الوشاح الجميل

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

لينا أبو بكر

المكان : رحلة موت بين لندن والصين

الزمن : بدايات القرن العشرين

فيلم هذا الأسبوع هو فيلم روائي، مقتبس من رواية تحمل نفس الاسم للكاتب المسرحي والروائي 'William.Somerset Maugham '1874- 1965، وهذه النسخة التي سنناولها هي النسخة السينمائية الثالثة لذات الرواية، والتي تم إنتاجها في العام 2006، وأخرجها John Curran, قامت بالبطولة النسائية فيه Naomi Was وشاركها البطولة Edward Norton أما النسخة السينمائية الأولى فتم إنتاجها العام1934 'قام بدوري البطولة فيه كل من ' Greta GarboوHerbert Marshal'، بينما نسخة العام 1957 فكانت من بطولةBillTraver ، Eleanor Parkers وقد حملت هذه النسخة اسما آخر هو 'الخطيئة السابعة'.

تم تصوير أغلبية المشاهد في مدينة شنغهاي ‘الصين ‘بإصرار من مخرج العمل على أن يتضح هذا للمشاهد كحقيقة تنتمي لمتن الرواية المكاني، لذا فإنه لم يلجأ إلى أية مدن بديلة قد تكون تقريبية او مشابهة لطبيعة المكان الروائي، كالمكسيك او إيطاليا او كندا، علما بأن مخرج العمل اقتبس بعض المشاهد من العمل الروائي

To Change China للكاتب Jonathan Spence…’ وأضافها إلى الفيلم.

Maugham‘ أخذ اسم الرواية من سوناته شعرية للشاعر الإنكليزي المشهور’ ‘Percy Byhe Shelley 1792- 1822‘ والذي ينتمي إلى التيار الرومانسي، حيث قدم لعمله ذاك بهذه العبارة: ‘الحياة ليست ذلك الوشاح الجميل، لأولئك الأحياء، الذين يسمونه: ‘حياة’

أما كاتب الرواية فقد كان من أشهر مؤلفي عصره، عاش حياة جارحة، رغم أنه ينتمي إلى سلالة دبلوماسية وقانونية حيث كان جده محاميا، و أبوه مسؤول الشؤون القانونية في السفارة البريطانية بفرنسا، والذي جنبه ويلات الحرب لما أصر على ولادته في السفارة البريطانية حينما أصدرت السلطات الفرنسية قانونا يقضي بتجنيد كل من يولد على أرض فرنسا ضمن صفوفها الحربية، إلا أن ويلات الحياة وقفت له بالمرصاد فإصابة والدته بالسل دفع العائلة لإدخاله مدرسة داخلية منذ سن الثالثة، لتتوفى أمه وهو بعيد عنها بعد ستة أيام من وضع جنين ميت وعمرها لم يتجاوز 41، مما أثر به كثيرا وهو الذي ظل يحتفظ بصورتها حد سريره حتى مات عن عمر 91 عاما بمدينة نيس الفرنسية.

صدمته الحياة بعد عامين إذ لحق والده بامه متوفيا بالسرطان، ليسترده عمه الراهب ‘راعي كنيسة’ في محافظة ‘كنت’ البريطانية ‘وهناك يعاني ‘وليام’ من برودة وقسوة عمه، فلقد كان محظورا عليه في بيئة مدجنة أن يطلع على تعابير البشر ومشاعرهم، لقد كان هادئا منطويا، تعرض للكثير من السخرية من محيطه في المدرسة والمجتمع لقصر قامته التي ورثها عن أبيه وللغته الإنكليزية المكسرة حيث كانت لغته الاولى هي الفرنسية، أثر ذلك فيه فيما بعد ليغذي لديه حس السخرية والانتقام في كتاباته، ومن خلال شخوصه الروائية ولغته.

له العديد من الاعمال الأدبية المشهورة، والتي تم اقتباسها وتحويلها إلى أعمال سينمائية لأكثر من مرة، كان أحدها كما ذكرت هذا العمل الضخم.

الفيلم يبدأ مع عائلة ‘Garstin‘ الإنكليزية الميسورة، حيث الأم هي السلطة المستبدة، التي تشكل قراراتها مقبض الإدارة لشؤون العائلة، وتحتل مسألة زواج ابنتها الكبرى ‘كيتي’ التي تجسدها’ Wasأولويات اهتمامها، مما يعكس طبيعة الظرف الزمني التي كانت تمر به الطقوس العائلية في الهيكل الاجتماعي للمجتمع البريطاني، فمازالت العائلة الإنكليزية حتى ذاك الوقت تميل إلى المحافظة، و بناء النظام الأسري الشرعي عبر مؤسسة الزواج.

