“الوداع في مثلث صغير”.. رحلة على متن قارب الشعر

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. جليلة الخليع

(إلى كاظم جهاد

«لا رغبة لدي في سرد أهوال الرحلة»

ك. ج).

بهذا الإهداء الشعري للشاعر العراقي كاظم جهاد، استهل الشاعر أحمد يماني رحلته هو، إهداء للشاعر منه وإليه، لم يكن إهداء بالمعنى الحرفي للعبارة. ربما هي تجربة مماثلة، غربة تدرك شبيهاتها في دواوين الحياة. نظرة أخرى للوجود أو هو تبنٍ لمفهوم ما، فكرة ما عن رحلة الحياة الشاقة.

كنت في رحلة لا أعرف متى تنتهي
لكنني لم أكن مسافرا
ولا منفيا ولا مناضلا
كنت في رحلة يعود البعض منها
لم أكن مهاجرا
هذا ما قلته للجميع
وعين السائح، العميقة أحيانا
كانت معصوبة لدي
عصبتها بنفسي
ماذا أفعل بعين كهذه؟

هي رحلة ما بين لغتين، لغة تعلمها كبيرا ولغة تعلمها صغيرا، رحلة ما بين وعي ووعي، وعي ببساطة الأشياء، ووعي بعمقها وتعقيدها. رحلة من الرأس إلى القدم عبر خط يمتد من الجبهة إلى القدم. هو خط مغاير لخط الحياة التي اعتادت العرّافة قراءته على كف من يرغبون في معرفة مسارات حياتهم، خط لا يعلم كنهه إلا الشاعر وهو من يستطيع فك شيفراته. هو ذلك الخيط الرفيع الذي امتد من رأس الحياة إلى خط الوداع.

أمد يدي على استقامتها
أخفضها وأهز رأسي،
وأحاول أن أشرح في لغة تعلمتها كبيرا
ذلك الخط الذي يمتد من جبهتي حتى القدمين
الخيط الذي ينسل وينقطع ويهدأ قليلا
لكنه يعود لشد أجزائي
ويطوحني على أقرب مقعد.
أحاول أن أشرح ذلك أيضا
في لغة تعلمتها صغيرا.

هكذا كانت الرحلة في كل نصوص الديوان تقريبا وإن اختلفت مضامينها، رحلة من غرفة لغرفة، من بيت لبيت، من شارع لشارع، رحلة من الجنوب إلى الشمال ومن الشرق إلى الغرب، رحلة من الذات لذوات أخرى، رحلة من الواقع للذاكرة، رحلة تأمل عميق، بين الجلوس والوقوف، بين المشي والعجز، بين الرِجل واليد.

أفكر في يد هذه المرأة

لا أفكر في كرسيها المتحرك

 على حصى صغير،

أفكر في يدها وأتأملها كقطعة نقود جديدة لن أنفقها،

هي تسقط نظرتها على رجلي مباشرة.

هي رحلة أيضا من الضحكة إلى الحزن:

          أردت أن أختبر قبضتي عليها منذ أيام، لكنها كانت أذكى من يدي، لقد اختفت مرة واحدة، طارت في الهواء لتلحق بالضحكات والأصوات التي تحيط بِنا في الأعالي على بعد أمتار قليلة من رؤوسنا. أسماها البعض ضحكة الغريب، أنا لم أسمها، أنا لست غريبا، الغرباء سعداء وأنا لست غريبا.

رحلة من ألم غائر، لعلاج عميق.  فقط كانت تكفيه ليلة كاملة من الكتابة، هي ليلة مقايضة بين الجرح والدواء:

مقابل كل ألم كبير امنحني قصيدة،

مقابل كل حبيبة ذهبت امنحني كتابا،

مقابل كل نظرة كسيرة بيتا من الشعر،

وفي مقابل شرور البشر امنحني ليلة كاملة

أكتب فيها ثم أنام في الخامسة صباحا

ناسيا شرورهم.

