كنت قد مكثت في الإسكندرية ثماني سنوات دون النجاح في شرب المدينة حتى قاعها. ولا حتى تذوقها كما ينبغي لخريجة فنون جميلة و كاتبة في بعض الأحيان. لا أدري هل هو عمري الذي حتم علي ألا أقابل من الأشخاص طوال الأعوام الماضية إلا من يكرهونني في نقلتي من القاهرة للإسكندرية…أم أنه القدر كان ينتظر حتى تكتمل حلقة روحية ما كي يربطني بالمدينة للأبد. كانت الإسكندرية لغزا لم أجد مفتاحه، كيف أحب بحرها كل هذا الحب ولا أتمكن من فك شفرة عشقها. حتى شاءت الأقدار أن تجمعني صداقة قوية بالفنانة التشكيلية نهى ناجي وكنت شبه عازمة آنذاك على ترك الإسكندرية ورائي. و من خلال نهى تعرفت على فناني الإسكندرية و منهم إيهاب العزازي و همت ريان ومحمد حسني إبراهيم وخالد فاروق وداليا صلاح وعلياء الجريدي وعلاء خالد وسلوى رشاد. ولقد كانوا من الكرم جميعا أن يتقبلونني بصدر رحب برغم علاقتهم التي تمتد لسنوات طويلة. الرقة والتاريخ وصداقة العمر الطويل التي تجمعهم جعلتني ممنونة لتقبلهم لوجودي في جلساتهم أحيانا و تمكنت من خلالهم و إن لم يعلموا بذلك من أن ألم شتات نفسي المبعثرة من جديد.
كانت فترة تحول أو ربما عودة على الصعيد الروحي و الشخصي. كنت لا أحد وما أزال ولكنني بهم صرت أنا التي اختفت عني من سنوات. ومن هنا بدأت رائحة الإسكندرية تحمل نفسها المملح لصدري.
ثم كان هدير الثورة و انطلقنا للشوارع و الميادين في مسيرات طويلة بالمدينة و كان البحر شاهدا و كان علاء شاهدا و محللا و مشاركا و محتويا و موجودا بقوة.
انطلقنا كل حين نتجمع في منزل إيهاب العزازي و داليا صلاح و أطلقنا عليه بيت الأمة الذي نستريح فيه من المسيرات. كانت المجموعة التي كنت بعد جديدة عليها تمثل عين الثورة السكندرية ايهاب و سلوى دائما بالكاميرا لتصوير اللحظة التاريخية و ما ورائها من تكاتف من ومشاعر فياضة كالبحر، و علاء يشاهد ويتحدث مع الجميع ليصل للنبض الحقيقي للمصريين في الشارع في ذلك الوقت..التحول الإجتماعي التي فرضته الثورة و كيف أثر على الناس العاديين في الشارع و كيف تأثرنا نحن بهم. فإن كانت للأمواج الهادرة عروق و نبضات فإن علاء كان يتحسس كل أوردة الحدث. كان يحيا الحدث بكل جوارحه و إن كنا كلنا كذلك إلا أنه كان الأكثر رهافة و تحليلا والأكثر تعبيرا عما يجول في صدورنا جميعا. و لعل مقالاته التي كانت تنشر بجريدة التحرير وقتذاك تعبر بصدق شديد عن دواخلنا و علاقتنا بالوطن التي باتت تأخذ شكلا لم نعهده من قبل. لم أشاهد علاء يوما في كل المسيرات الاحتجاجية التي جمعتنا يتصدر هتافا ..كان يغوص أكثر فأكثر في لحظة التغيير الحتمية التي تحدث كان و ما يزال عينا مختلفة بما ورائها من تاريخ انساني تمتد جذوره في الإسكندرية . و كان هناك دائما ملاكا حارسا يطوف حولنا و معنا في رقة و نعومة الماء الصافي هذا الملاك هو سلوى رشاد.