تتم تهيئة الاجواء المناسبة ضمن إحدى الحفلات الارستقراطية لهذه الشابة الجميلة كي تقوم باقتناص رجل المستقبل، منذ اللحظة الأولى لانضمامها إلى الحفلة يختطفها رجل إنكليزي الملامح والهيئة، يدور بينهما حديث عابر، تختطف به قلب الرجل، وتأسر جنونه، وقد أتى من الصين إلى لندن في عطلة يعود بعدها ليستكمل بحوثه الطبية في مختبر حكومي تم تهيئته خصيصا له مع مجموعة من المتطوعين والأختصاصيين ليحدوا من انتشار الأوبئة المعدية والكوليرا في الكثير من البلدات الصينية. يتقدم لخطبتها، وتتم أمور الزواج حسب التقاليد الانكليزية، وتسافر ‘كيتي’ مع زوجها ‘Dr. Walter Fane‘ والذي تزوجت به تحت الضغوط العائلية الثقيلة، فهي في حقيقة الأمر لم تكن تحبه، الزواج بالنسبة إليها كان قناعا للهرب لا أكثر. ففي شنغهاي حيث تقيم العائلة تشعر ‘كيتي’ بالملل بعد مدة بسيطة، تحاول أن تتعرف على بعض الإنكليز هناك، فتلتقي دبلوماسيا بريطانيا متزوجا، ولكنه زير نساء، يعرف كيف يتمكن من قلب امرأة انكليزية تسكن منفى مريضا، رأت به وطنا، ‘على اعتباره قناعا’ انجذبت إلى أناقته وخبثه ‘على اعتباره وجها حقيقيا ‘فكان ملاذها من فراغ ثقيل، استطاعت معه أن تهرب من قرارها الذي هو ‘القناع الرئيسي’ في الرواية ‘- قرار الزواج بوالتر ـ ذاك الذي لم تستطع أن تقترب منه لأنها لم تكن ترغب بذلك، كل ما أرادته هو الهروب ‘قناع الإنقاذ’- إن جاز التعبير- من الأطر العائلية. كانت دراسات ‘والتر’ حول الكوليرا سببا آخر في إحالة الزواج إلى فريضة اجتماعية لا أكثر، لتغدو بدورها ‘قناعا حاجزا ‘لم يتمكنا من القفز فوقه لإدراك الوجوه الحقيقية للأقنعة، فأين يذهب الحب؟ كيف يغيب؟ هل يمحى؟ أم يصاب بعدوى الأقنعة؟

يكتشف الدكتور خيانة زوجته، فيقوم بإنذارها بأمرين، إما أن يطلقها بداعي الزنى، وإما أن ترافقه في رحلته إلى البر الصيني، لا بد أن في الخيارين هلاك واحد، فما بين الفضيحة وسط العائلة والمجتمع ثم النبذ الجماعي الذي ستواجهه مجرد انكشف امرها، وما بين السفر إلى بلاد الموت حيث الكوليرا تأكل البشر دون هوادة!

قرارها هنا لابد ان يكون المخلص من هلاكين لاثالث لهما إلا العشيق ‘شارلز’ حيث تهرع إليه لتعلمه بالأمر طالبة منه تطليق زوجته ليتزوج بها وينقذها من زوجها. إلا أنها تصطدم بالوجه الحقيقي لحظة سقوط القناع الأول في الحكاية حيث يرفض هذا أن يترك زوجته من أجلها،لتعود خائبة ومذهولة، وتختار ذات القرار ‘قناع الإنقاذ’ زوجها مجددا، الهروب معه من الفضيحة إلى الموت.

تستغرق الرحلة أسبوعين كاملين، يعتمد بهما ‘والتر’ سلوك اوعر الطرق وأطولها مسافة، كنوع من العقاب لزوجته الخائنة، فالرحلة أيضا قناع الانتقام، لاحظ كم وشاحا أو قناعا يمكن له أن يخبئ الوجوه المتنكرة بالحقيقة؟

كان باديا التعب والاكتئاب على ‘كيتي’ خلال الرحلة، بينما كان ‘والتر’ جامدا متلبد الشعور أمام محنتها.

كانت هذه رحلة العزلة، رحلة العقاب الحقيقي للخيانة لما تكون الخيانة وشاحا واهما ومزيفا للحب، لا يتبقى غير الصدمة والندم. في البداية قلما كان الاثنان يتحدثان إلى بعضهما، حاولت هي كسر ذلك الجمود ببعض الأحاديث الصغيرة إلا أنها لم تنجح في ذلك، فقررت أن تخرج من ذلك القناع ‘الانتقام’ أن تتغلب على الرحلة، على العزلة، على الخيانة! ليسقط هنا القناع الثاني في الحكاية.

قامت بالتطوع في ميتم تشرف عليه مجموعة من الراهبات الفرنسيات، لتعينها مديرة الميتم في غرفة الموسيقى، لتبتدئ رحلة التآلف مع الرحلة! كان الدكتور ‘والتر’ يزور الميتم خارج اوقات عمله في مخبره، تتفاجأ ‘كيتي ‘لما تكتشف من الأم الراهبة أن زوجها كثيرا ما يتردد على الميتم ويتفقد الأطفال ويحدثهم لانه يحب الأطفال كثيرا، هذا هو القناع الخفي، على اعتباره الوجه الحقيقي لزوجها الصنم! فالصنم كان هو القناع الثالث الذي يسقط في الحكاية ليتوالى سقوط الوجوه لقناع واحد هو الحب!

