مروة مجدي
من منا كتبت؟
تكتب نورا ناجي فأشعر أنني أنا من كتبت. إنها تعبر بصدق وشفافية، تلامس مشاعر كل امرأة، كل كاتبة، تتناول كل مظلومة، كل صوت مهمش، تكشف عن كل ذكورية، تعبر عن كل امرأة مقهورة، حتى لو كانت طفلة.
تقول ما أريد قوله، لكنها دائماً تسبقني، وأنا سعيدة لأنها تسبقني، فهي جديرة بأن تكون في الصدارة. إنها الأجدر بأن تروي تلك المشاعر، فهي القادرة على التعبير عنها بصدق.
لو كان بإمكاني أن أطلق عليها اسماً آخر، لاخترت “مشاعر”، فهي بحق مشاعر تمشي على قدمين.
أم روحية لكل كاتبة نسوية
تجسّد نورا مشاعر الشخصيات بالكلمات، كأنها هي هم، وهم هي، كأننا هم وهم نحن. كأنها الأم تريزا، الأم الروحية لكل كاتبة نسوية، هذا الوصف الذي يثير حنق الكثيرين، لكنه لا يهمها ولا يهمني. فمن أراد دفن رأسه في الرمال فليفعل، أما نحن فنقول الحقيقة بكل شجاعة وجرأة ونفتخر بذلك. نورا كاتبة نسوية، وهي الأجدر بالكتابة عن النساء بصدق ودون ادعاء، في حين أن كثيرين يدّعون حملهم لقضايا المرأة، وهم في الحقيقة غير مؤمنين بها على الإطلاق.
في كل مرة أقول لنفسي: لقد بلغت أقصى حد من الإبداع، ماذا ستفعل في الرواية التالية؟ خاصة بعد روايتها “سنوات الجري في المكان” التي أتقنت فيها كل الألعاب الفنية بذكاء وحرفية ومهارة. لكنها دائماً تفاجئني، تتفوق على نفسها، تواصل الألعاب السردية، فتمنح قراءها متعة لا حدود لها.
كسر القوالب وخوض مسارات غير مألوفة في السرد
تتقن التجريب، فنانة بارعة تمزج بين الأدوات والأساليب بمهارة ودقة، لا تهاب كسر القوالب أو خوض مسارات غير مألوفة. تمتلك جرأة استثنائية في استكشاف أبعاد جديدة في الكتابة، تتلاعب بالسرد والزمن والشخصيات، فتخلق عوالم متجددة تحمل بصمتها الفريدة. لا تكرر نفسها أبداً، بل تسعى دائماً إلى تقديم تجربة مختلفة، وكأنها في سباق دائم مع ذاتها. في كل عمل جديد، تثبت أن التجريب ليس مجرد محاولات عشوائية، بل رؤية واعية تستند إلى معرفة عميقة وموهبة أصيلة.
وعي صادق ومنحاز وواضح للنساء
تحمل على عاتقها قضية حقيقية تدافع عنها بإخلاص وإيمان عميق. قضيّتها النسوية ليست مجرد شعارات جوفاء، بل نابعة من واقع تعيشه كل امرأة تعاني الظلم والتهميش في هذا العالم. تكتب بوعي صادق وانحياز واضح للنساء، تسلط الضوء على معاناتهن التي غالبًا ما تُهمّش أو تُنسى. تمتلك القدرة على التعبير عن أصوات النساء اللواتي لا يجدن من يُنصت إليهن، وتطرح قضاياهن بجرأة وشجاعة، دون تجميل أو مداراة. كتاباتها بمثابة صرخة مدوية في وجه الظلم، ودعوة مستمرة لرفض الاستسلام والمطالبة بالحقوق. إنها تدافع عن النساء ليس كمدّعية، بل كمؤمنة بقضيتهن، تعكس في نصوصها الحقيقة دون تصنّع، لتصبح صوتًا يعبر عن نساء العالم.
المكان بطل رئيسي
في روايتها الأحدث “بيت الجاز”، يُصبح المكان بطلاً رئيسيًا بامتياز، حيث يشكّل المثلث المكاني المتمثل في المقابر، كوبانية الجاز، ومستشفى الجذام بطنطا عنصرًا جوهريًا في بنية السرد. هذه الأماكن ليست مجرد خلفيات للأحداث، بل تحمل دلالات رمزية وثقافية تعكس حالة الشخوص وتحولاتهم الداخلية.
تتجلى المستشفى، على وجه الخصوص، كمركز ثقل سردي ونفسي، حيث تمثل العزلة والانفصال عن العالم الخارجي، وتجسد واقعًا مرعبًا لكنه حقيقي، يفرض نفسه على الأبطال ببطء، كأنه قيد لا يُكسر. في هذا المكان، تتقاطع المشاعر الإنسانية بين الأمل واليأس، القبول والرفض، القسوة والهشاشة.
أما المقابر فتأتي كصورة للموت بمعناه الرمزي والحرفي، مكان يفرض حضوره النفسي الثقيل، يذكر الشخصيات باستمرار بحتمية الفناء والتلاشي، بينما كوبانية الجاز تعكس نوعًا من المساحة بين الماضي والحاضر، بين الأمل والضياع، كأنها بقايا عالم قديم يحاول أن يتنفس رغم الخراب.
