جيهان عمر
بعد وفاة المخرج المسرحي محمد أبو السعود، قلت إنني لن أكتب مرة ثانية لأنعي أصدقائي، قلت إن القدر لن يأخذ صديقا آخر بهذه السرعة، ولماذا يبدأ بالطيبين لكي تنفطر قلوبنا أكثر أو لكي نعرف قيمة النقاء.
منذ أكثر من عشر سنوات لم أكن أعرف بهاء شخصيا، وفي أمسية شعرية في مكتبة الكتب خان بالمعادي، ذهبت مبكرا لأجد باقة جميلة من الورد الأبيض في انتظاري، قالت لي كرم يوسف صاحبة الدار مبتسمة إنها من دكتور بهاء عبد المجيد..دكتور بهاء الذي لا أعرفه..ثم حضر بهاء متحمسا، قارئا الديوان بعمق، مهتما أكثر مني، عارفا بكل التفاصيل المختبئة بين السطور، لم يكن بهاء يحضر ليجامل أصدقاءه وحده، بل كانت تسبقه دائما رائحة الجاردينيا كمقدمة شفافة لروحه النبيلة.. يرى بهاء أن كل من يكتب هو زميله في نفس الفصل، أما لو أعجبته كتابتك فقد أصبحت صديقه دون أن يكون لك دخل بالأمر، انخرط بهاء في حوار جاد عن المجموعة وكأنها ورقة بحثية سيشاركها طلابه في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة عين شمس غدا..كان قارئا شغوفا للأدب، عاشقا لتجارب كثيرة لا نعرف عنها شيئا..ومع ذلك تقبل بهدوء تكبر بعض فارغي القلب والعقل، ولم يتباهى بمعرفته التي تتراكم في جنة الشعر حتى أنني أتخيله الآن يبيت هناك في قصره الجديد.
كان يحب قراءة الشعر لكنه يكتب القصة والرواية بدأب حزين، لا يدري لماذا لا يحتفي الآخرون به كما يحتفي بهم، لكنه كان صابرا متسائلا عن خطأ ربما ارتكبه في حق هذا الوسط الأدبي ليتجاهل الاحتفاء بروايته الجديدة .. محبة عميقة يا بهاء كان يحملها لك كل من يعرفك لكنها ظهرت فور موتك المؤلم..غيمة من الحزن انفجرت وأغرقت الأصدقاء في دموعهم.. ندم الكثيرون على كتمان المشاعر والكلمات الطيبة التي تستحقها..حتى أن أحد النقاد كتب: رحيل صاحب الأعمال الأدبية المتميزة.. فتمنيت أن يكون قد عجل بهذه الشهادة قليلا ليقرأها بهاء قبل موته..كل مرة نقع في نفس الخطأ..تأجيل الاعتراف..كتمان مشاعر الحب والامتنان لملاك يجيئ في زيارة قصيرة ثم يغادر .
لم يكن يزور مصر صديق أو صديقة من بلد آخر، إلا وطلبت منك أن تحضر المقابلة..ليس لأنك تجيد الانجليزية..ولكن لأنك تفيض بالانسانية ..لن تتأمل أي شخص أبدا لترى إن كان يستحق أن تقدم له شيئا أم لا..هذه النظرة الاستعلائية ..التي تحاول أن تقرأ الأشخاص أولا..ثم تحكم عليهم ثانية..ثم تنسحب بعد ذلك أو تبقى ..هذه الاستراتيجية التي نفعلها بدون تفكير أحيانا..لم تكن تعرفها أنت..بل تفتح قلبك للمحبة في الصباح ..ثم تبدأ رحلة كفاحك اليومية بعد أن يدخل الجميع الى قلبك..ربما لهذا السبب أيضا تحملت الكثير من الأذى..محبة غير مشروطة في زمن كهذا تساوي أذى غير محدود أيضا.