هي الرحلة بالقدم: القدم اليمنى /القدم اليسرى /بالخطوة/ بالمشي بالتقدم والاندفاع بالصعود والنزول/بالتحرك/بالطيران ./من الأمس إلى اليوم /ومن اليوم إلى الغد/من النوم إلى الصحو/ومن الصحو إلى النوم الأبدي.

معجم الديوان هو دبيب الحياة فينا، ويتقلص هذا الدبيب ويذوب بالموت والوداع .

هي الرحلة الشاقة التي حاول ألا يسرد أهوالها لكن الشعر كان له رأي آخر مادام غير قادر على الصمت.

يقول الشاعر والباحث الأكاديمي المغربي الدكتورأحمد بلحاج آيت وارهام: «الشعر هو عري اللغة. الشعر قادر على إنشاء وجود للوجود، تتكلم فيه اللغة بكامل عريها في أعالي الذات… لكنه غير قادر على الصمت، لكونه النبضَ المعافى للزمن».

هكذا استطاع الشاعر أن ينشئ وجودا خاصا أحاطه بأضلاع متساوية الساقين وزاوية قائمة ومن رأس المثلث كان يقيس ارتفاع الوجود ويرقب الرحلة من بداية لم يعيها جيدا ونهاية يدقق في تفاصيلها. هي إعادة النظر في حياته أو في الحياة عموما ومحاولة فهمها.

هو بحث في الذات عن الذات. بحث في الحياة عن الحياة والموت، وبحث في الموت عما كان في الماضي حياة. فالشاعر موجود في ثنايا المتاهات التي ابتدعها في كتاباته هو اعتراف بالشعر للشعر، تخفيف النفس مما يثقلها.

هكذا كانت الرحلة صعودا إلى قمة الأسئلة وتعمقا في أنسجة الأجوبة، فكان السؤال بالشعر للشعر:

هل أنت الذي ذهب إلى كائن يكتب منذ خمسين عاما أو مائتين أو أول أمس؟ هل توزع عطاياك الصغيرة على الجميع حتى ينام الجميع هانئين؟ وإذا ما ناموا فهل سوف يصحون؟ هل أنت الذي يشرد في الحقول الواسعة ويكتشفه طالب أدب في سنته الأولى؟

رحلة في متاهة الكون العميق الفسيح، تيه بصيغ عديدة…

تيه في الكون الكبير، عبور إلى ما يعبر إليه، طريق لا تحفه أشجار ولا أرصفة، طرق عظيمة حيث الأرواح تتخبط هناك في غليان أبدي.

لم يكن شارعا واحدا أو بلدا، لم تكن قارة أو غرفة، كانت ذاته التي يسكنها ويسافر فيها عبر أسئلته الوجودية:

خمسة شوارع بين طريق الأهرام والترعة الكبيرة كانت أكثر من كافية ليصاب رأسي بكل أنواع الهذيان.

هنا تمازج الحالات ، ما هو نفسي ذاتي وما هو خارج عنها ، تمازج الطبيعة بكل تناقضاتها، انصهار الحركة مع التوقف، والنوم مع اليقظة، الحب مع الكراهية.

كانت الكتل مفككة، استطاع الشعر بطريقته التكعيبية أن يجمعها قطعة قطعة، ويرصفها لوحة واحدة تناسقت أجزاءها رغم كل الظروف المتاحة لتنافرها.

في منتصف السرير

وأنا جالس خلف الوسادة

أرى وجهها مقلوبا.

تبدأ بالكلام ويظهر فكها السفلي

متحركا حرا في الهواء

ثم الضحكة

تبرز الأسنان

وبدت فيها بوضوح تلك الفكرة القائلة

إن الحياة بلا معنى.

الفك السفلي متحركا في الهواء

في حياة بلا معنى.

هكذا استطاع بعصاه السحرية الشعرية أن يحرر الحروف من قبضة الحياة و يدحرجها للموت، للوداع. كان الديوان احتفاء بالموت وليس بالحياة رغم حبه العميق لها:

حاولت كثيرا أن أبقى هنا
فعلت كل ما أمكنني
لكن حياتي كانت تتدحرج
كأي شيء يسقط من علٍ.

