بماذا يخبرنا تورجينيف عن “الحب الأوّل”؟!

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 36
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

وبعد ذلك بستّة أشهرٍ مات أبي بالسكتة القلبية في بطرسبورج التي كنا قد انتقلنا إليها من عهدٍ قريب. وكان قبل وفاتِه ببضعةِ أيامٍ قد تسلَّم خطابًا من موسكو أقلقه إقلاقًا شديدًا، فذهب إلى أمّي وسألها شيئًا ما، بل يُقالُ إنه بكى – أبي بكى، وفي صباح اليوم الذي أُصيب فيه بالسكتة شرع يكتُبُ لي خطابًا بالفرنسية: “يا بُنَيَّ احترس من حُبِّ المرأة، احترس من تلك المتعة، من ذلك السُّمّ“.

     تأتي هذه الفقرة قُربَ نهاية الترجمة البديعة التي أنجزَها رمسيس يونان لرواية (الحُبّ الأول) لإيفان تورجينيف (9 نوفمبر 1818 – 3 سبتمبر 1883)، أحد أهمّ مؤسسي الأدب السردي الروسي في القرن التاسع عشر، والذي حلّت الذكرى المائتان لميلادِه في التاسع من نوفمبر 2018، حيثُ بدأت روسيا الاستعداد للاحتفال بها منذ أربعة أعوام.

* موجز الأحداث:    

     في منزل أحد الأثرياء، بعد انتهاء وليمةٍ بعد منتصف الليل، يبقى مع رب المنزل اثنان من أصدقائه المدعوين للوليمة: (سيرجي نيكولايفيتش) و(فلاديمير پتروفتش). اتفق الثلاثة على أن يروي كلٌّ منهم قصة حبه الأول. نكتشف أن ربَّ المنزل (المُغفَل من الاسم) وصديقه (سيرجي) عوّلا على صديقهما (فلاديمير) في أن يروي حكايتَه، لأنَّ (سيرجي) – كما يقول- بدأ مباشرةً بالحُبِّ الثاني، حيث بدأ وهو في الثامنة عشرة يتودد إلى فتاةٍ ما لكنّه تصرَّفَ كما لو لم يكن في الأمر شيءٌ جديدٌ عليه وكما بدأ علاقته بغيرها فيما بعد، ولأنه لم يحب حُبًّا حقيقيًّا إلا وهو في السادسة حين أحبَّ مُرَبِّيَتَه، لكنه نسي تفاصيل علاقته بها ولا يعتقد أنه لو تذكرها ستكون مهمةً لأحد. كذلك فصاحب الدار يقول إنه ليس هناك شيءٌ يستحق الحَكي في علاقته بزوجته الحالية التي دبر ارتباطَه بها والداه. وهكذا يتسلّم (فلاديمير) بطلُ الرواية دفَّة الحكي ويخبر صديقيه بأنه سيكتُب حكايتَه ويتركهم يقرأونها لأنه لا يُجيدُ الحَكي.

     يحكي فلاديمير عن انتقالِه وأسرته إلى منزلٍ خارج موسكو بينما كان في السادسة عشرة، ونزول أسرة (زاسكين) في المنزل المتاخم لمنزلهم، وهي أسرةٌ تتكون من أرملة أمير فقيرة وابنتها الفاتنة (زنيدا) التي تكبُرُه بخمسة أعوام. تقع عينا فلاديمير على زنيدا بالصدفة في ليلةٍ هادئة، وهي تلعب لعبًا صاخبًا مع عدد من الرجال في فِناء منزلها، ويقع في غرام جمالِها الاستثنائي. يخبرنا فلاديمير بأن أباه (پيوتر ڤاسيليڤيتش) الرجُل الصارم الواثق من نفسه كان قد تزوج أمَّه التي تكبره بعشرة أعوامٍ طمعًا في مالِها ونفوذ أسرتِها. يَحدُث أنّ الأميرة الأرملة التي تمرُّ بصعوباتٍ ماليةٍ شديدةٍ تستنجد بأُمّ (فلاديمير) للوقوف إلى جوارها في أزماتها المالية، وتبدأ أسرة الأب ڤاسيليڤيتش في استقبال الأميرة وابنتها. تكرر أمُّ فلاديمير أمام ولدِها التعبيرَ عن عدم ارتياحها لزنيدا وازدرائها لأمّها التي لا تتصرف كأميرة.

