يعمل (ايونا بوتابوف) حوذياً؛ أي أنه شخص تحتم على حياته أن تُفنى بين صنوف عديدة من الغرباء الذين تحملهم زحافته كل يوم، وتجوب بهم الشوارع لتنقلهم من مكان إلى مكان .. ربما لو وجّه أحد ما ـ بشكل عابر ـ سؤالاً لهذا الحوذي داخل رتابة الأحوال العادية عن رؤيته لطبيعة البشر لأجاب دون تردد بابتسامة متحسرة، وصوت منكسر، وربما مع هزة رأس متيقنة بأنهم متغطرسون، قساة القلوب، لا يبالون بمشاعر الآخرين .. لكن هؤلاء هم البشر الذي سيحاول الحوذي نفسه أن يحصل منهم على التعاطف حينما يموت ابنه .. المواساة التي لا تعني أكثر من مجرد الاستماع لتفاصيل مرض الابن ووفاته وجنازته وابداء ـ ولو بشكل زائف ـ الحزن اللائق بالفاجعة ..
إن (بوتابوف) ليس مجرد إنسان معذب تضاعفت آلامه بالحرمان من العزاء بعد فقد ابنه، ولكنه أيضاً إنسان عادي تتراجع خبرته بالحياة في أوقات المصائب ليتوقع حدوث معجزة، واثقا أن تحققها أمر بديهي للغاية .. يكمن العذاب إذن في أنه لا يوجد بشر آخرون سوى هؤلاء الذين تُفنى حياة الحوذي بينهم، لذا فهو مجبر دائماً على محاولة انتزاع ما هو في أشد الاحتياج إليه من داخل كائنات أبعد من أن تمتلكه .. ليس أمامه سوى أن يقاوم صلابة خبرته بالبشر، وأن يتحرك بسلوك مضاد لما تؤكده المعرفة الراسخة في أعماقه عن طبيعتهم .. إذا كان الحوذي على استعداد لقبول أي نوع من المنطق في خسارة ابنه فعلى الأقل لماذا لا يكون الحصول على التعاطف مع خسارته حدثاً منطقياً أيضاً رغم كل شيء؟ .. هكذا يفكر الحوذي المضطر إلى التحرك باتجاه هؤلاء الذين لا يعرف سواهم، وهنا يمكنك أن تعرف قيمة حيوان كالحصان أكثر من أي وقت آخر.
هل من الممكن تفادي التفكير في أن (ايونا بوتابوف) واحد من هؤلاء البشر الذين يمكنهم في لحظة ما أن يتسموا بالغطرسة وقسوة القلب واللامبالاة بمشاعر الآخرين؟ .. من يستطيع أن يجزم بأن السلوك المعبّر عن هذه الصفات يقتصر على مظاهر نمطية ثابتة غير قابلة للاتساع، تتضمن عدم منح العزاء لأب مات ابنه منذ فترة قصيرة؟ .. إن (بوتابوف) يمكنه أن يتسم داخل أزمة لا تخصه بأي من الخصال التي يمكن وصفها تلقائياً بالرذائل دون أن يحرم أحداً من فضيلة المواساة .. أتذكر الآن ما كتبه (فرانك أوكونور) عن قصة (الشقاء) لـ (أنطون تشيكوف) في كتابه (الصوت المنفرد): (عملاء سائق العربة العجوز أناس مثلنا تماماً. أناس مشغولون، مغلفون في اهتماماتهم الخاصة. وإذا كانوا قد كسروا قلب الرجل العجوز من الوحدة فإن ذلك ما قد نفعله نحن أنفسنا) .. بدا لي هذا الرأي في الماضي البعيد مجحفاً حد الحماقة المسرفة .. حكم سخيف، غير عادل، ولا يمكن تعميمه .. كنت موقناً تماماً ـ كما يليق بولد صغير يخطو خارج طفولته ـ بأنه من المستحيل أن يأتي اليوم الذي أمارس فيه هذه الوحشية التي ارتكبها الركاب ضد الحوذي العجوز .. لكنني الآن ـ بعدما واصلت الحياة متجاوزاً هذا الماضي ـ لازلت أحصد التأكيدات المتلاحقة على أنه داخل الجحيم يمكن لأي سلوك أن يكون وحشياً بطريقة أو بأخرى مهما كانت دوافعه أو عدم وضوح تأثيره أو مهما بلغت قوة الانتماء إلى أي خرافة أخلاقية يمكنه التحصن بها.
