استهلال لرواية الكاتبة المصرية منصورة عز الدين: “جبل الزمرّد” تشتبك فيه مع “ألف ليلة وليلة” اشتباكاً يتجاوز العنوان، لتقدّم عملاً يلعب مع “الليالي” ويحاورها متبيناً بعض أساليب السّرد المستلهمة منها. عمل يتفّحص بحساسية علاقة الكتابي بالشفاهي، ويشتغل على فكرة رواية الرواية، أي الوعي بفعل كتابة منبثقة من قلب “ألف ليلة”، ومتمّاسة مع الموروث الديني في آن.
كاهنة الأبيض والأسود، أو “بستان” كما شاءت الكاتبة اسماً لبطلة روايتها، مهووسة بالكتابة والانكفاء على التدوين دون كلل، فيما العالم خارج بيتها في الزمالك، العالم القديم ينهار. درّبها مبكراً والدها على السرد والكتابة، مُسرّباً لها تدريجاً لمحات مما ينتظرها من مهام، كما أسمعها مئات القصص المستّلة من دهاليز التاريخ الغابر، وأنشد لها آلاف أبيات الشعر. من هذه الكثافة تبدأ “بستان” رحلتها وحدها، فتنطلق مازجة الخيال بالواقع في سرديات تختلف جذرياً في النوع، فهي أحياناً قصة قصيرة وهي ريبورتاج وقصيدة ودراسة طرية ومقال. ما يمنح رواية عز الدين تكنيك تعدد الأصوات في “جبل الزمرد” الصادرة عن “دار شرقيات”، في شكل ثوري وجديد.
ما من تزامن في السّرد، فهي قصص معبّأة داخل “صندوق” الرواية، ونجد ذلك التكنيك (الصندوق) في كثير من روايات القرن السابع والثامن عشر، إنما مطوّرة بطريقة تسمح بالهروب من الخط التصاعدي المألوف. طريقة يمكن تسميتها كتعرف أفضل بالوحدة غير المنفصلة لكن المشغولة في آن، ويربطها موضوع عام كاف تماماً للتجوال في رحابة تقترب من حد المتاهة. التمزّق الإيجابي في السرد يقع في مكان آخر، ويتمثل في عدم تقابل هذه الأصوات. الرواية مع ذلك، تنال انتباه القارئ الذي احتاج كل تركيزه، من شساعة السرد وغوصه ومخاتلته وأسراره ووفرة المعلومات التي استخدمت من أجله.
تحتوي الرواية من خلال إيغال الكاتبة في عوالم قديمة وعوالم متخيلة، على تعقّد الحياة في العالم الحديث. وتلعب عز الدين على فكرة أن الأعمال الكبيرة (خاصة التي ترغب أن تبدو كبيرة) تحتوي على شيء لم يتحقق، لذلك يجول السرد في الماضي والحاضر وفي ما بينهما، متنقلاُ في الزمن وفي الشخصيات في محاولته الى احتواء تعقّد الوجود الراهن، عبر هذه المراوغات الزمنية من دون أن تفقد الكاتبة الوضوح المعماري لروايتها.
وحتى لو كانت الكاتبة هي التي تسرد وتتكلم، فأفكارها مرتبطة بالشخصية المروي عنها، تفكر بمواقفها، بطريقتها في رؤية الأشياء، ولا تريد أن تكون بديلة عنها أو أعمق مما تستطيعه الشخصية في الرواية.
ثمة عند عز الدين ذلك التموضع، جملتها الناحية مناحي الشعر، التأمل الماكر والتريث الطويل حول العلاقة المتبادلة بين الجسد والروح، وعندها في مواضع تلك الجملة الناحية مناحي الشعر وذلك القص المتعلق بالأحلام والرؤى، وهو الخيال متحرراً أحياناً من سيطرة العقل ومن الاهتمام بالاحتمالات.
الحلم إلى حد، والأساطير والغيبيات والمرويات المثبتة وغير المثبتة، هي نماذج مفضلة عند عز الدين، وهي هنا تلعب دور الاستنطاق الواضح للحياة الحقيقية، والأحلام عند الكاتبة في إصدارها الجديد مثل جزر داخل الرواية تعينها على الذهاب الى أبعد حد في الإضاءة على أفكارها، حتى ليبدو في المجمل كما لو الحلم والواقع مترابطين ومختلطين بحيث يتعذّر على القارئ تمييز أحدهما عن الآخر.