     يبدأ فلاديمير في التردد على منزل زاسكين، ويَحضُرُ المقابَلاتِ الماجنةَ التي يستضيفُها المنزلُ بين زنيدا ومُريديها. تتمحورُ هذه المقابلاتُ حولَ ألعابٍ مُختَلِفةٍ تبتَكِرُ بعضَها (زنيدا)، تكونُ هي مركزَها ولا تتحرّج خلالَها من السخرية من عُشاقِها، فهم مثَلاً يلعبون لعبةً أشبهَ بلُعبةِ (الشّايب) في الكوتشينة، تمتلئ بالعقوبات، وحين تكونُ العقوبةُ مِن نصيبِ زنيدا، يُطلَبُ منها أن تقفَ ساكنةً كالتمثالِ، فلا تتحرّجُ (زنيدا) من اتخاذِ قاعدةِ التمثالِ مِن جسدِ الكاپتن المتقاعد (نيرماتسْكي). تدريجيًّا، يتحول إعجاب فلاديمير إلى عشق، وتبدأ زنيدا في اللهو بمشاعر عاشقِها الأصغر فتُقَرِّبُه مرّةً إلى درجة تقبيلِه، وتتجاهلُه مرّاتٍ كطفلٍ صغير.

     يحدُثُ تحوُّلٌ كبيرٌ في شخصيةِ (زنيدا) بشكلٍ مُباغِتٍ لفلاديمير، حيث تصبح ميّالةً إلى الهدوء والتأمُّل والعُزلة والبكاء أحيانًا، بعد أن يسألَه أبوه عن طبيعة ما يحدث من مقابلاتٍ في منزل زاسكين. نكتشف مع فلاديمير أنّ زنيدا تقع في غرام أبيه. قُربَ النهاية، تكتشف الزوجة الثريّة أمُّ فلاديمير خيانةَ زوجِها مع زنيدا، وتقرر أن تترُك البيتَ إلى منزلهم القديم داخل موسكو. ترحل أسرة فلاديمير بالفِعل ويقع في ظنّ العاشق الصغير أنه لن يرى عشقه الأول مرةً ثانية، لكنّه ذاتَ يومٍ يخرج مع أبيه على ظهرَي حِصانَين للتنزُّه والتسابُق، حتى يصلا إلى مكانٍ معيَّنٍ، فيتركه أبوه وقتًا مع الحصانين ويذهب في طريقٍ مهجورة، وحين يَمَلُّ فلاديمير البقاءَ وحدَه يَهُبُّ في أَثَرِ أبيه، ليراه واقفًا أسفلَ نافذةٍ تُطِلُّ منها زنيدا وهو يوجِّه لها أوامرَ غاضبةً ثُمَّ يَضرِبُها بِسَوطِ الرُّكوب على ذراعِها ويَصعَدُ إلى غرفتها ليبقى وقتًا ثم يَنزِلُ ليلحقَ بوَلَدِه الذي أسرع هاربًا حين رأى هذا المشهدَ على حين غفلةٍ من العاشِقَين.