الشقاء
أنطون تشيخوف
غسق المساء.. ندف الثلج الكبيرة الرطبة تدور بكسل حول مصابيح الشارع التي أضيئت لتوها، وتترسب طبقة رقيقة لينة على أسطح المنازل وظهور الخيل, وعلى الأكتاف والقبعات.. والحَوذي (ايونا بوتابوف) أبيض تماماً كالشبح.. انحنى متقوسا، بقدر ما يستطيع الجسد الحي أن يتقوس وهو جالس على المقعد بلا حراك.. ويبدو أنه لو سقط عليه كوم كامل من الثلج فربما ما وجد ضرورة لنفضه وفرسه أيضاً بيضاء تقف بلا حراك وتبدو بوقفتها الجامدة وعدم تناسق بدنها وقوائمها المستقيمة كالعصي حتى عن قرب أشبه بحصان الحلوى الرخيص، وهى على الأرجح مستغرقة في التفكير؛ فمن أُنتزع من المحراث من المشاهد الريفية المألوفة وأُلقي به هنا في هذه الدوامة المليئة بالأضواء الخرافية و الصخب المتواصل والناس الراكضين لا يمكن إلا أن يفكر.
لم يتحرك ايونا وفرسه من مكانهما منذ وقت طويل. كانا قد خرجا من الدار قبل الغداء ولكنهما لم يستفتحا حتى الآن، وها هو ظلام المساء يهبط على المدينة، ويتراجع شحوب أضواء المصابيح مفسحاً مكانه للألوان الحية, وتعلو ضوضاء الشارع .
ويسمع ايونا : يا حوذي! إلى فيبورجسكا ! يا حوذي!
ينتفض ايونا و يرى، من خلال رموشه المكللة بالثلج، رجلاً عسكرياً في معطفه بقلنسوة. ويردّد العسكري : إلى فيبورجسكايا, ماذا هل أنت نائم؟ إلى فيبورجسكايا! ويشد أيونا اللجام؛ علامة الموافقة، فتتساقط إثر ذلك طبقات الثلج من على ظهر الفرس ومن على كتفيه ويجلس العسكري في الزحافة، ويطقطق الحوذي بشفتيه ويمد عنقه كالبجعة وينهض قليلا ويلوح بالسوط بحكم العادة أكثر مما هو بدافع الحاجة وتمد الفرس أيضا عنقها, وتعوج سيقانها وتتحرك من مكانها بتردد وما إن يمضي ايونا بالزحافة حتى يسمع صيحات من الحشد المظلم المتحرك جيئة وذهاباً: إلى أين تندفع أيها الأحمق! أي شيطان ألقى بك؟ الزم يمينك! .. ويقول العسكري بانزعاج: أنت لاتجيد القيادة! الزم يمينك!
ويسبّه حوذي عربة حنطور، ويحدّق أحد المارة بغضب وكان يعبر الطريق فاصطدمتْ كتفه بعنق الفرس وينفض الثلج عن كمه، ويتململ ايونا فوق المقعد وكأنه جالس على جمر ويضرب بمرفقيه في كلا الجانبين ويدور بنظراته كالممسوس وكأنما لا يفهم أين هو ولماذا هو هنا.
ويسخر العسكري : يا لهم جميعا من أوغاد! كلهم يسعون إلى الاصطدام بك أو الوقوع تحت أرجل الفرس.. إنهم متآمرون ضدك.. يتطلع ايونا إلى الراكب ويحرك شفتيه….يبدو أنه يريد أن يقول شيئا ما ولكن لا يخرج من حلقه سوا الفحيح.
فيسأله العسكري: ماذا؟
يلوي ايونا فمه بابتسامة ويوتر حنجرته ويفح :
– أنا يا سيدي.. هذا الأسبوع ..ابني مات .
– ممم!.. مات إذن؟
يستدير ايونا بجسده كله نحو الراكب ويقول:
– ومن يدري؟ .. يبدو أنها الحمى .. رقد في المستشفى ثلاثة أيام ومات… مشيئة الله.
ويتردد في الظلام:
– حاسب يا ملعون ! هل عَميت أيها الكلب العجوز؟ افتح عينيك!
ويقول الراكب: هيا, هيا سِرْ، بهذه الطريقة لن نصل ولا غدا. عجّل!
ويمد الحوذي عنقه من جديد، وينهض قليلا ويلوّح بالسوط بحركة رشيقة متثاقلة، ويلتفت إلى الراكب عدة مرات ولكن الأخير كان قد أغمض عينيه ويبدو غير راغب في الإنصات. وبعد أن أنزله في فيبورجسكايا توقف عند إحدى الحانات، وانحنى متقوساً وهو جالس على مقعد الحوذي, وجَمُد بلا حراك مرة أخرى.. ومن جديد يصبغه الثلج الرطب؛ هو وفرسه باللون الأبيض، وتمر ساعة و أخرى.
على الرصيف يسير ثلاثة شبان وهم يطرقعون بأحذيتهم في صخب ويتبادلون السباب؛ اثنان منهم طويلان نحيفان والثالث قصير أحدب ويصيح الأحدب بصوت مرتعش:
– يا حوذي إلى جسر الشرطة! ثلاثة ركاب بعشرين كوبيكا.
يشدّ ايونا اللجام ويطقطق بشفتيه ليست العشرون كوبيكا بسعر مناسب ولكنه في شغل عن السعر! فسواء لديه روبل أم خمسة كوبيات المهم أن يكون هناك ركاب يقترب الشبان من الزحافة وهم يتدافعون بألفاظ نابية ويرتمي ثلاثتهم على المقعد دفعة واحدة. وتبدأ مناقشة حادة من الاثنين اللذين سيجلسان ومن الثالث الذي سيقف؟، وبعد سباب طويل ونزق وعتاب يصلون إلى حل : الأحدب هو الذي ينبغي أن يقف باعتباره الأصغر.. فيقول الأحدب بصوته المرتعش وهو يثبت أقدامه ويتنفس في قفا ايونا: هيا عجل! اضربها بالسوط! يا لها من قبعة لديك يا أخي! لن تجد في بطرسبرج كلها أسوأ منها فيقهقه ايونا : هذا هو الموجود!
– اسمع أنت أيها الموجود عَجّل، هل تسير هكذا طول الطريق؟ ألا تريد صفعة على قفاك؟
ويقول أحد الطويلين: رأسي يكاد ينفجر؛ شربت بالأمس أنا وفاسكا عند آل دوكماسوف أربع زجاجات كونياك نحن الاثنين.. ويقول الطويل الأخر بغضب: لا أدري ما الداعي للكذب ! يكذب كالحيوان .
– عليّ اللعنة إن لم تكن حقيقة…
– إنها حقيقة مثلما هي حقيقة أن القملة تسعل.
فيضحك ايونا: هىء هىء هىء .. سادة ظرفاء .
ـ فلتخطفك الشياطين! هل ستعجل أيها الوباء العجوز أم لا!
ـ هل هذا سير؟ ناولها بالسوط ! هيا أيها الشيطان! هيا! ناولها جيدا !
ويحس ايونا خلف ظهره بجسد الأحدب المتململ ورعشة صوته ويسمع السباب الموجه إليه ويرى الناس فيبدأ الشعور بالوحدة ينزاح عن صدره شيئا فشيئا. ويظل الأحدب يسب حتى يغص بسباب منتقى فاحش وينفجر في السعال. ويشرع الطويلان في الحديث عمن تدعى ناديجدا بتروفنا.
ويتطلع ايونا نحوهم وينتهز فرصة الصمت فيتطلع نحوهم ثانية ويتمتم:
– أصلا أنا..هذا الأسبوع..ابني مات!
فيتنهد الأحدب وهو يمسح شفتيه بعد السعال :
– كلنا سنموت..هيا عجل عجل.. يا سادة أنا لا يمكن أن أمضي بهذه الطريقة متى سيوصلنا؟
– حسنا فلتشجعه قليلا… في قفاه !
ـ هل سمعت أيها الوباء العجوز؟ سأكسر لك عنقك! التلطف مع جماعتكم معناه السير على الأقدام….هل تسمع أيها الثعبان الشرير؟ أم أنك تبصق على كلماتنا؟
ويسمع ايونا أكثر مما يحس بصوت الصفعة على قفاه.
فيضحك هىءهىءهىء سادة ظرفاء ربنا يعطيكم الصحة !
ويسأل أحد الطويلين: يا حوذي هل أنت متزوج؟
– أنا ! هىء هىء! سادة ظرفاء ! لم يعُد لديّ الآن إلا زوجة واحدة : الأرض الرطبة؛ أي القبر ! ..ها هو ابني قد مات و أنا أعيش.. شيء غريب؛ الموت أخطأ بوابته بدلاً من أن يأتيني ذهب إلى ابني… /
ويتلفت أيونا لكي يروي كيف مات ابنه ولكن الأحدب يتنهد بارتياح ويعلن أنهم أخيرا، والحمد لله، وصلوا.. ويحصل ايونا على العشرين كوبيكا، ويظل طويلاً في أثر العابثين وهم يختفون في ظلام المدخل وها هو وحيد ثانية ومن جديد يشمله السكون والوحشة التي هدأت قليلاً تعود تطبق على صدره بأقوى مما كان وتدور عينا ايونا بقلق وعذاب على الجموع المهرولة على جانبي الشارع : ألن يجد في هذه الآلاف واحدا يصغي إليه ؟ ! ولكن الجموع تُسرع دون أن تلاحظه أو تلاحظ وحشته؛ وحشة هائلة لا حدود لها.. لو أنّ صدر ايونا انفجر وسالتْ منه الوحشة فربما أغرقتْ الدنيا كلها، ومع ذلك لا أحد يراها.
لقد استطاعت أن تختبئ في صَدفة ضئيلة؛ فلن تُرى حتى في وَضَح النهار<<
يلمح ايونا بواباً يحمل قرطاساً فينوي أن يتحدث إليه ويسأله : كم الساعة الآن يا ولدي؟
– التاسعة.. لماذا تقف هنا .. امشِ.
يتحرك عدة أمتار ثم ينحني متقوسا ويستسلم للوحشة ويرى أنه لا فائدة بعد من مخاطبة الناس ولكن ما إن تمر بضع دقائق حتى يعتدل وينفض رأسه كأنما أحس بوخزة ألم حادة ويشد اللجام لم يعُد قادرًا على التحمل.
ويخاطب نفسه : إلى البيت .. إلى البيت !
وكأنما فهمت الفرس أفكاره فتبدأ في الركض بحماس، وبعد حوالي ساعة ونصف يكون ايونا جالسا بجوار فرن كبير قذر، وفوق الفرن وعلى الأرض وعلى الأرائك يتمدد أناس يشخرون، والجو مكتوم خانق…. يتطلع ايونا إلى النائمين، ويحك جلده ويأسف لعودته المبكرة إلى البيت ويقول لنفسه : لم أكسب حتى حق الشعير ولهذا أشعر بالوحشة، الرجل الذي يعرف عمله، الشابع هو وفرسه؛ دائما مطمئن البال..
في أحد الزوايا ينهض حوذي شاب، ويكح بصوت ناعس ويمد يديه إلى الدلو.. فيسأله ايونا: أتريد أن تشرب؟
– كما ترى .
– بالهناء والشفاء… أما أنا يا أخي فقد مات ابني هل سمعت؟ هذا الأسبوع في المستشفى… حكاية!
ويتطلع ايونا ليرى أي تأثير تركته كلماته ولكنه لا يرى شيئا؛ فقط تَغطًى الحَوذي الشاب حتى رأسه وغط في النوم، ويتنهد العجوز ويحك جلده فمثلما رغب الحوذي الشاب في الشرب يرغب هو في الحديث.. عما قريب يمر أسبوع منذ أن مات ابنه، بينما لم يتمكن حتى الآن من الحديث عن ذلك مع أحد كما يجب ..ضروري أن يتحدث بوضوح على مهل , ينبغي أن يروى كيف مرض ابنه وكيف تعذب وماذا قال قبل وفاته وكيف مات، ينبغي أن يصف جنازته وذهابه إلى المستشفى ليتسلم ثياب الفقيد، وفي القرية بقيت ابنته أنيسيا ينبغي أن يتحدث عنها أيضا وعموما فما أكثر ما يستطيع أن يروي الآن؛ ولا بد أن يتأوه السامع ويتنهد ويرثى والأفضل أن يتحدث مع النساء، فهؤلاء وإن كن حمقاوات يوَلونْ من كلمتين.
ويقول ايونا لنفسه : فلأذهب لأتفقد الفرس وفيما بعد سأشبع نوماً يرتدي الملابس ويذهب إلى الاصطبل حيث تقف الفرس ويفكر في الشعير والدريس و الجو فعندما يكون وحده لا يستطيع أن يفكر في ابنه ,يستطيع أن يتحدث عنه مع أحد، وأما أن يفكر فيه ويرسم لنفسه صورته فشيء رهيب لا يطاق.. ويسأل أيونا فرسه عندما يرى عينيها البراقتين
– تمضغين؟ حسنا امضغي أمضغي .. ما دمنا لم نكسب حق الشعير فسنأكل الدريس…نعم أنا كبرت على القيادة، كان المفروض أن يسوق ابني لا أنا، كان حوذيا أصيلا لو أنه فقط عاش.. ويصمت ايونا بعض الوقت ثم يواصل :
– هكذا يا أخي الفرس، لم يعد كوزما أيونيتش موجودا… رحل عنا..فجأة .. خسارة.. فلنفرض مثلا أن عندك مهراً وأنت أم لهذا المُهر.. ولنفرض أن هذا المهر رحل فجأة، أليس مؤسفا؟.
وتمضغ الفرس وتنصت وتزفر على يدي صاحبها، ويندمج ايونا فيحكي لها كل شيء