بلورات براقة غير مرئية

noha mahnoud
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

نهى محمود

مات إنزو ستايولا الطفل الذي قام بدور برونو ريتشي في فيلم “سارق الدراجة”، فكرت أنه عندما وصل لسن ال85، جاءته الفرصة ليعود مرة أخرى ويلعب دور برونو فوق دراجته في مكان آخر.

وغادر وحيد القرن الأخير من هذا العالم، في مكان ما قرأت الخبر، هكذا لم يعد وحيد القرن جزءا من هذا العالم بعدما مات الذكر الأخير الذي تبقى مع اثنين آخرين لم يكونا قادرين على الإنجاب، ابتسمت هنا رغم المأساة، هل كان هؤلاء الذكور الأخيرين قادرين على فعلها دون أنثى!

نشر الخبر مع صورة لوحيد قرن، راقد على جانبه، مغمض العينين، وميت ربما.  فكرت أن كل شيء حدث سريعا هذا العام، جاءت الألعاب وٌنصب السيرك دون تدخل مني، انا التي اعتدت منذ بدأت اللعبة، لعبتي، أن أمسك خيوطها في يدي، وأختار التعويذة وأتلوها.

حدث كل شيء هكذا مثل معجزة صغيرة..

أربكني ذلك وفاجأني، لكنه أعجبني فاستسلمت.

في اليوم الذي وقفت فيه أمام المرآة، ووضعت عيني في عيني وقلت لها: لم يعد هذا زمن سحر ولا معجزات، رنت الكلمة في أصداء روحي، استخدمتها حتى في نص كتبته، بنيت النص كله فوق الجملة، ملأت عقلي وأثقلت قلبي، قلتها بالكثير من الدراما كعادتي.

في اليوم التالي هنأتني صديقتي قائلة: حمد لله على السلامة، تعبيرا منها أو سخرية من فكرة أني وصلت متأخرا لأرض الواقع والعالم الحقيقي.

فيما بعد عرفت أن الأمر لم يتعد حالة مؤقتة، بعض الصمت الذي يعقب الأعاصير والخراب الناجم عن الحروب وخفوت دقات القلب وانطفاء الروح.

لا أنا وصلت للعالم الحقيقي، ولا أنوي البقاء كثيرا على أرض الواقع.

الأمر لا يحتاج للوصول والبقاء والاتكاء على الخطوات هنا.

النظر من بعيد يكفي لنفهم، دون التورط.. المرور من هنا بكل ما فيه من صخب يعلق في الروح، يلطخ الذاكرة ويفيض.

في نهاية اليوم التالي لليوم الذي قلت فيه لنفسي لم يعد زمن سحر ولا معجزات صادفت معجزة وسحرا. خرجت من السينما بعدما شاهدت فيلم sinners  الجنوب الأمريكي في فترة الثلاثينات، رحلة الأخوين، وعودتهما للجذور لافتتاح ملهى لموسيقى الجاز، الشخصيات التي عادت من الماضي، الولد الموسيقي الذي آمن بأن الفن هو الخلاص، مصاصو الدماء الذين اخترقوا الفيلم وصراعهم المبتكر مع البشر على الأرواح والخطايا والموسيقى، كنت في حالة من السعادة والمتعة لا يمكن لشيء أن يوصلنا لها سوى الجمال، الجمال الكثيف.

عندما خرجت من باب قاعة العرض، اتجهت للمصعد، فكرت بينما يغلق الباب، لو كان هناك أحد يسألني الآن في هذه اللحظة: الفيلم عجبك؟ فكرت في السؤال، وفي الحقيقة احتجت اليه جدا.. نظرت لأرضية المصعد وفكرت في كل الصخب والبشر في القاعات الكثيرة. قبل أن يغلق الباب.

دخلت فتاة وحيدة ابتسمت لي، أغلق المصعد بابه، نظرت نحوي وقالت: عجبك الفيلم؟ اتسعت إبتسامتي وقلت لها: جدا.. قالت لي شيئاُ عن ألوان المشاهد في منتصف الفيلم وكيف بدت باهتة، شرحت لها سبب ذلك، وقلت جملة أو اثنين عما عجبني في الفيلم، وصلنا للدور الأرضي ابتسمت كل منا للأخرى.

رفعت يدها نحوي وقالت: مع السلامة.. عندما ابتعدت قليلا فكرت أني لو رفعت عيني لأنظر باتجاهها ربما لن أراها، فكرت حتى ما إذا كان وجودها حقيقي.

شعرت بالكثير من الخجل، ثم همست للسحر: أنا آسفة، أنا أؤمن بك واصدق في وجودك..

تسقط البلورات البراقة غير المرئية، الكثير منها كلما مارست التسكع في الشوارع. أضاءت الخطوات التي اتكأت عليها وغادرت، صنعت وهجا يشبه النجوم في سماء صافية بالقرب من البحر.. فأتذكر.

خفتت أضواء العالم، وانطفأت إضاءات النيون داخل اللوحات العملاقة على الطريق السريع الذي يشبه طرق السفر، الطريق الذي أحبه، وأحتاج أن أعبره كلما ذهبت للزحام أو عدت منه.

تأخر الوقت وانطفأت جميعها فنسيت.

قابلت هذا العام خيال المآتة الذي تمنيته، سرنا معا في شارع أشعر بالألفة كلما مررت به، عند نهايته امتلأت بالفضول لألمس صدره وأشعر بدقات القلب. وقف كل منا في مواجهة الآخر، كانت الشمس تغيب والشارع يتنفس نسمات هواء أحبها، نظرت في عينيه وقربت يدي، أمسك بكفي وغاص داخل القش في صدره وترك يدي هناك، تحسست أحشاءه.

كان بلا حشوة ولا قلب.

شهقت ربما، تحولت نظرة عينه لتلك التي نراها في الأفلام وندرك منها أننا أمام شرير الحكاية، اتسعت ابتسامة مرعبة من شفته الصغيرة وهمس بصوت جمد الدم في جسدي:

أنا بلا قلب.

سحبت يدي وأنا أرتجف، تجمدت في مكاني قليلا ثم استجمعت شجاعتي رغم خيبة الأمل العظيمة التي تملكتني.

ابتسمت له ابتسامة صفراء، تعلمتها لأنتقم بها من الذين لم أعد أستطيع النظر في عيونهم.

أنا التي تعلمت القسوة أيضاً بالمشاهدة، تعلمتها من البشر. لم يكن الأمر صعبا، أقلد فقط ما يرتكبونه، أعيده لهم مرة أخرى بلا لقطة زائدة.

يشغلني فقط ألا تسيل دموعي، وأنا أحافظ على تلك الابتسامة.

فقدت تعويذة هذا العام وعرفت أن خيال المآتة الذي ظهر من العدم ولازمني كثيرا، كان بلا قلب.

في الأيام التالية فكرت أن الأمر منطقي، كيف سيخيف الطيور ويفرض هيبته على المكان الذي يحرسه إن كان طيبا ورقيقا كما ظننت.

أحتفل هذا العام بعيد ميلادي، وأنا أتأمل كل هذه الفوضى وكل هذا الصخب من حولى والصمت الذي يلف روحي. أمضي ولا أنسى أن أراجع خطوات القسوة التي تعلمتها حتى لا أنساها وأتحسس ابتسامة الحماية حتى لا تفلت دموعي، وأخبر نفسي بصوت عال بينما أقطع المسافات أن خيال المآتة بلا قلب فقط الكثير من القش والحضور الثقيل الذي يمكنه من خلق كوابيسه وأسطورته.

 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم