لم يقدم وحيد روايته فصولا ولكن رآها أبوابا أولها ” باب البنات “وآخرها “باب للا درة ” ، وبين البابين أبواب كثيرة منها : ” باب الفتح ، باب الهوى ، باب الأقواس ، باب الملكة، باب النحل، باب البحر” وهكذا إلى آخر باب ولكن لماذا كان ” باب الليل ” هو عنوان الرواية رغم عدم وجوده كأحد أبواب الرواية الـ 15؛ ربما لأن ” باب الليل ” يتسع للجميع وهو الباب الأخير الذى حتما يدخله الجميع بعد أن يفرغوا من كل شىء ، وبعد أن يكونوا قد دخلوا وخرجوا من كل الأبواب الممكنة ، والدخول من ” باب الليل ” يعنى الدخول إلى النهار أو الخروج إليه أو انتظاره على أقل تقدير والانتظار هو ما تفعله كل شخصيات الرواية فى مقهى ” لمة الأحباب ” طوال الوقت بلا كلل ولا ملل وبدأب غريب وبأمل لا يموت
درة صاحبة المقهى وهى ” بضاعة فرز أول ” على حد وصفه ص73 فضلا عن حلومة و أبو شندى ، محمد شهريار ، كسوف ، مهدى ، حبيبة ، ألفة ، مجيد ، نعيمة ، شادى ، غسان ..وغيرهم
و” لمة الأحباب ” هو مقهى تونسى بطعم الوطن تعيش فيه شخصيات الرواية جميعا رجالا ونساء بعد أن جاءوا من ” كل فج عميق ” ؛ كالطيور المهاجرة فقدت طريق الرجوع بعد أن حنثت الطبيعة بوعودها لهم
نساء ” لمة الأحباب ” أو ” لمة القحاب ” كلهن بائعات هوى بضاعتهن العنب والرمان ، وكلهن متشابهات ؛ كلهن فى النهاية إنثى ، والإنثى فى ” باب الليل “واحدة مهما اختلفن ؛ درة كأحلام أو” حلومة ” ونعيمة كـ ألفة ورحمة كحبيبة ؛ الأحلام واحدة وكذلك الآلام والجروح ، فقط الاختلاف فى تضاريسهن ، كلهن خادمات سرير،عاشقات جيوب ، باحثات عن بنكنوت أوشيكات ويا بختها من ارتفعت عجيزتها واستدارت أوبرز رمانها و تدلى ، لا تفضل الواحدة منهن دفع أموالا مقابل خدمة تقدم لها فقط تسألك لحم ولا فلوس ؟ لأنهن يقبضن فقط
وحال تلك النسوة فى المقهى يذكرنى بالثورات العربية التى ركبها الراكبون ، وبالشعوب العربية التى أفرغ فيها الحكام شهواتهم ، وبالبلاد العربية التى احترفت فتح ساقيها للعابرين
هذا فى الظاهر أما فى الباطن فأحضان تلك النساء وإن كن بائعات هوى ورغبة ، تمثل بطول الرواية أرضا للمنفىّ واللاجىء ، ووطنا للضائع الغريب وأجسادهن ساحات انتصار للمهزومين ، وفروجهن هى بعينها قلوب الأعداء ، وركوبهن هو ركوب الموج نحو شواطىء الأحلام التى لا تجىء والأزمنة التى ولت ومضاجعتهن ميلاد أو بعث أو بداية جديدة لكل من دفعته نهايته إلى استوطان ” لمة الاحباب ”
هكذا هى الإنثى فى ” باب الليل ” حتى البندقية التى لا تتقن سوى صناعة الموت تحولت إنثى ذات فرج ” مخزن الطلقات هو فرج البندقية ” و “يسع ثلاثين ” ، وينافس بقوة فروج ” حية ” تحشى كل ليلة بخزائن من الطلقات المطاطية