هذا المثلث المكاني، بثرائه وعمقه، لا يخدم فقط السرد، بل يضفي على الرواية بُعدًا فلسفيًا وإنسانيًا، يثير أسئلة حول العزلة والانتماء والهروب من الواقع.
ثلاث سيدات عبرن عن مجتمع كامل
تمتلك نورا ناجي قدرة استثنائية على رؤية شخصياتها بوضوح مذهل، وكأنها تعيش داخلهم وتتنفس معهم. حين تنهي قراءة روايتها، لا تغادرك بسهولة، بل تظل عالقًا في مأساة الشخصيات الثلاث اللواتي يحتللن تفكيرك بالكامل.
مرمر، التي تحمل أكبر مأساة في الرواية، تجسد الألم في أنقى صوره، بينما يمنى، الشاهدة على لحظة مأساوية لا تستطيع نسيانها، تعيش في صراع دائم مع ذكرياتها. أما رضوى، الكاتبة التي تسعى لنسج رواية من خبر قرأته في صحيفة، فهي نافذتنا إلى أسرار الكتابة، وتأخذنا في رحلة إلى معاناة كل كاتبة تحاول خلق عالم متكامل من تفاصيل صغيرة.
رواية داخل رواية ومزيد من التجريب
الرواية في حد ذاتها تجربة داخل تجربة، حيث تقدّم “رواية داخل رواية”، مواصلة بذلك مشروعها التجريبي الذي بدأته في “سنوات الجري في المكان“. بأسلوبها السلس الممتنع، تضع القارئ في حالة من الاندماج الكامل مع النص، تشعرك أن كل شيء سهل وبسيط، لكن حين تحاول محاكاته تدرك كم هو معقد وصعب. تكمن حرفيتها في قدرتها على بناء عالم يبدو متقنًا دون أن يظهر أي جهد على السطح، مما يعكس المجهود الكبير المبذول في تشكيل هذا البناء الروائي المتين.
تقمصها الشديد لشخصياتها يجعلها قريبة إلى حد التماهي، تنقل مشاعرهم بصدق مذهل، تعطي لكل شخصية صوتًا وروحًا مميزين. نورا لا تكتب فقط، بل تعيش مع شخصياتها وتمنحهم الحياة، وهو ما يجعل رواياتها تجربة لا تُنسى، تترك أثرًا عميقًا في نفس قارئها.
رواية بيت الجاز ليست مجرد سرد لقصة، بل هي صنعة متقنة من فن الحكي، تقدم الحكاية بهدوء وبحرفية تعتمد على التقطير الشديد للأحداث والمشاعر. تجد نفسك مشدودًا دون ضجيج، مأخوذًا بتفاصيل تتسلل إليك تدريجيًا، وكأنها ترسم عالمًا معقدًا بحركات دقيقة ومدروسة.
بلغة السينما شخصيات non-stereotypical
الشخصيات في الرواية غير اعتيادية، كما يصفها كُتاب السيناريو والمخرجون بـ “non-stereotypical“، فهي تحمل أبعادًا إنسانية حقيقية تتجاوز القوالب الجاهزة، شخصيات مليئة بالتناقضات، بالمخاوف، بالقوة والهشاشة في آن واحد. المأساة التي تتناولها الرواية قد تبدو قصة ثلاث سيدات، لكنها في جوهرها مأساة مجتمع بأكمله؛ مأساة طفلة صغيرة، لكنها تعكس حجم العوار والخيبة التي نحياها جميعًا، وتكشف زيف الادعاءات حول تحرر مجتمع لا يزال غارقًا في ذكوريته المتجذرة مهما أنكر.
الزمن ليس مجرد خلفية سردية
كما قلت، المكان في الرواية بطل رئيسي، مثلث مكاني متكامل الأركان: بيت الجاز، الكوبانية، والمستشفى، كل ركن يحمل ذاكرة وشعورًا ورائحةً لا تُنسى، يفرض وجوده على الشخصيات، يسجنها ويحررها في آنٍ واحد. وكذلك الزمن، فهو ليس مجرد خلفية، بل بطل آخر يتحرك ويؤثر، يضع قيوده أو يمنح انفراجة في لحظات معينة، يظل متلاعبًا بالقارئ مثلما يفعل بالمصائر.
فاصل شفاف بين الحقيقة والخيال
ما يجعل هذا البناء الروائي فريدًا هو صعوبته، رغم سلاسته الظاهرة، لكنه دون شك كُتب بمجهود هائل، خاصة وأن الرواية تحتضن في داخلها رواية أخرى، وهي في حد ذاتها تحدٍ إبداعي كبير. الرواية تمزج بين الحقيقة والخيال بسلاسة، حيث تتابع قصة كاتبة تحاول كتابة رواية عن طفل أُلقي من النافذة وعن فتاة أحرقت نفسها، بينما تنكشف ببطء الأسباب التي دفعت لكل هذا الخراب.
بين الحقيقة والرواية هناك خط فاصل شفاف، تتلاعب نورا به ببراعة، تُمسك بخيوط الحكاية بإحكام، تعرف متى تُفصح ومتى تُخفي، قلمها ميزان دقيق بقدر موهبتها، لا تترك شيئًا للصدفة، بل تزن الأمور بعناية شديدة، لتقدم نصًا متكاملًا يجعل القارئ متورطًا في كل تفاصيله، عاجزًا عن الإفلات من تأثيره العميق.