بعبارة أخرى – لماذا نُحب تشيخوف؟

بعبارة أخرى – لماذا نُحب تشيخوف؟
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. حسن مدن

الزائر لمدينة يالطا المطلة على البحر الأسود عليه أن يزور مرفقين سياحيين وتاريخيين مهمين. الأول هو القصر الذي وقعت فيه الاتفاقية التي رسمت صورة العالم بعد الحرب العالمية الثانية والتي عرفت باسم المدينة التي وقعت فيها: “اتفاقية يالطا”. الى هذا المنتجع الساحر دعا جوزيف ستالين زعيم الاتحاد السوفييتي يومذاك زعماء التحالف الذي كسب الحرب وهزم ألمانيا الهتلرية وإيطاليا الفاشية واليابان، وتأسس في ذلك الاجتماع ما صار المحللون والمؤرخون فيما بعد يصفونه بتقاسم النفوذ بين المنتصرين في أوروبا خاصة، وفي العالم بشكل عام.

 وبوسع زائر القصر الذي أبرمت فيه الاتفاقية أن يرى الغرفة التي وقعت فيها، والطاولة التي جلس أمامها زعماء العالم الكبار يومذاك ليضعوا توقيعاتهم أمام أسمائهم.

المرفق الثاني بيت ريفي صغير وأنيق يعود لسيد القصة القصيرة في تاريخ الأدب العالمي والكاتب المسرحي الشهير أنطون تشيخوف، الذي عاش أربعين عاماً ونيفاً فحسب، لكنه خلف وراءه تراثاً هائلاً، ثرياً من الفن القصصي والمسرحي الذي ستظل البشرية، في مختلف اللغات التي تقرأ وتتحدث بها أن تعود إليه.

عاش انطون تشيخوف في بطرسبورج وفي موسكو، ولكنه ذهب الى الجنوب، الى يالطا، بحثاً عن الدفء ليساعده في العلاج من مرض السل الذي أنهكه وأودى بحياته باكراً في مصح في إحدى المدن الألمانية التي ذهب إليها جرياً وراء العلاج.

وما زلت أذكر زيارتي لهذا البيت الصغير الأنيق في يالطا الذي تحيط به حديقة صغيرة. هناك كتب تشيخوف بعض مسرحياته وقصصه ودوّن بعض رسائله ومذكراته.. وما زلت أذكر ذلك الشعور المهيب الذي انتابني لحظتها، كأن أنفاس الكاتب الكبير الذي ما زال وسيظل يبهر العالم تدب في ذلك المكان.

في الكتّاب العظام سحر لا يقاوم، كأن صلة روحية تنعقد بيننا نحن معشر القراء وبينهم، حين نكون قد قرأنا أدبهم وعرفنا الطريقة التي يفكرون بها، وطبيعة تلك “المنولوجات” الداخلية التي تنتاب أرواحهم. وبوسع أي قارئ على قدرٍ من الذكاء والنباهة أن يمسك بفلذة من روحه وهو يقرأ تشيخوف. إنه الكاتب الذي يشبهنا نحن البشر البسطاء في عواطفنا وفرحنا وضجرنا.

يالطا لم تعد في عداد الامبراطورية الروسية، بعدما تفكك الاتحاد السوفييتي واستقلت أوكرانيا التي تعود اليها المدينة. واتفاقيات يالطا التي وقعت هناك باتت تاريخاً فحسب. لكن تشيخوف الذي مرّ من المدينة في الزمن القيصري يظل معاصرنا أبداً ولا يصبح تاريخاً. إنه ابن زمننا، في دليل جديد، ساطع على أن الثقافة باقية، أما السياسة فإلى زوال.

