إنجي محمود*
النظر في المرآة يُعَدّ أداةً عملية لتحسين المظهر وتعزيز الثقة بالنفس؛ فضبطُ الهيئة يُسهم في دعم الصحة النفسية ويُخفّف القلق والنقد الذاتي. فالمرآة نافذة على الذات، تُساعد على مواجهة المشاعر وتقبّل العيوب عبر التأمّل والمواجهة غير اللفظية.
أمّا بالنسبة للفنان، فتلك اللحظة التي ينظر فيها إلى نفسه في المرآة، يرى ما لا يستطيع الآخرون رؤيته؛ فيُمسك بفرشاته راغبًا في الرحمة والمغفرة والتواصل الصادق. تساعده أدواته أحيانًا على إعلان ضعفه وتقبّل ذاته، ممّا يُمهّد له طريق الشفاء الروحي عندما يعترف بخطاياه البشرية، الشعورية والشخصية، ويُسجّلها بكل ما تحمله من صراعات وتناقضات وتجارب، فتغدو هذه العملية وسيلةً للتأريخ الذاتي عبر السنوات العمرية.
فجميع لوحات فان جوخ الذاتية، على مدار حياته، تمكّننا من رصد توتّره الداخلي ومشاعره الخاصة؛ إذ كانت مادة توثّق حالاته المتعدّدة والبعيدة عن عالم الواقع، متجاوزًا بها الشكل الخارجي، لتطغى روحه بعمقها وتنزف عبر ضربات الفرشاة والألوان الصاخبة بكل تناقضاتها، كاشفةً مدى معاناته.

وأحيانًا يستخدم الفنان مهاراته التقنية الفائقة وقدرته على التعبير عن المشاعر الإنسانية لتصوير مراحل مختلفة من تقدّمه في العمر، من خلال الحكي الدرامي بالضوء والظل، ممّا يوجّه عين المشاهد ويُركّزها على النقاط المقصودة بالإشارة، كما فعل رامبرانت على مدار سنوات حياته.
أمّا أوتّو ديكس، فقد تميّزت رؤيته لنفسه بالواقعية القاسية والسخرية السوداء حدّ الفزع أحيانًا، ممّا أثار استياء جمهوره لبعض الوقت. مزج بين الدادائية والتعبيرية ليخلق تأثيره الخاص؛ فاهتمّ بتدمير القيم الفنية القديمة ليمنحنا تعبيرًا أكثر صدقًا في انفعاله ومضمونه. فلجأ أحيانًا إلى تشويه النِّسَب، وتضخيم الملامح أو تصغيرها لخدمة الانفعال العاطفي، كما اختار ألوانًا غير نمطية ليعكس الحالة المزاجية للشخصية بشكل مباشر ومؤثّر.
ومن أكثر الفنانين هوسًا بالبورتريه الذاتي نذكر الفنان النمساوي إيجون شيليه، الذي عاش حياة قصيرة لم تتجاوز ثمانيةً وعشرين عامًا، وأبدع خلالها نحو 3000 عمل فني على الورق و300 لوحة. كانت حياة فنية حافلة، بالغة التركيز، خصوصًا في فن البورتريه والبورتريه الذاتي على وجه الخصوص. ولعلّ نرجسيته ومعاناته النفسية دفعته إلى توثيق حالات الجسد في أوضاع غير مألوفة ومشحونة بالذعر؛ وقد اتُّهم في ذلك الوقت بالإباحية والإساءة للفن عندما صوّر نفسه عاريًا في العديد من الأعمال. أبرز من خلالها ضعفه وغرابته وألمه دون تردّد، حيث ركّز على حركة أصابعه المشوّهة، مع يدٍ عظمية طويلة شديدة النحافة، وجسدٍ مهزوم أمام مخاوفه في كل مرة دون خجل.
وعندما نذكر المعاناة، فلا بدّ أن نذكر فريدا كاهلو، الأكثر ألمًا، والتي رفضت وصف أعمالها بالسريالية، وقالت:
«لم أرسم الأحلام قط، لقد رسمت واقعي الخاص».

وربما يكون مصطلح الواقعية السحرية هو الأقرب لوصف أعمالها؛ إذ لم تُصوّر الواقع بحدّته وجفافه، بل منحته من دفئها وغرابتها الروحانية طابعًا خاصًا. كان لمرضها بالغ الأثر في استكشاف أفكارها حول النسوية ومفهوم الأنوثة، والإفصاح عن فلسفتها الشخصية من منظور مختلف عن أقرانها. فلا ينبغي اختزال شخصية كاهلو في ألمها، أو في علاقتها بالحيوانات والطبيعة التي اهتمّت بتصويرها في العديد من اللوحات، بل يجب الاحتفاء بالطرق التي سلكتها لفهم تلك المعاناة وبناء مسيرتها الخاصة.
ومن أبرز لوحاتها الفنية، الداعية إلى التمرّد والتفكّر، تلك التي صوّرت فيها نفسها بعد انفصالها عن زوجها دييغو ريفيرا بأشهر، وهي جالسة في غرفة وحيدة، ترتدي بدلة فضفاضة رمادية وقميصًا أرجوانيًا، ممسكةً بمقص في يد، وخصلة شعر في الأخرى، تنظر إلينا مباشرة في تحدٍّ. ويتناثر شعرها على الأرض، بينما ضفيرتها ملقاة في حجرها. ولعلّها كانت تتساءل:
هل يحبّنا الآخر بسبب شعرنا الطويل وجسدنا الناعم؟
وعن معايير الجمال التي يجب علينا مراعاتها لنحظى بالتقدير والحب.
لم تكن إشارة فريدا هنا مقتصرة على النوع أو الهوية وتعريفها فحسب، بل كانت إشارةً إلى الاستقلالية وقوة الاعتراف . ( أنا الحقيقية، التي قد تُخالف الصورة التي يراها الآخرون)
………………….
*فنانة تشكيلية مصرية
*نقلاً عن جريدة القاهرة . ديسمبر 2025