     تنتهي الرواية بمقابلةٍ بالصدفة بين فلاديمير والشاعر مايدانوف/ أحد الرجال الذين كانوا يترددون على مقابلات زنيدا الماجنة، وذلك بعد موت (پيوتر ڤاسيليڤيتش) وتخرُّج فلاديمير عَقِبَ  مرور سنواتٍ على ذروة الأحداث. يخبر (مايدانوف) بطلَنا بأنّ زنيدا تزوَّجَت بعد فضيحتها مع أبيه، وأنها تقيم في فندقٍ وقد أصبحَت أجمل بكثيرٍ من ذي قَبل. يثور العشق القديم في قلب فلاديمير فيقررُ الذهابَ لزيارة زنيدا، لكن تطرأُ عوارضُ (لا يخبرُنا الراوي بتفاصيلِها) تؤجِّل زيارتَه هذه أكثرَ مِن أسبوع، وحين يَذهَبُ أخيرًا للزيارةِ يَكتَشِفُ على باب الفندقِ أنها ماتت منذ بضعة أيامٍ أثناءَ المَخَاضِ، فيُصابُ بحُزنٍ شديدٍ مختَلِطٍ بالندم على تأجيلِه زيارتَها وتفويتِه فرصةَ أن يراها للمرة الأخيرة.

* أين بالضبط الحُبُّ الأول؟!

     يُفترَض أنّ فلاديمير يحكي حكايةَ أول حُبٍّ في حياتِه، وهذا ما يقرره في بداية الرواية من خلال الحيلة السّرديّة التي اختارها المؤلف، حيث يكتب لرفيقيه ما يفشَل في حكيِه مُشافَهة. لكننا من سياق الرواية نتبيَّنُ أنّنا بإزاء حكاية الحب الأول لزنيدا الفاتنة التي تعاني وقوعها في غرام رجل متزوِّج في مجتمَع محافِظ هو المجتمَع الروسي في بدايات القرن التاسع عشر، فتتبدَّل شخصيتُها العابثة إلى شخصية فتاةٍ حزينةٍ مهمومةٍ معظمَ الوقت، وترضخ لسطوة حبيبِها لدرجة أن تحتمل ضربةَ سَوطِه بعد أن كانت تَكِيلُ الإهانات لعُشّاقِها كما ينبغي لفتاةٍ لَعُوبٍ أن تَفعَل.

     كذلك، لا يَصعُب أن نميِّزَ في الروايةِ الحُبَّ الأول للأب پيوتر ڤاسيليڤيتش، الذي لم يتزوّج أُمَّ ابنِه التي تكبُرُه بعشرة أعوامٍ إلاّ لمطامع ماليّة واجتماعية، والذي تحوَّلَت هيبتُه ووثوقُه بنفسِه هو الآخَر على إثر وقوعِه في حب زنيدا فأصبح يبكي أمام زوجتِه، وحين ترك خطابًا لوَحيدِه، حذَّرَه فيه من الحُبّ كما جاء في الاقتباس الوارد في مقدمة المقال. ويعضِّدُ استنتاجَنا بخصوص إزاحة عنوان الرواية من حكاية فلاديمير الشخصية إلى حكاية أبيه ومعشوقتِه أن فلاديمير نفسَه قُربَ نهاية الرواية يقول: “بدا لي حُبِّي أنا بعواصفِه وآلامِه إذ ذاكَ أمرًا صبيانيًّا تافهًا بالقياس إلى ذلك الشيء المجهول الذي كنتُ لا أستطيع أن أدركَ من كُنهِه سوى بعض الفروض والتكهُّنات، ذلك الشيءَ الذي يُرهِبُني كوَجهٍ غيرِ مألوف، جميلٍ ولكنه متجهِّم، يسعى المرءُ عبثًا أن يتبيَّنَه وسط غياهِب الليل”.

     فضلاً عن ذلك، هناك الروايتان البديلتان اللتان ادَّخَرَهما تورجينيف لخيالِنا في بداية السَّرد، فهناك رواية صاحب المنزل والوليمة عن علاقتِه بزوجتِه التي دبَّرَ زواجَه بها والداه. هي أولُ امرأةً في حياتِه، ولم تمُرَّ بعلاقتِهما – حسبَ زعمِه – أية عواصف. فهل بالفعل تخلو مثل هذه العلاقة ممّا يستحقُّ الحَكيَ أم أنّ الرجُل كَسُولٌ فقط أو غيرُ واثقٍ في قُدرتِه على الحَكي، أم أن فضولَه لمعرفة حكايات أصدقائه يغلبُ نوازع الحَكي لديه؟ وهناك أيضًا رواية الضيف الآخَر سيرجي نيكولايفيتش الذي أخبرَنا في إيجازٍ شديدٍ بوقوعِه في غرام مُرَبِّيَتِه وهو في السادسة، وبتصرُّفه مع أول امرأةٍ تدخلُ حياتَه في شبابِه كما لو كانت حُبَّه الثاني، فهل تخلو رواية الصبي والمُرَبِّيَة بالفعل ممّا قد يجذبُنا للقراءة؟ وهل رباطةُ جأش سيرجي في تعامُلِه مع فتاتِه الأولى تعني أنها ليست حُبَّه الأول؟ يجرُّنا هذا إلى السؤال التالي:

* ما شكلُ هذا الحُبّ الأول؟!

     انطلاقًا من مفهوم (فرويد) عن التوحُّد الجزئيّ الثانوي Partial Secondary Identification – والذي يعني إعجابَ الإنسان بصفاتٍ معينةٍ في أشخاصٍ بعينهم خلال المراحل المبكرة من حياتِه فيتوحد معهم بشكلٍ جزئيٍّ، وتتولّد من سلسلةٍ من هذه التوحُّدات صورة الذات Ego – ومفهوم (چاك لاكان) عن المُتَخَيَّل The Imaginary – بمعنى الهويّة الموحَّدة التي يكوِّنها الطفل لنفسِه بالنظر في المرآة، والتي تحُلُّ محلَّ إحساسه بجسِده المُجزَّأ Fragmented Body – يمكننا أن نتصوَّرَ أن وقوع الإنسان في الحبّ الأول يأتي نتيجةَ توحُّدِه مع صفاتٍ بعينِها في الشخص الذي ينصَبُّ عليه هذا الحُبّ، فضلاً عن توفُّر صفاتٍ بعينِها في هذا الشخص، تعكس صفاتٍ مضادةً في المُحِبّ، وبهذا يتلبّس المحبوب دور مرآةٍ محدّبَةٍ من نوعٍ خاصٍّ في حياة المُحِبّ، تبيِّنُ له صفاتِه الخاصة المميِّزة أكبرَ ممّا هي، فيتعمّقُ إحساسُه بمزاياه الشخصية التي تكوِّنُ جانبًا مهمًّا في هُوِيَّتِه. وفي الحالة التي بين أيدينا في هذه الرواية، مثَّلَت زنيدا هذه المرآةَ لفلاديمير، بكل حيويتِها الأنثوية التي ضخَّمَت إحساسَه بذكورته الخشنة، فكانت بالتالي هدفًا معقولاً جدًّا ومتوقَّعًا لتوجيه شعوره بالحُبّ الأول، هو الذي نشأ في أسرةٍ محافِظةٍ مغلقةٍ كما يحكي هو نفسُه في ثنايا الرواية. كذلك كان پيوتر ڤاسيليڤيتش بصرامتِه وخشونتِه الرجوليّة هو المرآة التي ضخَّمَت إحساسَ زنيدا بضعفها واحتياجِها إلى رجُلٍ مثلِه.

     فهل نَخلُصُ من هذا إلى أنّ الحُبَّ الأولَ يَحدثُ حين يصادفُ الإنسانُ تلك المرآةَ المحدبَة التي تجعلُه يرى هُوِيَّتَه الشخصية بوضوحٍ أكثرَ من ذي قَبل؟ هل يتفق هذا الاستنتاجُ ورؤيةَ تورجينيف؟!

