رواية “كاتيوشا” .. وتفكيك مشاعر الأنثى

كاتيوشا
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

رزان نعيم المغربي 

   تبدأ الرواية من لحظة انطلاق رصاصة مجازية،  من  فم الزوج باتجاه قلب ورأس الزوجة والحبيبة  عندما قال : “أحب واحدة غيرك. “ ثم  يتابع معترفاً أنها  صديقتها.

لطالما  تفنن الروائيون في  كتابة استهلال لنصوصهم، بعض تلك الأعمال أصبحت  الافتتاحيات محل  درس وتوثيق. إذاً لنتفق أن ما فعله وحيد طويلة، هو إيقاع القارئ في الفخ، وسحبه بقوة العبارة   ليلهث  متابعاً ما يجري من أحداث.

  هذا العمل المتقن، ومن صفحاته الأولى، دعاني للتوقف مرتين للتأمل، أسترد  في تأملي الأول  مناخ رواية لم تعرف على مستوى البلاد العربية كثيراً، وهي زهرة الصبار لعلياء التابعي من تونس، وموضوعها بعيد كل البعد عن رواية كاتيوشا، لكن علياء التابعي تمكنت من إدارة مونولج طويل وبلغة مشحونة ومشاعر الغضب تتفجر بين السطور، مشكلة الرواية وعدم رواجها كان لصعوبة الدارجة التونسية التي  حفلت بها، وقد أجادت صاحبة زهرة الصبار في نقل مشاعر المرأة المغدورة بالخيانة على المستويين الخاص والعام  والمجهضة أحلامها بصفتها أنثى ومواطنة تحلم بالحرية، اللغة الغاضبة ليست بتلك اليسر الذي نعتقده، بحيث تتمكن من لحظة وصولها للمتلقي تصنع إعصار مدمر. ينسف كثير من المفاهيم ويعيد  صياغتها مجدداً،  ولهذا السبب وجدت أن نص  كاتيوشا من  بدايته حاملا معه نبؤة أعاصير متتالية، لم تخمد ولم تتوقف على مدى الصراع الذي  تعايشه مشيرة الزوجة بعد اعتراف  زوجها رشيد.

كانا في  طريقهما إلى المطار، وقد تقرر أن يسافر إلى دبي لينهي تعاقدهما هناك ويعود إلى القاهرة حيث تنتظره الزوجة، التي قررت أن لا تنجب وأن لا تكتب من أجل حبيبها الكاتب، أن تبقى الأضواء مسلطة على نجاحه، وانسحبت إلى الوراء لتصفق له ، وتراعي  حتى صداقته النسائية، متفهمة وضع نجوميته في عالم الأدب.

الرواية تتحدث بصوت وأحاسيس ومشاعر المرأة، الأنثى التي لم تتوقع لحظة غدر، لكنها لم تتمالك نفسها لحظة إعلان حبه لآخرى، اندفعت بكل  قوتها لتقبض على عنقه، وتبدأ الأحداث  تتعمق في  تعقيدات المشاعر الإنسانية والعلاقات والمنعطفات غير المتوقعة التي يمكن حدوثها في حياة البشر، على خلفية تلك القفزة الغاضبة وحادث السيارة المأساوي، ويذهب القارئ في رحلة جديدة متلهفاً لمعرفة الحقيقة التي ستبحث عنها الزوجة، بعد أن يصاب الكاتب الزوج بغيبوبة طويلة راقداً على سريره في المشفى. 

بأسلوب  ماهر يكشف لنا وحيد طويلة عن زوايا الحب المظلمة، والزوجة تروي وتعترف بهشاشة الثقة وعمق الرغبات الإنسانية، ويقدم خريطة لعالم مشاعر المرأة، كيف  تتقلب بين فكرة وآخرى، بين صورة وبين حدث يمر سريعاً ،  ببراعة وبشكل سلس تتقدم المشاعر المختلطة لتبني السرد  على حساب الأحداث التي اعتدنا أن يقوم عليها المعمار الروائي، أخذ يفكك تلك الضبابية الكثيفة التي أغلقت عين المرأة الواثقة بشريكها وحبيبها   من خلال تداعي ذاكرتها  بحيث   يصبح مثل فتيل قنبلة يدوية، وفي كل  لحظة شك تعتريها تكاد تنفجر في وجهها ، مستعرضة وجوه صديقات أعطت لهم الساردة  صفات وليست أسماء لمعرفة من تكون المجهولة التي لم يسعفها الوقت بسبب الحادث،  وبأسلوب رشيق يتم وصف المرأة المتهمة مع ما يميز العلاقة  بالزوجين دون إغراق في التفاصيل، فقط حدث ليشحن  مشاعر الغضب قبل أن تبرد، فالنص قائم على إيقاع ألم الخيانة ومايتبعها من  تصرفات  لا يلتمس للعقل دور فيها بل العواطف   تقودها متتبعة هواجس  تنبت في رأسها فقط، ومع أول  مواجهة تنطفئ النيران المشتعلة كلما خابت ظنونها في أن تكون أحداهن المقصودة، وفي ذات الوقت تقود  صراعاً داخلياً لمواجهة الذات، وكأنها في رحلة البحث عنها، ومع  الخيبة الأولى  والثانية والثالثة كل مرة تتجدد رغبتها في الوصول إلى الحقيقة ، هنا يمازج وحيد طويلة بين المعنى الظاهر  والباطن، بين هل كانت  صادقة وتريد مواجهة مع المرأة التي  احتلت  قلب الزوج؟ أم أن من خلال تلك المعرفة تسعى لكشف  ماتريده هي ؟ ماهي نقاط ضعفها وقوتها؟ والدليل أنه في اللحظة التي  تأكدت من وجود تلك المرأة الصديقة، تعاملت معها ببرود شديد،  اتفقتا على الفور لتقاسم  الأدوار في رعاية الزوج/العاشق في المشفى، اقتربت من العدو المفترض ونامت في بيتها،   لنشهد منعطف جديد على مستوى المشاعر التي تتحول  من الغضب إلى مخاوف وتهيؤات ترتسم في مخيلتها.