لدى تشيخوف تلك المقدرة التي لا يبزه فيها احد على أن يلج إلى اعمق الأعماق في النفس الإنسانية بمنتهى البساطة، بمنتهى السلاسة دون أدنى تكلف أو افتعال أو مبالغة، وأنت تقرأه تجد نفسك ونفس من تعرف من البشر كتابا مفتوحا، وذلك ليس لأن تشيخوف يقدم نسخة من الواقع، من الحياة، وإنما لأنه يرى في السلوك العادي، اليومي للبشر ما هو وراءه، يرى بواعثه، ومن اجمل ما كتب عن تشيخوف تلك الشهادة المطولة، المعبرة التي كتبها معاصره مكسيم غوركي، وللتدليل على بساطة أسلوب تشيخوف يسرد الحكاية الواقعية التالية:

“ذات يوم قامت ثلاث نساء يرتدين اثوابا فاخرة بزيارة تشيخوف. وبعد ان ملأن غرفته بحفيف فساتينهن الحريرية، ورائحة عطورهن القوية، جلسن مقابله بوقار، ثم شرعن في طرح الأسئلة، متظاهرات باهتمامهن الشديد بالسياسة، فقالت إحداهن:

– عمَّ ستسفر الحرب الجارية الآن؟

أخذ تشيخوف يسعل، ثم فكر وأجاب برقة وبصوت ناعم وجدي: “على الأغلب، إلى السلم،. فردت احداهن: طبعا، لا شك ولكن من سينتصر اليونانيون أم الأتراك؟.. فرد تشيخوف فيما يشبه السخرية: أتصور ان الأقوى هو الذي سينتصر، فتنافسن على سؤاله: ومن هو برأيك الأقوى؟ فأجاب مواصلا سخريته المضمرة “أحسنهم تغذية وأكثرهم تعليما” “آه.. يا للظرافة” صاحت احداهن، وسألت أخرى، ومن تحب أكثر.. اليونانيين أم الأتراك؟ فنظر إليها تشيخوف بحنان، وأجاب بابتسامة قصيرة لطيفة: أنا أحب مربى الفواكه.. هل تحبينه أنت ايضا؟ فردت المرأة بحرارة: جدا، وقالت زميلتها: إنه طيب للغاية، ثم ما كان من النساء الثلاث إلا أن انصرفن للحديث بحيوية عن المربى، كاشفات بذلك عن اطلاع واسع ومعرفة دقيقة بالمربى وأنواعه، وكان واضحا انهن كن سعيدات لأن موضوع المربى لم يكن يتطلب جهدا عقليا، كالحرب بين تركيا واليونان، ولا يجبرهن على التظاهر بالاهتمام الجدي بمصير الأتراك واليونانيين، الشيء الذي لم يكن يخطر ببالهن قبل هذه اللحظة.. وعند الوداع ودعن تشيخوف بمرح قائلات: سنرسل لك أنواعا من المربى !

في التعليق على هذه الحادثة قال تشيخوف: “يجب أن يتكلم كل إنسان بلغته”. هذا التعليق ذهبي، لأنه يكمن فيه بالذات كل سحر أدب تشيخوف، أي أن يتكلم الناس بالمفردات والتعبيرات التي تلائم البيئة التي جاءوا منها.

أنا أحد الذين يعتبرون تشيخوف كاتبهم المفضل بين الأدباء الكلاسيكيين. فيه شيء فريد لا يوجد عند سواه من الكتاب، ومن الصعب وصف هذا الشيء ومن الصعب أكثر وصف تفرده، لكنني أظن أن الأمر يكمن في تلك البساطة المتناهية التي يكتب بها مسرحياته وقصصه، لكنها بساطة خادعة، انها تنم عن عمق قلَّ نظيره، لأنه يكتب ببساطة، بعفوية، بتلقائية لدرجة توهمك لوهلة أنك قادر على ان تكتب مثله، تقول مثله، ولكن هيهات، مبهر تشيخوف في مقدرته الفائقة على وصف العادي، الرتيب، الممل، على وصف الحياة من دون خوارق ومن دون معجزات، لكنه قادر على ان يجعل من هذا العادي أدبا جميلا.

في قصته: “القبلة” لم تستغرق القبلة الخاطفة التي باغتت بها امرأة مجهولة الكابتن سوى ثانية أو ثوان معدودة، حدث ذلك في الظلام وبسرعة خاطفة، انتهت القبلة واختفت المرأة. هذا الحدث السريع، الخاطف، المباغت كومضة سريعة سيشغل الرجل فيما بعد أياماً وليالٍ. كيف يمكن لدقيقة واحدة، أو أقل من دقيقة، أن تشغل بال إنسان فيما بعد طويلاً، تقلب حياته رأساً على عقب. كان الرجل قد لاحظ أن رواية ما حدث لأصدقائه لم يستغرق منه أكثر من دقيقة: “قبلتني بسرعة في الظلام واختفت”، بذا كان ينتهي شرح أو وصف ما حدث، أما الموضوع فيكمن في تداعيات ما حدث، ما يثيره من أسئلة في ذهن الرجل.

