رفع رأسه بعدما نكسه لمدة طويلة و إحتار ككل مرة الى من سيمد يده ليرتشف فنجان قهوة بمقهى إعتاد النادل أن يزيده ثانية كصدقة .. هو مدمن على شربها , تعدلٌ من دماغه ذي النورون العاطل .
كان بهي الطلعة و سيم الروح قمحي اللون و عينان ضيقتان تنظران الى ما حوليه لعلَ هذا الصباح سيكون رحيم عليه .
نهض كمومياء و اقترب من النافذة .. كان يرسل زفير بكل رمشة عين حتى بانت ضلوع صدره .. يحمله الحاضر الغادر الى الماضي الحنون : ” كنت أتمناك يا حاضر كبقية حاضر الناس , لو عرفتك بأنك حيدتني عن مسرات دنياك .. ما أبقيتٌني لتعبث بي كدمية من صوف يحملها الريح كيفما هب جلس على كرسي خشبي و بين يديه قلم و ورقة . جعل فخذيه منضدة يكتب ما صعب عليه , خانته الكلمات و بحلق في الورقة البيضاء لكنه من حيث لم يفكر كتب : ” أنا أحبك لكني يا حبيبتي لا انفعك ” ثم توقف . أحس بنبضات قلبه تتسارع كأنما تريد التجمد , لكنه ميَز بين عوزه و حبه لها .. فوجد أن عوزه قد غلب حبه العظيم لها , و و اصل كتابة الرسالة : ” أنتِ من رضي قلبي بكِ .. لكني لا أصلح لعظيم روحك , أنا من فاتني قطار الحياة , لقد تجاوزتٌُ العقد الخمسين يا حبيبتي و بمركبة القطار الأخيرة و بحزمة من كتان رث , لمَ قدري كل أحلامي و عقد أن يكون مآلها نفاية تٌُُحرق بعود من كبريت .
ساحت من عينيه دمعتان حارتين مسحهما بكفه .. حزهُ حاله : ” سامحيني يا حبيبتي إن خذلت حبك , ليس من طبيعتي لكن طبيعة القدر هي من قضيتني .. أنا لا أستحقُ لا روحك و لا حبك .. يستحق من تبسمت له الدنيا . حبيبتي أنا اعتصمتُ بنزاهني حتى إنحط حالي , فلن أقدر حتى على إهدائك حفنة ورد من بياع الزهور . إسأليني حبيبتي كيف بي أن أعيش فقير الحال ؟ .. تكرم عليَ قدري أن تأويني دار أحد المحسنين و لأني عفيف .. يرغمني صاحب الدار بإعطائي دينار كل يوم
أحس بضيق بصدره : ” ليتني ما ولدت ردد بخلجات نفسه ” .. تمنى لو ولد بقاع أرض خالية من ظلم الناس , ألم يكفيه ظلم القدر ؟
على الأرض فانوس قربهٌُ إليه و زاد : ” كيف أٌنير لكِ الدار و أنا نور داري سوى فانوس رغِبته حتى فراشات الليل ؟ .. ثم أرخى رأسه الى الوراء و همد عن الكتابة .
