النباتات مساكن الأرواح

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 2
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إسراء النمر

حين ذهب أحد العميان للمسيح عيسى ابن مريم، قال له: “يا سيد أبصر الناس كأشجار يسيرون”. لم يكن الأعمى شاعراً، ولم تكن بالطبع الأشجار تسير في هذا الزمان، لكن الأساطير كانت لا تزال أثرها قوياً رغم ظهور الأديان التي حسمت كيفية بدء الخليقة، إذ كان يُظن في الماضي السحيق أن الأشجار أرواح أو مساكن للأرواح، فهناك على سبيل المثال أسطورة تقول إن بقرة كانت تذهب بانتظام وتقف تحت شجرة عتيقة تخرج من جذعها عجوز تحلبها ثم تعود للشجرة من جديد، لذا كان طبيعياً أن يشعر الإنسان البدائي بالرهبة أمام الأشجار، ويرى فيها الإله الذي في مخيلته، الإله الضخم الذي يمد أذرعه المتعددة ليحميه من تقلبات الطبيعة، ويمطر فوق رأسه الثمار، ونجد في ملحمة المهابهاراتا الهندية إلى أي حد ذهب خيال الأقدمين، إذ يُروى أنه كان هناك شجرة تين عملاقة يتدلى من أغصانها نُساك متعبدون.

هناك أساساً اعتقاد أكبر يقول إن البشر انبثقوا من الأشجار، ففي الأساطير السكندنافية نجد أن الإله أودين وإخوته الثلاثة حين كانوا يتمشون على البحر صادفوا شجرتين، فخطر في ذهنهم تحويلهما إلى رجل وامرأة، فمنحهما الأول الروح، والثاني العقل، والثالث الوجه والهيئة والحواس، واستكمل أودين البقية. وفي الأساطير الأيرلندية أيضاً خرافة تقول إن الرجل خُلق من شجرة حور، وإن المرأة خُلقت من شجرة دردار جبلية، وشجرة الدردار عند الإغريق لم تكن تسند قبة الكون وحسب، بل إنها كانت الشجرة التي خلق منها الإله زفس البشر. الغريب أن الكثيرين -على مر العصور- خصوصاً الشعراء والرسامين والفنانين ظلوا يحلمون بأن يصيروا شجرة، ولقد فسر جون ستيوارت صاحب كتاب (انتصار الشجرة) ذلك بأن الأشجار أكثر الكائنات الشبيهة لنا، فهي تملك رأساً وجسداً منتصباً وترفع أذرعها مثلنا إلى السماء.

إننا على ما يبدو نَحِن لصورتنا الأولى، إننا نسمي مثلاً الجزء الذي يقع تحت إبطينا من أجسادنا بـ “الجذع”، وفي المقابل نقول قلب الشجرة، وعين الشجرة. إننا نشعر بوخزٍ في صدورنا حين نرى شجرة منكسرة الأغصان، لأننا نتذكر على الفور أضلعنا الملتفة حول قلب محطم. إننا أو بعضنا يحتضن الشجرة، لأنه يعتبرها أمه الحقيقية، ومن يعود للتاريخ سيجد أن الرومان كانوا يعتبرون أشجار السنديان الأمهات الأولى للبشر. إننا نحمل الكراسي والمناضد والدواليب برفقٍ كما لو أننا نحمل عظام ميت.

