باترسون: سينما الشعر

فيلم باترسون
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مازن حلمي

يُعدّ المخرج “جيم جارموش” أحد أعلام السينما المستقلة فى العالم، بينما تستغرق هوليود الإثارة، وبريق النجوم وضخامة الإنتاج. يُغرِّد “جارموش” وحيدًا بموضوعات، وأفكار تجريبية. لا يقف صدى أعماله عند ذلك، فمنذ فيلمه المغاير (أغرب من الجنة) وهو ضيف دائم فى المهرجانات، والترشح للجوائز.

بفلسفة بسيطة: أن تفعل ما تحب؛ سيحب الجميع ما تفعل.

باترسون

فيلم (باترسون) قصيدة سينمائية هادئة، المدينة/ الرجل، إحدى قصائد الشاعر (وليم كارلوس وليامز)، لا يمكننا فهم الفيلم دون قراءة أشعاره خاصة قصيدة باترسون الملحمية:

“رجل يشبه مدينة وامرأة تشبه وردة

فى حالة حب. امرأتان. ثلاث نساء

نساء لا عد لهن، كل واحدة تشبه وردة

لكن

رجل واحد يشبه مدينة.

…..

قلها لا أفكار إلا فى الأشياء. ذهب

السيد باترسون

ليستريح ويكتب. داخل الباص يمكن للمرء أن يرى

أفكاره جالسة وواقفة. أفكاره

تنزل وتتفرق” *

يحتفى الفيلم بالمدينة، بشوارعها ومبانيها ومصانعها القديمة. تتمثل المدينة البطل، شخصية أفقية بلا أبعاد مثل قصائد كارلوس الوصفية. “باترسون” واقعي بلا أحلام، يعمل سائقًا لحافلة، ويكتب الشعر. يبدو طريقاه مفترقان، لكن يمكن الجمع بينهما؛ فالفن ليس نقيضًا للحياة، بإمكانية معرفة الناس، واختبار التجارب، نعرفه ونتذوقه. هذه نظرية “كارلوس” للشعر، ظل يجمع بين الطب والشعر طيلة حياته، وإن ظل شاعرًا هامشيًا لم يُقرأ إلا فى خمسينات وستينات القرن الماضى .

الإحساس بالأشياء

أفلام “جارموش” بلا حبكة، أو حدث درامى كبير، إنها ترتكز على حكايات قصيرة وتنويعات؛ لإحداث أثر ما، والوصول إلى فكرة من زوايا، وأشخاص مختلفة. يبدأ المشهد الافتتاحي للفيلم باحتضان “باترسون” لزوجته “لورا” وهما نائمين، وينتهى بهما. عبر أسبوع كامل نراه يقود الحافلة، يُنزه كلبًا، يرتاد الحانة، يكتب الشعر وفقط. لا أحداث تتصاعد، أو تتنامى؛ لدخول المشاهد فى تشويق وصراع.

أراد جارموش أن يضاهى عالم قصائد “كارلوس” المحتفية بالبسيط، واليومى والمهمل عكس أقرانه الشعراء: “إليوت”، و”عزرا باوند” أصحاب الثقافة الأوربية العميقة. عبور الأشجار، والشوارع الطويلة أمام عين البطل، إنصاته إلى أحاديث الركاب التافهة، ظهور التوائم فى  كل مكان، ثم تكرار يوم البطل على وتيرة واحدة. يدعونا للبحث عن الجمال فى الأشياء البسيطة ومقاربة عوالمها، أعواد الثقاب مثلًا تكون موضوعًا لقصيدة وأداة  لقدح الحب بين عاشقين. بهذه الأشياء الصغيرة نلمس جوهر الحياة ونجرد العالم إلى أقصى حد.

جنة باترسون

باستثناء “باترسون”، و”لورا” جميع شخصيات الفيلم غير سعداء، ودائمى الشكوى، البارمان العجوز تتشاجر معه امرأته، الشاب الأسمر فى الحانة غير متوافق مع فتاته، وزميل “باترسون” يتذمر من سوء أحواله المادية. بينما “باترسون” قانع تمامًا بما لديه: امرأة تحبه، وعمل بسيط لا يتطلع إلى تغييره، أو الترقى فيه، يمارس هواية كتابة الشعر ولا ينوى حتى نشره. المهم لديه معايشة الفن والإحساس بالجمال. يبقى التسويق مسألة ثانوية. إنه آدم الذى يخلق جنته بنفسه رغم وجود المبانى القديمة والمصانع حوله، طيلة الوقت يجد شلالًا يجلس أمامه. رغم مشقة العمل فى الحافلة تنهمر القصائد عليه، الجمال تحت عيوننا لكننا لا نبصره جيدًا. كما لا يملك هاتفًا نقالًا ليحافظ على نقائه وبدائيته، عندما تتعطل به الحافلة تطلب منه “لورا” أن يقتنى هاتفًا؛ لتسهيل أموره، لكنه يرفض متعللًا بأن العالم كان بخير حتى قبل وجودهم؛ إنه يختزل مدينته العملية اللاهثة، ويرينا وجهًا آخر لها، وجه العزلة والبساطة.

مشهد النهاية

غالبًا ما ينطوى مشهد النهاية على رسالة ما، فى فيلمه السابق (أزهار متكسرة) يبحث البطل عن صاحبة رسالة تخبره فيها أنها أنجبت منه ولدًا، لكن دون أن يعثر عليها، ثم يقابله شابٌ يطلب منه أن يسديه حكمة، يقول له لا تفتش فى الماضى كثيرًا وعش الحاضر .

طبيعة فيلم (باترسون) تجعل الرسالة ضمنية متماهية مع روح الشعر، بعد فقدان باترسون دفتره الذى يدون فيه أشعاره، يهديه سائح  دفترًا آخر بغية مواصلة الكتابة ومفتاحًا لباب المستقبل.

إيقاع الفيلم الرتيب يحقق التأمل، ويثير الأسئلة حول طبيعة شخصية منعزلة، يتناسب مع أيامه المكررة. كأنه يقول إنها ستمضى هكذا إلى النهاية. ربما يدفعنا الى التمرد على السكون والنمطية، إلى المغامرة والتحرر.

جاءت الموسيقى التصويرية شبيهة بنزول الإلهام والوحى، مغلفة بالشاعرية، الفيلم مليء بقصائد تتابع بالنزول على الشاشة. مما جعلها جزء عضوى فى بناء العمل. الغريب أن “جارموش” لم يستعن بشاعره وليم كارلوس فى قصائد الفيلم، بل كتبها الشاعر “رون باجيت” خصيصًا. “جارموش” فنان ينهل من مصادر ومنابع شتى، ثم يعطيك فى النهاية عملًا من صميم روحه، يحمل بصمته.

أداء الممثل “آدم درايفر” فى دور “باترسون” كان لافتًا، انفعالاته من صلب الشخصية: هادئة وثابتة. أما الممثلة الإيرانية “غلشيفته فرحانى” فى دور “لورا” فكانت فى قمة النضج، حالمة وساذجة لدرجة تصدق معها أنها شخصية خيالية من أفكار البطل. باترسون فيلم سيبقى فى بال المشاهد طويلًا.

……………..

* كتاب: ما ليس شعريًا فى نظرهم،  ترجمة عبد القادر الجنابى، دار التنوير  

 

مقالات من نفس القسم