هو الموت اختفاء للأزمنة، تدحرج للحياة وسقوط من علٍ. الموت قبل أن يكون فقدا هو تهديد:

اليوم رأيت الموت
على وجه أحد زملاء العمل
لكنه لم يمت
لقد جاء إليّ أنا
وأرادني أن أراه
في وجه أحدهم
كتمهيد ربما أو تهديد.

التهديد ترقب لشيء قادم، للحظة لابد منها، طالت أم قصرت، لكن هذا الترقب فيه نوع من التحسر، تحسر على أشياء جميلة رصعت الحياة:

قد يكون غدا صباحا، فجرا، بعد منتصف الليل.

لكن الأفضل بعد غد، بعد شهر، بعد أربعين سنة.

 فقط تؤلمني ضحكتي وضحكات البشر التي صاحبتني طوال الحياة.

كان لابد للضحكة أن تكون الأبدية،

الموت حديث سري مع «بالوما» التي حلقت بأجنحة الحياة نحو الموت.

الموت هو نوم بلا أحلام فتح للباب ولا يمكن إغلاقه بعد ذلك.

كان أبي يود لو ينام
نسي الطعام والشراب
وبقي النوم وحده أمله الأخير
نوما بلا أحلام.
أنا لا أريد النوم
لدي محاورات طويلة
والليل قصير.

أنا نفسي فتحت باب البيت
أدخلت الجميع إلى الصالة
ثم تحركوا وحدهم.
ما إن تفتح باب الشقة
حتى لا يمكنك إغلاقه
ذلك الشرط الذي لم يخبرك به أحد

كانت الرحلة الطويلة وكان شاعرنا يرقب فيها انهيار كل شيء، انهيار الحياة بدقة، انزلاق العمر وهو يفقد أحذيته. رغم ذلك كان متأملا، مدركا مسار الرحلة، يضع لكل مقام غطاء:

كل انهيار جديد لجسدي أكافئه بملابس جديدة،

مع السقوط الجماعي للشعر أشتري جاكتا،

مع ابيضاض الحاجبين حذاء طويلا،

مع تجاعيد الجبهة بنطلونا،

ولانحناءة الكتف كوفية صوفية.

 لست متأسياً على الفقد ولا فرحا بالاكتساب،

فقط أضع لكل مقام غطاء.

كان الشاعر مشاء قديما عابرا للحياة من الموت،

توقفت رجلي اليسرى عن الحركة

ثم تبعتها اليمنى،

وهو شيء لم تفهمه بقية الأعضاء التي كانت تتقدم غير آبهة بشيء

لكنها توقفت كذلك.

ثم سقطت على الأرض

ثم ظللت نائما على العشب

ثم مر الجميع متألمين لأجلي

وفجأة ارتفعت الرجل اليسرى وحدها

وتبعها باقي الجسد

وعدت من حيث أتيت.

 وكأنه يذكرنا بما قاله السموأل:

ميتا خلقت ولم أكن من قبلها    شيئا يموت ومت حيث حييت

وأموت أخرى بعدها ولأعلمن     إن كان ينفع أنني سأموت

كنت مطرقة السمع لدبيب الموت في الديوان، ربما أغفلت نوافذ الحياة فيه، ربما كنت أقرأ فيه ذاتي المضطربة بالموت، أستجدي جوابا من أسئلته الكثيرة التي لم تفصح عن استفهاماتها.

 لكن الوداع في مثلث صغير يجعل القارئ أمام مغاليق شتى يجرب معها مفاتيح عديدة، فيقترب من الفكر العميق والشعر .

فهنيئا للشاعر المبدع د. أحمد يماني على هذا الإبداع الشعري المتفرد.

…………………

*صدر ديوان «الوداع في مثلث صغير» للشاعر أحمد يماني في طبعتين متزامنتين عام 2021 عن دار ميريت، القاهرة، بغلاف للفنان أحمد اللباد وعن منشورات المتوسط، ميلانو، بغلاف للشاعر والفنان خالد الناصري.

 

مقالات من نفس القسم