نعم الرواية طافحة بالجنس ولكنه – فى الغالب – الجنس النابع عن المرار الطافح أيضا والهزائم والغربة والبهجة الضائعة التى جارى البحث عنها فى فوهات ” الفروج ” ، نعم للفرج الكلمة العليا فى ” لمة الأحباب “، ولا ينقص رجالها إلا أن يبنوا مقاما لسيدى ” الفرج ” تقام حوله الموالد وتوهب له النذور ويتحلق حوله المريدون وينشد له المنشدون ، وذلك لأنه سر الأسرار ؛ فهو الموت و الميلاد والبعث من جديد وماؤه الدافىء ” شعار المحبة والحياة “
ذلك أن الرجال أغلبهم غرباء منفيون أو بالأقل مهزومون وهم فلسطينيون وليبيون ولبنانيون وخليجيون وأوربيون أيضا .. كلهم يبحث عن ” القعدة الطرية ” أو الوطن الضائع أو الحلم الفقيد يقول أبو شندى الفلسطينى الذى حرم من العودة إلى وطنه فلسطين بأمر الاحتلال : ” حين تفقد وطنك وأهلك و أنت صبى أو شاب ستبحث عنهما فى ثقب إبرة … وحين تفقدهما وأنت على مشارف الستين لا يتبقى لك سوى بائعات الحب .. يصبحن وطنا احتياطيا ” ص212 ، ويعود ليقول بعد ذلك على بعد صفحات قليلة : ” الآن أعتبر كل واحدة فلسطين ، أحبها ، أدخلها سعيدا ، أضع حلمى بين ساقيها وأنام ” ص217
كل شىء يحدث فى ” باب الليل ” الحب والعشق ، الغدر والخيانة ، الجاسوسية والنضال ، الجنس والدعارة و” باب الفرج ” هو الباب الذى تدق عليه كل النصال فى ” لمة الأحباب ” ليس لقضاء حاجة أو إفراغ شحنة أو وإنما للبحث عن ميلاد جديد أو قل : انتصار وحيد ..
إيقاع الرواية / السرد سريع ولاهث ، يليق بإيقاع اللحظة الراهنة التى نحياها وقد برع الطويلة كعادته فى قنص أكبر عدد من المعانى والدلالات بأقل قدر من التكلفة اللفظية فى صياغة مكتنزة وسريعة ومارقة ، كقوله ” ينغز له نغزتين وينام ” فى وصفه لأداء روتينى باهت لرجل يضاجع زوجته كأنه يختم جواز سفره أو يبول فى مبولة عمومية ، أو كقوله ” قارة من التفاصيل ، كما يقول الكتالوج ” فى حديثه عن إنوثة إحداهن المتفجرة ، وهو إيقاع لا يناسب فقط إيقاع اللحظة ولكن يغادر بوعى وإرادة ملل الوصف الزائد والحوار الممل والسرد البطىء المترهل الذى أصيبت به كثير من ألأعمال ، فضلا عن اقتناصه على طول الحكاية لحظات ساخرة لا يمكنك لهاث القراءة وفضول المتابعة من الاستمتاع بها كقوله : الرجال الذين هبطت عليهم فجأة فضيلة التبول ” فى وصف المتسابقين خلف النساء فى اتجاه حمام المقهى للإيقاع بهن وتبادل الهواتف معهن ومثل هذا كثير
رواية الطويلة ذاتها رواية ” إنثى ” إذا جاز التعبير؛ فهى ساحرة ومثيرة للغاية تشعل نار الرغبة فى قارئها ؛ منذ سطورها الأولى وتلهبه فيصر على مضاجعتها للنهاية والوصول إلى قاع بئرها والارتواء من عسل سردها وفتنة وصفها و من حلاوة لغتها الرائقة ، شخصياتها رجالا ونساءا شخصيات شبقة جائعة ، معذبة و مهزومة تدعوك للتعاطف معها قبل أن تدعوك للنقمة عليها.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعر وصحفى – مصر
خاص الكتابة