاء وتعاطفهم، كل ذلك جعلني أفكر بجديـة: على من تعود (نـا) في جملة التي تركها فيها؟!!
مما جعلنا نؤكد أنه أصيب قبل موته بلوثة عقلية!!