بعد الثورة بشهور أو أقل كان الأمل في أوجه …كان التفكير العام يتجه نحو تفعيل هذا الأمل تفعيل الاتحاد في المظاهرات للاتحاد في الحياة و المشاركة في صنع غد جديد. الصفة الفنية و الأدبية كانت تحتم علينا أن نقدم للوطن ، أن نشارك في تغيير الوعي بما نستطيع، فكانت “جماعة أصدقاء الحي” التي تكونت منا جميعا. كان حصادها فعاليتين بقهوة عرفة بالأنفوشي. نجمع الأطفال من الجوار و نجعلهم يرسمون ثم نعلق ما رسموا على زجاج القهوة . محمد حسني يغني و ” أوز أوز” أسامة حلمي يحكي حكاية مع طوي الأوراق الملونة في قصة و الأراجوز ثم يحاور الشباب أهالي الأطفال و رواد القهوة في دور المجلس المحلي اختلافه عن دور البرلمان. الفنانين ايهاب العزازي و أسامة السحلي يرسمان الجرافيتي جوار القهوة . جدران القهوة من الداخل معرض تصوير فوتوغرافي لسلوى و إيهاب. حالة لا يمكن نسيانها ولا نسيان أو تجاهل لكل فرد شارك فيها.
لا أتذكر متى تحديدا ذهبت إليه عندما عزمت على انشاء دار للنشر الأدبي بالإسكندرية هل كان قبل الثورة أم بعدها لا أذكر . لم أدر إن كنت قادرة عل الفعل و هل من جدوى له في بحر دور النشر الذي كان آخذا في الاتساع. و لعله وقتها أراد أن ينقل لي صورة ما ربما لم أدركها إلأ بعد أن مر وقت طويل من العمل و الجهد و التجربة و الخطأ. كان مرشدا لبعض التفاصيل التي قد تكون غائبة عني بحكم خبرتي الضئيلة في المجال ،كان مرحبا بالفكرة على أن أكون مقدرة لحجم الصعوبات. و ربما أشار لي كل فترة بعيدة بملاحظة ما كنت أثمنها كثيرا. كنت أحضر بعض الندوات فأقابل علاء و سلوى صدفة و أسمع أرائهما في الحدث الثقافي. علاء و سلوى …لا يمكن أن نتكلم عنهما كشخصين منفصلين أبدا برغم من أنهما كذلك و لكنهما كيانا واحدا يتحرك في الحياة بحرية طيفين و ثقل تاريخين على أرض الإسكندرية. و بحرية الأطياف لا أتخيل أنهما يمثلان شيئا أقل من الأمل و الأدب و الجمال و التاريخ لكل لمن حولهما.
في وعكته الصحية الأخيرة …أخذت وقتا لأدرك حقا أن علاء مريض. ربما لم أكن وحدي التي لم تتخيل أن علاء في العناية المركزة و حالته حرجة . كان الخبر صعبا حتى على الفهم و لكن هناك شيئا قويا داخلي يؤكد لي دائما أن ابتسامة علاء خالد ستهزم المرض و سيتخطى الحالة الحرجة برغم كل ما حدث. وعندما ذهبت لرؤيته هالني هزاله ولكن إشراقة ابتسامته كانت أكبر من المسشتفى ذاتها. وزادتني يقينا من عودته أكثر صحة من ذي قبل. كان وقت الاستفتاء على دستور 2013 و كان علاء في مرضه كما هو مهموما بالوطن ويسأل من عمق مرضه على نتيجة الاقتراع وكان ذلك مؤشرا لي على نصرته في مقاتلة المرض.خرجت من غرفة العناية المركزة و أنا لا أرى سوى ابتسامة علاء وجملته “بكره تروق و تحلى”. خرجت من هناك وصوته يقرأ مقاله القادمة في أذني يقينا بأنه سيصير بخير و سيعود ليتلحم بالوطن من جديد. كان اليقين يملأني و تحقق يقيني. كان العالم يتحد و الكون يتحد حتى يعود علاء للإسكندرية سالما ليكتب سيرة هذا المكان …هذا الوطن …فقط بوجوده فيه حرا .