في إحدى قصائدها تعتذر فيسوافا شيمبورسكا لكل شجرة تحولت إلى مائدة بأربعة أقدام، ولقد استخدمت مفردة “أقدام” دلالة على رغبة الإنسان الدفينة في أن تكون لدى الشجرة المقدرة على المشي، حتى لو استلزم الأمر ذبحها، وهذا لا يعني أن الإنسان توقف عن تقديسها، فهناك من رأى فيها مثلاً دليلاً قوياً على وجود الله، مثل كازانتزاكيس، الذي يقول: “قلتُ لشجرة اللوز حدثيني عن الله يا أختي/ فأزهرت”. وهناك من دعا الناس للحج إليها، مثل جبران خليل جبران. وهناك من وجد فيها سعادته وراحته الأبدية، مثل تولستوي، الذي أوصى بأن يدفن تحت الأشجار التي غرسها بنفسه في إحدى الغابات، ليصبح مع السنوات محض شجرة تستلقي على ظهرها. وبالفعل لا يستطيع أحد الآن أن يميز ضريح تولستوي بسهولة، ليس فقط لأنه لا يحمل صليباً أو شاخصة، ولكن لأن النباتات صعدت عليه وتحول إلى كتلة خضراء.

أحب التصور الذي يقول إن الشجرة هي السلم الذي يستطيع الموتى بواسطته أن يصعدوا إلى السماء، لأنني حين أذهب إلى المقابر، أرى الأشجار التي تسورها تهتز بصورة غير طبيعية. ولطالما حذرتني أمي وأنا طفلة من خدش شجرة أو دهس نبتة أو التخلي عن وردة بعد ذبولها حتى لا تشكوني يوم القيامة إلى الله. إنني لا أستطيع التعامل مع كل هذا على أنه أفكار شعرية، لدرجة أنني حين أرى زهرة لوتس أملس على أوراقها وجذعها، واستعيد حكاية لوتيس التي تجنبت معانقة بريابوس فصارت في الحال نبتة، فكما كانت الأشجار قديماً تتحول إلى بشر، كان البشر يتحولون إلى أشجار.

لهذا لم أتعجب حين أقامت دار أوبرا برشلونة -قبل أسابيع- حفلاً موسيقياً لجمهور من النباتات، لأنه من المنطقي أن تكون هي بدائلنا نحن البشر بعد وباء كورونا الذي فرض علينا إقامة جبرية في البيوت، ولقد تعمدت مشاهدة الحفل على “اليوتيوب” لأرى كيف تفاعلت النباتات، فحين دخل العازفون الأربعة حركت النباتات أوراقها –هذه طريقتها في التصفيق- بينما انحنى العازفون، موزعين ابتسامتهم ونظراتهم على أكثر من ألفي نبتة بالتساوي، وكانت الكاميرا لا تتوقف أثناء العزف -الذي اقتصر على استخدام الآلات الوترية- عن الاقتراب من النباتات، التي تشعر أنها تكاد تطلق صرخة من النشوة، ووجدتني أتذكر هذه الأبيات للأبنودي: “صوت الغُنا/ بيخضّر اللبلاب/ ويكبّر الكيزان/ ويدفع العَجَل التقيل القلب/ عشرين سنة لقدام”.

لا أعرف إذا كان الأبنودي اطلع على الدراسات العلمية الحديثة التي أثبتت أن النباتات تحس وتنفعل وتتألم مثلنا، وأن نموها يتأثر بالموسيقى، لكنني أعرف أن الشعر يسبق العلم بخطوة، كما الفطرة تماماً، ففي القرى نرى الفلاحين وهم يحملون الراديو إلى أراضيهم كى يشاركوا أوقات أنسهم مع النباتات والأشجار، إنني لا أنسى أبداً مقولة أحدهم “عندما أقف أمام الأرض أشعر بأنهار خضراء تدفق في جسدي”، ومقولة آخر “كلما اشتقت إلى أبي أتحدث مع النخلة التي زرعها قبل ثلاثين عاماً”، وفي المدن نرى شرفات تتكدس بالنباتات، ونساء يحملن الورود وهن يرددن “سامحينا أيتها الحروب البعيدة”.

إننا بالتأكيد لا نستطيع أن نصير أشجاراً أو نباتات أو وروداً، لكننا نستطيع أن نتركها تقوم بمهمتها النبيلة في تذكيرنا أن بعد كل انهيار وتساقط، ثمة نهوض وبعث.

مقالات من نفس القسم