غفران رحموني
تِسْعَةُ أَشْهُرٍ وَأَرْبَعَةِ وَعِشْرُونَ يَوْمًا وَبَعْضَ اَلثَّوَانِي مَرُّوا بِمَرَارَتِهِمْ بَعْدَمَا حَلَفَتْ لِي أَنَّكَ سَتَحْذِفُ حَرْفَ اَلرَّاءِ مِنْ اَلْحَرْبِ وَتُقَدِّمُهَا لِي وَلَكِنَّكَ جَعَلَتَ اَلْوَاو تَسْبِقُ اَلْبَاء. وَوَضَعَتْنِي فِي مَعْرَكَةٍ لَا أَفْقَهُ فِي فُنُونِهَا شَيْئًا، دُونَ سِلَاحٍ وَلَا فِكْرَةٍ وَلَا أَنْتَ!.
كَانَ ذلِك في الثَّلاثُينَ من جَانْفِي، يَوْمُهَا اِلْتَقَيْنَا كَعَادَتِنَا أَنَا بِشَوْقِي إِلَيْكَ وَأَنْتَ بِلَا شَيْءٍ. اِقْتَطَعْنَا تَذَاكِرُ اَلْفِيلْمِ وَدَخَلْنَا قَاعَةَ اَلسِّينَمَا اِخْتَرْتُ أَنَا مَقْعَدًا أَقْرَبَ إِلَى اَلشَّاشَةِ، لَكِنَّكَ اِخْتَرْتَ غَيْرَهُ بِالصِّف اَلْأَخِير فَتَبِعْتُكَ وَلَمْ أَكْتَرِثْ لِلْأَفْكَارِ اَلَّتِي رَاوَدَتْنِي حِينَهَا. جَلَسْنَا بَعْدَ عِنَاقٍ أَخَذَتَ مَعَهُ مَا يَسْكُنُ صَدْرِي اَلْأَيْسَرْ وَأَخَذَتُ أَنَا آخِرَ حُضْنٍ. تَشَابَكَتْ أَيَادِينَا وَاسْتَنَدْتُ إِلَى كَتِفِكَ أَغْتَنِمُ اَلْفُرْصَةُ عَلَّهَا تَكُونَ اَلْأَخِيرَةَ، وَكَانَتْ كَذَلِكَ. كُنْتَ مُنْغَمِسًا فِي مُتَابَعَةِ اَلْفِيلْمِ وَكُنْتُ أَنَا أَتَأَمَّلُ مَلَامِحَ وَجْهِكَ وَأَبْتَسِم، كَانَتْ اَلْمَرَّةُ اَلْأُولَى اَلَّتِي أَعْشَقُ فِيهَا مَلَامِحُ أَحَدِهِمْ وَلَقَدْ كَانَتْ تَسْتَحِقُّ ذَلِكَ. اسْتَرَقْتُ قُبْلَةً وَطَبِعْتُهَا عَلَى وَجْنَتَيْكَ فَابْتَسَمْتَ وَوَهِبْتَنِي مِثْلُهَا قَائِلاً: لَا تَتْرُكِينَنِي. قُلْتُ: إِنْ كُنْتَ تَسْتَحِقَّ ذَلِكَ فَلَا تَخْشَى غِيَابِي. ثُمَّ وَعَدَتْنِي أَنَّ اَلزَّمَنَ كَفِيلٌ بِأَنْ يَجْعَلَكَ تُثْبِتَ لِي ذَلِكَ.
وَمَرَّتْ دَقَائِقٌ وَنَحْنُ نَنْعَمُ بِدِفْءِ اَللَّحْظَةِ… لَكِنَّ ذَلِكَ تَبَدَّدَ بِعَاصِفَةٍ هَبَّتْ دُونَ أَنْ نَنْتَبِهَ لَهَا أَوْ عَلَى اَلْأَقَلِّ أَنَا!. حَمَلَتْكَ مَعَهَا دُونَ أَنْ تُخْبِرَنِيَ بِتَارِيخِ اَلْعَوْدَةِ وَلَا بِمَكَانِ لِقَائِنَا. غَادَرَتُ اَلسِّينَمَا رَاكِضَةً بِخُطًى مُتَثَاقِلَةٍ، فِي لَيْلَةٍ شَتْوِيَّةٍ اِمْتَزَجَتْ فِيهَا قَطَرَاتُ اَلْمَطَرِ بِغَزَارَةِ دُمُوعِي وَسَوَادِ اَللَّيْلِ بِسَوَادِ عَيْنَيْكَ. أَتَّصِلُ بِكَ وَأُعِيدَ اَلْكُرَّة وَلَكِنَّ دُونُ مُجِيبٍ، فَيَزِيدُ قَلْبِي اِعْتِصَارًا لِدَرَجَةٍ كَادَ أَنْ يَتَسَرَّبَ مِنْ بَيْنِ ضُلُوعِي. وَفِي تِلْكَ اَللَّحْظَةِ تَظْهَرُ عَلَى شَاشَةَ هَاتِفِيّ رِسَالَةً مِنْكَ (لَقَدْ رَفَضْتُ اِتِّصَالَكِ وَلَا أُرِيدُ رُؤْيَتَكِ ثانِيَةً) حَاوَلَتُ أَنْ أَفْهَمَ سَبَبَ قَرَارِكَ اَلْمُفَاجِئِ، أَلَسْتَ مَنْ كَانَ يَرْجُونِي بِأَن لَا أَتْرُكُهُ؟ ألسْتَ مِنْ وَعَدَنِي بِأَنْ يَجْعَلَنِيَ أُصَدِّق حُبّه؟. لَكِنِّي اِسْتَجْمَعَتْ نَفْسِي وكَفَفْتُ دُمُوعِي وَوَعَدْتُ نَفْسِي بِأَنِّي لَنْ أَسْمَحَ لِأَحَدٍ بِإِيذَائِهَا وَأَقْسَمَتُ أَنَّكَ سَتَعُودُ رَاجِيًا مُنِيَ اَلْعَفْوُ وَلَنْ أَفْعَلَ (ذَلِكَ ما حدث). ثمّ مَضَيْتُ فِي طَرِيقِي أَتَنَاسَاكَ بَيْنَ اَللَّيْلِ وَالنَّهَارِ و أُوهِمُ العَالَمَ بأَنَّنِي نَسِيتُكَ و أَنا أُرَاقِبُكَ مِنْ بَعِيدْ.