يتجلى الفن السردي الذي يتلاعب بتوقعات القارئ، في هذا الفصل، وهو يبرز الزوجة مرتاحة للعثور على المرأة، ويبدو كأن الرحلة انتهت ووصلت إلى  قرار ما، ثم تأتي المفاجآت القريبة من الواقع الإنساني، بتصوير مشاهد من رؤى وخيالاتها وأحلامها أثناء النوم القلق وأسئلتها الحارقة التي لم تعد  تفارقها، مثل الاتفاق على التخلص  من الزوج، أو أن تقتلها تلك العشيقة وهي  نائمة في سريرها، هذه الانعطافات الحادة دائما هناك مواقف تبررها، بل تكاد تكون حقيقية ومقنعة لي بصفتي إمرأة  قارئة، تتفهم مشاعر المرأة وهي  تواجه آخرى تريد انتزاع مكانتها من  قلب زوجها.    وتتوطد العلاقة  بين الغريمتين  لتصبح نقطة تحول في العلاقة، ورحلة أوسع للفهم عن معنى الصداقة والحب والزواج.

مما يلفت الانتباه  وربما يستحق  دراسة تحليلية عميقة، هي صور النساء اللواتي كن محط ريبة، كل  واحدة منهن تتمتع بشخصية تختلف عن الآخرى من حيث المظهر  والتفكير والظروف الإجتماعية المحيطة بها، ولكن تجمعهن  صفة بارزة وهي قوتهن في  تحدي ما يعيق تحقيق طموحاتهن. حتى وأن كانت الزوجة الساردة تعاني  من لحظة  ضعف إنساني  جراء الخديعة، لكن تعرية مشاعرها أمام  القارئ مبني على شجاعة وقوة المرأة التي ستقدم على اتخاذ قرار مصيري.

وعلى مدى ما يقارب 147  صفحة،  يسيطر صوت الراوية بضمير المتكلم، وهو الأكثر عمقاً للتعبير عما يدور من  صراع  داخلي..

وهنا يأتي التأمل الثاني بالنسبة لي، واستدعي رواية حنا مينة الولاعة، وهي من بين الروايات النادرة التي لم البحر بطل رئيس فيها، وأيضا لم تلفت نظر النقاد حسب علمي، رغم أن الرواية تحكي أيضا مونولوج طويل لشاب على عتبة تجاوز  سن المراهقة، يعيش ليلة كاملة في صراع  بين الفضيلة وبين الاقتراب  من اللذة المحرمة التي تنام  قريبا منه. وتجري أحداثها في زمن  قياسي ليلة واحدة، أجاد الكاتب الكبير حنا مينة في رسم الصراع والمشاعر المضطربة للشاب، معتمداً على قلة الشخصيات ،  وعدم التشعب في  الأحداث، وهذا ما لمسته في كاتيوشا،  ذلك الفن في القبض على حواس القارئ، من خلال صوت واحد يروي لنا ما يعتمل في داخله من حروب ومعارك ما أن تخفت حدتها، حتى تنهض  من جديد.

  “كاتيوشا”وحيد طويلة هو استكشاف مثير  لبراعته في تقمص  مشاعر المرأة، فلم  يبالغ في الوصف ولم يستطرد في الإنشاء،  بل  كانت اللغة طيعة،  وكأنها نزلت على السطور بمقياس المعادن الثمينة، لتخرج  بصياغة محكمة ، منتصراً لجمالية الفن في سرد  شيق،   وبمهارة استطاع الاستحواذ على انتباهة القارئ لمعرفة إلى أين  ستنتهي  عواصف الشك والارتياب التي لاحقت الزوجة، وأعترف أن الخاتمة كانت مفاجئة ولم أتوقعها .

في الختام أتذكر صديقة فرنسية تعمل  محررة في  دار نشر،  أخبرتني في أحد المرات  وهي تعلق على نص فيه تكثيف للمشاعر الإنسانية، قائلة: هل تعلمي أن القارئ اليوم هذا مايبحث عنه ؟

أجل أصدق ذلك، شخصياً مع عالمنا المضطرب صرنا نبحث عمن  يتحدث عن مشاعرنا يفككها ويعيد  ترتيبها من جديد. وهذا بالضبط مافعله وحيد طويلة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائية ليبية 

مقالات من نفس القسم