     في تقديري أنّ اختيار أسماء الأبطال في الرواية قد يعضِّد هذا الاتّفاق. فالرجُل الصارم الذي وقع في الحُبّ فجأةً هو (پيوتر) وهو المقابل الروسي لـ(پيتر/ پِتر/ بطرس) المأخوذ من اليونانية بمعنى الصخرة، وهو ما ينسحب في المسيحية على بطرس تلميذ المسيح، الذي يُعَدُّ الصخرةَ التي بُنِيَت عليها مؤسسةُ الكنيسة في العُرف المسيحي. والفتاة اللعوب الفاتنة التي يتمناها الجميع هي زنيدا Zenaida وهو اسمُ موجودٌ بتنويعاتٍ عديدةٍ في اللغات الأوربية، مشتقٌّ من اليونانية هو الآخَر، ويعني: المنسوبة إلى (زيوس Zeus) كبير آلهة الإغريق، فهي بهذا أقربُ إلى وثَنٍ لإلهةٍ مُبهِرة. وربما تتجاوب هذه القراءة مع مشهد زنيدا وهي تقفُ كتمثالٍ فوق قاعدةٍ بشريةٍ من (نيرماتسكي) منبطحًا على وجهِه. فوضع الصخرة الصلبة في مواجهة الوثَن المُغوي هو وضعٌ حافلٌ بالإلهام بالتأكيد. هو اختبارٌ للإيمان بالذات واستكشافٌ أعمق لهذه الذات.

أما (فلاديمير Vladimir) فهو أحد أشهر الأسماء السلافية، وفي تخريجِه الإتيمولوجي الأشهر يَعني القُوّة العظيمة أو مالِك العالَم. فهو اسمٌ طَموحٌ يليق بشابٍّ ساذَجٍ يَحلُم بامتلاكِ سعادةٍ لا قِبَلَ له بها. يبقى أن نقول إنّ هناك احتمالاً أنَّ اختيارَ الأسماء جاء اعتباطيًّا رغم قراءتنا، إلاّ أنّ حضور أديبٍ في قامة (تورجينيف) يظلُّ مُغريًا بافتراض القصديّةِ في كلّ التفاصيل.

* استطراد: الحب الأول وسؤال النضج:

     لا يغيبُ عنّا أن فلاديمير في ثنايا حكايته يسخر من نفسه في تلك السن المبكرة، فيقول في فقرةٍ ما: “غير أن عطيل المسكين قد بكى في المساء بكاءً مريرًا بين ذراعَي زنيدا عندما لَقِيَته في زاويةٍ منعزلةٍ من زوايا الحديقة”. هنا يشير إلى نفسه باسم (عطيل) بطل مسرحية شيكسپير، وكأنه يريد أن يُضحكَنا من مشاعر هذا الصبي الذي كانَه. تتجاوب هذه الإشارة مع الفكرة الشائعة عن الحب الأول باعتباره مجرد حماقةٍ من حماقات الصِّبا. وبشكلٍ أوسع، تتجاوب مع فكرة السببية النهائية Final  Causality التي يَنظر من خلالها أرسطو إلى الطفولة، باعتبار الطِّفل مجرد عيّنة من الشخص البالغ الذي سيكونُه حين يَكبُر، وبالتالي فالطفولة هي مجرد مَخزن للنقائص التي لا يحبُّ البالغون أن يتّصِفوا بها. وهو التصوُّر الذي عضَّدَه وكرَّسَه أحد أعلام علم النفس الارتقائي وهو السويسري چان پياچيه Jean Piaget، حيث ربط النمو بمراحل واضحة من التغيُّر البنيوي في الإنسان. وينبهنا الفيلسوف الأمريكي جارِث ماثيوز Gareth Mathews (1929- 2011) في مقاله (الفلسفة وعلم النفس الارتقائي: تجاوُز تصوُّر الطفولة باعتبارها نقصا) إلى ما في تصورَي (أرسطو) و (پياچيه) الشائعَين من إجحافٍ بحقِّ الطفولة، وتجاهُلٍ للقدرات التي يتمتع بها الطفل وتضمحِلّ لدى البالغين، ومنها القدرة على تعلم لغةٍ ثانيةٍ مثَلا.

والشاهد من هذا الاستطراد: هل نأخذ الفكرة القائلة بأن الحُبَّ الأَوَّلَ مُجَرَّدُ حَماقَةِ صِبا وعدم نُضج باعتبارِها مُسَلَّمَة؟ أم نأخذ صفَّ (ماثيوز) ونقول إنه ربما كان في خبرة الحب الأول بصيرةٌ وقدرةٌ وإرادةٌ لا تتوفَّر لخبرات الحب التالية التي يعيشُها الإنسان ولا يخلع عليها لقب الحماقة؟!