وَمَرَّتْ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ دُونَ أَنْ أُدْرِكَ عَدَدُهَا. تِسْعَةُ أَشْهُرِ بِدُونِكَ؟! حَاوَلْتُ أَن أبتَلِعَ قَلْبِي فِيهَا عَلَّنِي أَخْلُصُ مِنْ اَلْخَنَاجِرِ اَلَّتِي وَثَّقَتْهَا بِهِ، وَلَكِنَّهَا أَفْرَزَتْ غَيْرَهَا.غَادِرْتَ بِصمْتٍ حَمِلْتَ مَعَهُ حروف الأبْجَدِيّةَ و تَرِكْتَ لِي أَرْبَعَةٍ مِنْها مُكَوّنةٍ لاسْمِكَ..وَفِي لَيْلَةٍ رَأَيْتُكَ فِي مَنَامِي وَيَا فَرْحَةَ قَلْبِي بِلُقْيَاكَ.
قَبَّلْتُكَ وَأَخَذَتُ عِنَاقًا طَوِيلاً أُرَمِّمُ بِهِ فِرَاقُ كُلِّ تِلْكَ اَلْأَشْهُرِ وَالْأَيَّامِ تَمَنَّيْتُ حِينَهَا أَن أَنَامْ مُطَوَّلاً حَتَّى لَا أَفْتَحُ عَيْنِي وَأنْصَدِمُ بِبُعَادِكَ. آهٍ يَا اَللَّهُ لِمَا وَضَعَتْهُ فِي طَرِيقِي مُجَدَّدًا أَلا تَكْفِي اَلْآلَامَ اَلَّتِي اِرْتَسَمَتْ عَلَى رُوحِي لِأَحْظَى بِغَيْرِهَا؟ لمَا كُلّ شَيْءٍ أَعَادَ اَلْحَدِيثَ عَنْكَ حَتَّى قِرَاءَةِ اَلْأَبْرَاجِ تُخْبِرُنِي بِأَنَّكَ سَتَعُودُ قَرِيبًا فَأَقِفُ بِانْتِظَارِكَ وَأتوهَّمُ قُدُومكَ. صِرْتُ أَرَاكَ فِي أَعْيُنِ اَلْجَمِيعِ، يُنَادِي أَحَدُهُمْ بِاسْمِكَ فَأَلْتَفِت مُرْتَعِدَةً… حَتَّى اَلذَّاكِرَةِ تَسْتَفِزُّنِي وَتَجْعَلُنِي أَتَقَلَّبُ كَالْجَمْرِ بَيْن خَوَاطِرِي وَتُوَلِّدُ فِي دَاخِلِي أَمَلاً بِالْعَوْدَةِ لَكِنَّكَ لَمْ تُحَاوِلْ حَتَّى تَضْمِيدِ أَلَمِي فَلَقَدْ اِنْتَظَرْتُكُ بِأَنْ تَفْعَلَ وَلَوْ لِمَرَّةٍ شَيْئا مِنْ أَجْلِي لَكِنَّكَ فَعَلَتَ كُلَّ شَيءٍ ضِدِّي وَكَأَنِّي لَمْ أَجِدْ شَيْئًا أَقْتُلُ بِهِ نَفْسِي فَأَحَبَبْتُكْ. فَيَا لَيْتُكَ أَخْبَرْتَنِي أَنّها كانتْ الأخِيرَة لَتَحَسَّسْتُ أَكْثَرَ تَفَاصِيلَ وَجْهكَ ولَأَخَذْتُ قُبْلَة وعِناقَ الوَداَعْ… اَلْآن كَيْفَ سَأَسْتَطِيعُ مُقَاوَمَةَ لَيَالِي اَلشِّتَاءِ اَلَّتِي كَانَتْ تُشِيدُ بِذِكْرَانَا؟ أَلا تَكْفِي كُلّ هَاتِهِ اَلْمُدَّةِ لِلْخِصَامِ؟ وَهَلْ يُوجَدُ خِصَامٌ بَيْنَ عَاشِقَيْنِ؟ وَرُبَّمَا يُوجَدُ لِأَنَّنِي كُنْتُ اَلْعَاشِقَ اَلْوَحِيدَ. لقد صِرْتُ أَتَلَهَّفُ لِسَاعَاتِ اَلنَّوْمِ عَلَّني أَرَاكَ حَتَّى فِي مُخَيِّلَتِي فَيَكْفِينِي ذَلِكَ عِوَضًا. فَأَنْتَ غَادَرْتَ بِلَا عَوْدَةٍ وَأَنَا أَنْتَظِرُكُ بِلَا مَوْعِدٍ فَهَلْ نُحَدِّدُ مَوْعِدًا لِلْعَوْدَةِ؟