إلى هذا القصة بالذات عاد ريتشارد فورد الكاتب الأمريكي المعروف الذي قرأنا له روايته “حياة وحشية” مترجمة إلى العربية، وهو يحاول الإجابة على هذا السؤال اللافت: لماذا نحب قصص تشيخوف؟!، وفي إطار شرح تفصيلي لما يشكل الإجابة يقول الرجل أن سحر تشيخوف يكمن في كونه الكاتب الذي لا يقول كل شيء، ليس لأنه عاجز عن قول كل شيء وبسطه وتفصيله وإنما لأنه لا يرغب في ذلك، منطلقاً ليس فقط من صعوبة الإحاطة بكل شيء وإنما أيضاً لأنه يترك أبواب التأويل مشرعة أمام قارئه.

ومرةً تحدث الكاتب العربي المقيم في لندن، سمير اليوسف، عن ظاهرة انبعاث الاهتمام بتشيخوف في اللغة الانجليزية، حيث صدرت في غضون الأعوام الماضية ما لا يقل عن نصف درزينة من الكتب الانجليزية المرتبطة باسم تشيخوف، بينها كتاب عن “تشيخوف غير المكتشف”. أما حديث ريتشارد فورد فقد ورد في تقديمه لانطولوجيا اختارها وحررها هو نفسه بعنوان “الحكايات اللازمة عن تشيخوف” يقرر فيها أن تشيخوف هو “الكاتب الذي ينبغي أن يقرأ في سن النضج”.

والحق أن تشيخوف يمكن أن يُقرأ، لا بل ينبغي أن يقرأ في كل الأعمار، ولكن العودة إليه في سن النضج تُكسب قراءة أدبه متعة إضافية. إن مهارة هذا الكاتب العبقري تكمن في مقدرته على الاحتفاء بالعادي، والروتيني، واليومي، لا بل بالضجر اليومي ليجعل منه أدباً. إنه يُدخل تفاصيل الحياة اليومية في السرد، ولكن ليس برغبة السرد وحده، لأنه يذهلنا بتلك المزاوجة الفذة بين التفصيلي، اليومي، البسيط وبين ما هو فلسفي ومجرد أو مطلق. لذا فإن القول بأن تشيخوف كاتب الضجر أو التشاؤم فيه تجني كبير على الرجل الذي أراد أن يقارب فكرة الشقاء البشري من زاوية ذلك التضاد المرعب بين ما يجب وما هو كائن، ليس في معاينات الحياة العامة فحسب وإنما خصوصاً في تمزقات النفس الإنسانية بين انحيازاتها العاطفية العميقة وبين سطوة الواقع وتجهمه وصرامة قواعده، على النحو المدهش الذي نلحظه في قصته العذبة “السيدة صاحبة الكلب” أو في تمزقات الطبيب اندريه بمفيتش في قصة “العنبر رقم 6″.

 

يبقى صحيحاً القول أن تشيخوف لا يقول الكلمة الأخيرة، لا يرغب في قولها، أن يتركنا حائرين إزاء مصائر أبطاله الذين تمزقهم أقدار غامضة، قاسية حيناً، درامية حيناً آخر، وساخرة في حين ثالث، كأنه يقول أن في هذه الحياة أمر لا يُدرك، أو كأنه يرغب في أن يقذف بنا نحن معشر قرائه، حتى لو كنا ننتمي إلى سياقات ثقافية وحضارية أخرى غير تلك التي كان هو نتاجاً لها، إلى تعدد الاحتمالات، إلى تعدد مستويات التأويل والفهم. لذا يبدو اعتقاد ريتشارد فورد بأن تشيخوف هو الكاتب الذي ينبغي أن يقرأ في سن النضج اعتقاداً في محله تماماً، ليس لأننا في سن الشباب لا نستمتع بتشيخوف، وإنما لأننا في سنوات النضج نعيد اكتشافه، وهذا ما يذهب فورد إلى تحديده بوصفه السبب الذي يجعلنا نحب تشيخوف، ونعود إليه دائماً، مثنى وثلاثاً ورباعاً وأكثر.

مقالات من نفس القسم