* كلمةٌ ختاميةٌ لتورجينيف: الحب الأول فوق الإدراك:

     يخبرُنا (دِافيد مَجَرشاك) – المترجم والمؤرّخ الأدبي البريطاني المتخصص في الأدباء الروس – في كتابه عن تورجينيف، أنّ هذه الرواية القصيرة تُعَدُّ الأقربَ إلى السيرة الذاتية للمؤلِّف، حيث تقوم زنيدا مقام (كاثرين شاكوفسكي) جارة (إيڤان تورجينيف) التي وقع في غرامِها صَبيًّا، حتى اكتشفَ أنها عشيقةُ أبيه!

     ولعلَّ هذا يفسِّرُ لنا اختيارَ تورجينيف السَّردَ مِن وجهة نظر المتكلِّم من البداية، وتحاشِيَه المُضِيَّ قدُمًا مع الراوي العليم فيما وراء المشهد الافتتاحي في منزل الثريِّ صاحب الوليمة. كذلك فإنّ الاقتباس الوارد أعلاه “بدا لي حُبِّي أنا بعواصفِه وآلامِه إذ ذاكَ أمرًا صبيانيًّا تافهًا بالقياس إلى ذلك الشيء المجهول…إلخ” يكرِّس حقيقةَ تسليم (تورجينيف) بأنّ حيثيات العلاقة السرّيّة التي نشأَت بين والِدِه وحبيبتِه كاثرين (پيوتر وزنيدا في الرواية) تبقى متعاليةً على أية مقاربةٍ قام بها أو نقوم بها من بعده لفهم الحُبّ الأول.

    

     في كتابه (مشكلة الحُبّ)، يقترح أستاذنا الدكتور زكريا إبراهيم تسمية العصر الذي نعيش فيه (عصر الحُبّ)، إضافةً إلى أسمائه الأخرى (العصر الذري – عصر المعلومات – إلخ)، وذلك أنَّ أخبار علاقات الحب وما يَنتُجُ عنها مِن زواجٍ وطلاقٍ وانفصالٍ وفضائحَ بين المشاهيرِ فضلاً عن أعمال الفن التي تتناول الحُبَّ موضوعًا رئيسًا تستحوذُ على نصيبٍ من متابعة الناس في وسائل الإعلام، ربما يكون النصيب الأكبر بالفعل. كما يُورِد في تصديرِه للكتاب رأي الكاتب الفرنسي فرانسوا دي لاروشفوكو François de La Rochefoucauld (1613-1680): “لو لم يكن الناس قد سمعوا الكثيرَ عن الحُبّ، لَما قُدِّرَ للكثيرين أن يقعوا صرعى لما نسمِّيه بالحُبّ”. وهو رأيٌ ربما ينطوي على مبالغةٍ، لكنه لا يخلو من صوابٍ إذا أخذنا في اعتبارِنا أثر البيئة الاجتماعية في تشكيل سلوك الأفراد ومعتقداتِهم وبواعثهم النفسية. والمتأمل لهذا الرأي قد يصل إلى نتيجةٍ مَفادُها أن الحُبَّ الأولَ بدَورِه وهمٌ كبيرٌ يخلقُه الناسُ لأنفُسِهم باقتطاع لحظاتٍ من تيار الحياةِ المتّصِل وإضفاء قداسةٍ غير مستحقَّةٍ عليها. لكننا في النهاية لا نملك إلا أن نتّفق مع فلاديمير/ إيفان تورجينيف حين يقول: “ولستُ أحبُّ أن أُمتَحَن بكل هذه التجارب مرةً أخرى، ومع ذلك فما كنتُ لأَعُدَّ نفسي رجُلاً سعيدًا لو أنني لم أَكتَوِ بها”.         

مقالات من نفس القسم