القسّ عيد صلاح*
رواية بيت القبطيّة لا تُقرأ بطمأنينة. منذ الصفحات الأولى تشعر أنك لا تمسك كتابًا بقدر ما تمسك ملف قضية مفتوحًا، لم يُغلق بعد، وربما لن يُغلق أبدًا. رواية أشرف العشماوي “بين القبطيّة” الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة 2019م لا تدخل إلى قضايا الأقباط من بوابة الصخب أو الشعارات، بل من باب العدل، ذلك الباب الذي يبدو في واقعنا كثيرًا ما يُترك مواربًا، أو يُغلق على مهل.
تدور الرواية حول محقق قضائي يحاول تتبع خيوط بعض الجرائم الجنائية في قرية صغيرة بشمال الصعيد، فُيفاجأ بما هو أخطر: حوادث قتل بغير باعث منطقي، وحالات انتحار مُريبة، واحتراق زراعات وبيوت بدون سبب واضح، لتكبر حالة الشك المصاحبة للجميع بمن فيهم المحقق، الذي يتقاطع مصيره مع سيدة قبطية غامضة. في هذه الرواية يغوص الكاتب أشرف العشماوي في نفوس مُعقدة التركيب، ناسجاً أحداثه في عوالم جديدة مُدهشة، ومُفارقات مُضحكة مُبكية، عبر إيقاع سردي جذاب، يُثري الفكر ويُثير الخيال.
شدّني منذ البداية هذا التوازي الذكي مع يوميات نائب في الأرياف لتوفيق الحكيم. كأن العشماوي يستدعي روح النص القديم، لا ليكرّره، بل ليضعه في مواجهة واقع أكثر تعقيدًا وقسوة. يوميات وكيل نيابة مثقف، مستنير، يؤمن بالحرية والعدالة، لكنه يصطدم كل يوم بأسئلة أكبر من القانون، وأثقل من قدرته على الحسم.
ومن قلب هذه اليوميات تخرج هدى حبيب… لا كشخصية روائية فقط، بل كجرح مفتوح. امرأة تُستغل، تُدفع خطوة بعد أخرى نحو مصير لا تختاره، وكأن حياتها تُكتب بيد غيرها. لا تعيش ما تريد، بل ما يُفرض عليها. حتى أمومتها لا تنقذها من النهاية، بل تضيف إلى المأساة طفلين يفتحان عيونهم على المجهول.
ما أوجعني في الرواية ليس الحدث وحده، بل ما وراء الحدث: ذلك الشعور الخفي بأن كثيرًا من القضايا يُراد لها أن تبقى “ضد مجهول”، وكأن المجهول صار شخصًا حقيقيًا نعرفه جميعًا، لكنه بلا اسم ولا وجه ولا حساب. بيت القبطيّة لا تصرخ، لكنها تُدين بصمت ثقيل. لا تتاجر بالألم، لكنها تضعه عاريًا أمام القارئ. وهي في ذلك أكثر قسوة، وأكثر صدقًا.
انتهيت من الرواية وأنا أشعر أنني لم أقرأ حكاية فرد، بل اختبرت جزءًا من مأساة أوسع: مأساة إنسان يُسحق بين المجتمع والسلطة، وبين الخوف والضرورة، وبين القانون حين يُكتب… والعدل حين يُؤجَّل.
هذه رواية تستحق أن تُقرأ، لا لأنها عن الأقباط فقط، بل لأنها عن الإنسان حين يُطالَب أن يدفع ثمن ما لم يختره.
………………………
*باحث في التراث العربي المسيحيّ، راعي الكنيسة الإنجيليّة بعين شمس، القاهرة