كان له قط يسكن عند الجيران و يبيت عنده بالليل , كم من مرة منعه عنه , لكن القط يظل يموء أمام الباب حتى الفجر . ظن انه يريد مقاسمة أكله لكن القط كان كل ليلة يأتي و هو تخين البطن .. فأدرك أن القدر رحمه بقط ليؤنس وحدته : ” حبيبتي لو بإيدي , لكسوتكِ أحلى روب عروس لكن بخزانتي الحديدية قطعة قماش بالية كثيرة الثقوب أثبتها على نافذة الدار نهارا و بالليل أخلعها ليكون سواده ساترني من أعين الجيران
قفز القط على ركبتيه , فحمله نحو النافذة على صدره .. كان السواد سلطان زمانه و مكانه . مال بجسده في الهواء إنسل من صدره كأنما أدرك انه يريد الإنتحار .. مَوء عند رجليه طويلا لكنه بقى مدلي الرأس , ليقفز القط على خصره ثم على منكبيه , فعاد الى رشده و أكمل الرسالة : ” حبيبتي قلبي , ماذا تقولين في حبيب قهرته العفة فأصبح بين خيار ود الموت طوعا .. ماذا أهديك ِ في عيد ميلادك , أن أبرر غياب وهمي أُفوتُ به أسعد أيامك و عندها تقتنعين فقط بكلمة : ” احبك ؟
قنبعَ على الأرض , فتيل الفانوس يضمحل و حوله القط يخرخر . دعَك عينيه ثم حول نظره الى النافذة بعدها الى الباب .. كأنما اهتدى الى فكرة الانتحار , عاود كتابة الرسالة و الحزن يلفه
, عمري تمنيتكِ لكل عمري .. لكن قدري قطع على نفسه ان يُقدرني كما أنا و لا مسرات بدنيتي فلن أُتعسكِ معي و لأني أحبك سأرحل عنكِ لن أكون تعاسة حياتك
” وداع من فقير الحب “
غاص في صمت رهيب و راح يبحلق في الرسالة .. طواها و نوى بعثها مع أول خيط للشمس و لكنه أحتار في ثمن الغلاف والطابع .. رسالته بعيدة من وراء الضفة . فكر في من أحسن إليه لكن عفته منعته . كان له دينار و احد لجرعة غاز الفانوس
أفرغه في فنجان ليدخره ليوم الغد و كنز ديناره للغلاف و الطابع
بان النهار , فثَبت قطعة القماش على حواشي إطار النافذة . وضع كمشة النعناع المجفف تغلي على فرن بوطاغاز ثم جلس على كرسه يرتشف كأس الشاى و حينما همً بغلق الغلاف , تذكر وصية أخيرة لحبيبته , ففرش الرسالة من جديد و راح يكتبها و لكنه و بضربة لا إرادية أسقط البوطاغاز المشعول على فنجان غاز الفانوس .. فاشتعلت النار و أمتدت الى تغليفة من تحتها كرطون كان له فراش . و ما بين النار و الرسالة راح يبحث عن موضع ليحمي رسالته من النار و دار بالدار كم من مرة فلم يجد مخبأ لها .. فما كان عليه إلا أن دسها بصدره يستره تريكو خشن . بوسادته كان يخمد النار فتتعالى الى دخان لتبقى شعلة تتلسن الى باقي الدار . غشًى الدخان كل مكان و هو وسطها يدور حتى إختنق فأغمى عليه و فجأة ظهر القط في غير ميعاده , قفز من النافذة ظل يدور حوله و هو يمُؤ .. جرهُ بمخالبه فغلبه ثقله , خدشهُ على وجهه لعل الألم يصحيه , هرع نحو الباب بمخالبه يحفر الترعة عسى جرعة هواء تنساب الى داخل الدار .
تعالت النار بعد الدخان , فيهما قفز القط نحو النافذة و نتفَ قطعة القماش _ عيون الجيران سترى الدخان _ لكنهم إعتادوا كل هذه السنين على طرف قماش ذي اللون الأسود . جرى الى مربيه , حام حول طاولة الفطور ثم ركب و بعثر ما عليها .. ظنوه جُنَ رجع يجري السطوح و علاَ مواءه لكن لم يشد بال أحد .
إلتهبت النار بالدار و طوقتِ الجسد الممدود تأكلُه حى , أحس دنو موته محروقا , فوضع يديه على صدر ه حتى لا تحترق رسالته .
وقف القط على النافذة يمُوء و لكن لا جار بان و لا أد دان .. راح يقفز منها من فرط النار , لكنه تراجع ليسقط وسطها و على غير عادة الغريزة لم يفر القط و النار تحوط الجسدين . على صدره تَكَومَ القط و هو يخرخر و لهيب النار يأكل كل الدار
عندما توارت الشمس, كان خبره قد شاع : انتحر وحيد الدار،و زادت الشرطة : “انتحر مختلس البنك الشعبي بعدما حوصر من طرف رجالنا و تبادل لإطلاق النار” وبالبنط العريض كتبت أغلب الصحف: احترق مختلس البنك الشعبي و معه ملايير الشعب .