بدأت تكتشف ذاك الوجه، وتقترب من حضن لطالما هجرته ونبذته، عادت إليه كي تغمر قلبها بدفئه وتشرب من حنانه، فترتدي الحب وشاحا لا وجها!

لكن السؤال: هل فات الأوان؟ هل الحب دائما يجيء في الوقت الضائع من الحكاية ؟ هل يغفر الحب للخيانة؟ أم ان الحب لا يغفر إلا بالموت؟ هل الحب هو الوجه الحقيقي للقناع أم ان القناع هو الوجه الآخر للحب؟

المذاق هذه المرة مختلف، فهذا الغريب الذي كان، هو الآن أقرب إليها من الحياة، وما انتقامه من خيانتها إلا رأفة بها من انتقام الخيانة منها، ولأن الزمن كان قصيرا جدا بين رحلة الأقنعة تلك، فإنها لم تكن تعلم تماما ابن من ذاك الذي تحمله في أحشائها، ياتي ‘والتر’ إلى الميتم مسرعا وقد علم ان زوجته ليست بخير، تسود بينهما لهفة غامضة، فالغموض جسر يعبر به القلبان حاجز الأقنعة!

في اللحظة التي يتم فيها السيطرة على الكوليرا تتدفق أفواج من اللاجئين المرضى من البلدات المجاورة مما يضطر والتر لإشادة مخيمات تؤويهم بعيدا عن مركز المدينة، وهنا يصاب بالكوليرا، وهي إذ تعلم ذلك تهرع إلى المخيم للعناية به وتمريضه، لتجسد هذه اللحظات أجمل لقطات الشاشة السينمائية، فالألفة في آخر رمق لها مذاق الاستجداء على بوابة الموت، الرعشات الحميمة بين امرأة تتوضأ بالموت من إثم غادر، وبين حبيب يأخذ قلبها إلى حيث يتدثر الحب بالوشاح الأخير ‘التراب’ فأي عقاب؟ بل اسأل أي غفران كان ذاك؟

تعود ‘كيتي’ إلى لندن ومعها ابنها ‘والتر’ لتزيل القناع الأخير عن وجه الحكاية، حيث تلتقي ذلك الدبلوماسي صدفة، تسلم عليه وينظر بتمعن إلى ابنها الذي تقدمه إليه باسم ‘ولتر’ يعرض عليها أن يلتقيا لكنها ترفض، فتسترد قناعها الأول كي تنقذ الحكاية ‘قناع الهروب من وجه الحياة القبيح’ إلى حضن ‘والتر’ ابنها، أليس هذا هو الوشاح الأجمل الأول والأخير في الحكاية؟

لا شك ان الكاتب يحضر في روايته من خلال النزعات الانتقامية والإنسانية، يحضر على هيئة ميتم، وأحيانا على هيئة قناع هو النبض السينمائي للعمل الروائي.يحضر برواية أخرى تخالف قليلا الرواية الاصلية إلا أنها لا تنشطر عنها. المشهد السينمائي والنهر الصيني Lijiang River المتدفق من بين جبال خضراء كفردوس تمثل للشفاء، ثم الأقنعة التي استحوذت على أدوار البطولة في عمل سينمائي مذهل كان المشهد المكاني فيه حاضرا بقوة، المكان بؤرة الأقنعة، وكاميرا الحدث، انظر إلى الفقر والمرض، والنهر والجبال، إلى البيوت، إلى البشر، استمع إلى اللغة إلى صوت الغربة، تدرك حقيقة ان يكون المكان حقيقيا في العمل السينمائي، وهذا ما يرجح معيار الصدق و الانتماء إلى العمل.

ما يثير للدهشة هو أنه ورغم أن الفيلم يعود إلى شاشات السينما في نسخته الثالثة بعد ما يقارب النصف قرن فإنه لم يتم ترشيحه لأية فئة من جوائز الأوسكار، وتكاد تكون جائزة ‘الغولدن غلوب ‘لأفضل سيناريو سينمائي، هي أحدى جوائز قليلة جدا نالها الفيلم بالإضافة إلى جوائز اخرى عن البطولة الذكورية استحقها ‘Norton‘.

المثير أيضا أن الفيلم حقق ما نسبته ’73 أي ما يستند إلى 133 استطلاعا استحق بها الرجم بـ’الطماطم الفاسدة’ وهو اسم لموقع الكتروني يعبر عن الوفاء إلى تقليد جماهيري اتبع منذ زمن يقضي برجم الأعمال السينمائية الأسوأ بالطماطم الفاسدة!

فمن نصدق؟ الكوليرا وهي تختطف الحب من وشاح الحياة أم الطماطم الفاسدة؟ ثم ماذا يتحكم بذائقة الجمهور ولجان التحكيم في هذا الغرب العجيب؟ هل السينما صندوق الدنيا أم صندوق الطماطم، والأزهار المعتقة؟ ام أنها ذاتها لعبة الأقنعة؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

شاعرة وكاتبة فلسطينية – لندن

نقلا عن القدس العربي

مقالات من نفس القسم