حينما جاءت الشاعرة التركية هلال كاراهان الى مصر 2017 كانت تريد أن تقرأ قصائدها في مكتبة.. رحب رجائي موسى مدير دار “هن” بأمسية لم يخطط لها لضيق الوقت وانشغال الجميع بمعرض الكتاب، فطلبت من بهاء أن يدير اللقاء ويقرأ قصائدها بالانجليزية..وساقرأ أنا الترجمة العربية، لم يتعود أن يخذل أحدا، ربما يغير خططه كلها ولا يخبرك عنها حتى لا تشعر بأنك قد أثقلت عليه.. قرأ الديوان ليلا وجاء مستعدا ومتحمسا كأنها صديقة أخرى في كتاب الشعر.. ثم فاجأت الحضور المطربة مروة حفظ الله بغناء القصائد بعد ذلك بعد أن لحنتها ارتجاليا لأنها تقرأها للمرة الأولى..هذه الأمسية غير المرتب لها قال عنها الشاعر التركي بهادربايريل، إنها من أجمل الأمسيات الشعرية التي أقيمت لهلال، من سينقذنا الآن يا بهاء في أوقاتنا الضيقة ليحولها إلى براح أخضر.
في اليوم التالي صحبها وزوجها في جولة بمعرض الكتاب لأنني اعتذرت عن الذهاب ..قابلهم على باب المعرض..وجعلها تقرأ في أمسية مفتوحة للأجانب..فعادت ليلا لتخبرني سعيدة..ما هذا البهاء ..مازال عندكم ملائكة ..
أما ما فعلته لي فكان كثيرا.. بعد فترة من لقائنا الأول وفي العام 2009 جاءتني إقامة أدبية في كوريا الجنوبية لمدة ستة أشهر..ولأول مرة سأبقى طويلا في بلد غريب..أجهز أشياء كثيرة وكأنني أنقل حياتي ..طلبني بهاء معتذرا أنه يريد أن يراني رغم انشغالي..وبالفعل التقينا في وسط البلد ..لأجده قد ترجم عدة قصائد إلى اللغة الإنجليزية من ديواني الأخير، قال ستحتاجين نماذج من قصائدك هناك، لم أكن أملك بالفعل أية قصائد باللغة الانجليزية ..ولم أفكر في أهمية الأمر..لكن بهاء الذي عاش طويلا في أيرلندا أثناء إنجاز رسالة الدكتوراه ..يعرف أهمية أن تكون مستعدا بعملك مترجما..أو على الأقل تملك بعض الترجمات..هكذا كان هو ..لم يكن كريما بالمعنى الذي نعرفه ..أن يعطيك حين تطلب ..بل كريما بالمفهوم النادر..أن يعرف ما ينقصك ويقدمه لك دون أن تطلب..أحيانا لا يقدم ما ينقصك بل يقدم أيضا ما يبهجك..يذهب سريعا ليحضر فرحة صغيرة ويقدمها لك.
كتب الشاعر محمد خير بالأمس أن بهاء انسحب من تجمع صغير بدار ميريت للنشر..لأنه علم أن اليوم هو عيد ميلاد خير..أحضر كعكة صغيرة وشمعة ..فقط ليضيف البهجة.. مهمته الأولى التي جاء الى الكون ليحققها.. ليفرح خير بلمسة رقيقة يتذكرها الآن بعد وفاته بمحبة، كل من عرفك يتذكر الآن الورود التي أرسلتها..المحبة التي قدمتها للغرباء والأقرباء.. مد يد العون حتى لمن آذاك لسبب أو لآخر..لم تكن تعرف الا أن تسامح..
في كوريا هذا البلد الغريب..كان الجميع يطلب مني قصائد مترجمة للإنجليزية حتى يستطيعوا ترجمتها الى الكورية..كل أمسية أو مهرجان كانت ترجمتك هي الوسيط إلى عالم آخر..كنت أحتفظ بالأوراق حتى بعد أن حفظتها على الكمبيوتر.. وكأنني بهذه الطريقة أحمي نفسي من أن أضيع هناك وحدي في بلد لا تعرف لغتي.
عزائي الآن أنني التقيتك فور خروجنا من العزلة ..كان الخوف مازال مسيطرا علينا من جراء هذا الفيروس الذي سيختارك بعد ثلاثة شهور بالتمام لتكون واحدا من ضحاياه، ضحكت كثيرا وأنا أخرج كأسي الخاص الذي سأشرب فيه الشاي من حقيبتي، كنت هادئا ومرتاحا رغم حزنك على فقد أخيك قبل عدة أشهر..أخبرتني أنك أحببت هذه العزلة..وأنها كان يجب أن تحدث لسبب أو لآخر..قلت لي إننا كان يجب أن نتوقف عن الجري المستمر حتى لو كان توقفا اجباريا..لنأخذ نفسا عميقا.. قلت كان مهما جدا أن أرتاح.. أمنيتك الأخيرة وقد تحققت.