الكتابة الجيدة – كما أراها- هى تلك التى تطرح أسئلة شائكة وتتماس مع المسكوت عنه بمعناه الواسع.. هى التى تهدف لإقلاق القارئ واستفزازه، وهز يقينه الثابت، والرواية تحديدا هى نوع أدبى ضد اليقينى والمستقر، فمن بين السطور تتوالد مئات الاحتمالات والمعانى، التى ربما حتى لم يقصدها الكاتب بشكل مباشر، لأن للكلمات سلطتها الخاصة البعيدة عن سلطة مبدعها، اللغة خوّانة بطبيعتها، والعمل الجيد هو ذلك الذى يخون صاحبه، ويخلق لنفسه وجودا قائما بذاته، بحيث ينفتح على تأويلات جديدة مع كل قارئ.
هذه مقدمة لا غنى عنها قبل الحديث عن “الرواية الجديدة” فى مصر التى يحوطها الكثير من الالتباس، وعن تجربتى فى سياقها.
بشكل شخصى أنزعج بشدة من الميل المتوارث لوضع الجميع فى سلة واحدة لمجرد تواجدهم ـ بصدفة بحتة ـ فى جيل واحد.
توجد بالطبع روابط تجمع بين من تم الاصطلاح على تسميتهم بكتّاب الرواية الجديدة فى مصر، ولعل أهم هذه الروابط هو ذلك التوق الشديد لتجاوز الواقع إما عبر مزجه بالغرائبى أو السخرية الشديدة منه، أو التعامل معه بحياد مطلق، أو حتى رميه فى وجه القارئ بكل تناقضاته وفجاجته دون أى محاولة للفلترة.
كما تتسم الكتابة الجديدة أيضا فى معظمها بالتجرؤ على الكثير من المسلمات القديمة، وإعادة النظر فيها، سواء أكانت مسلمات سياسية أو دينية أو اجتماعية، وقبل كل ذلك تتسم بالإعلاء من شأن الهامشى والخافت، بل وحتى ما اُصطلح طويلاً على تصنيفه خارج نطاق الأدب الرفيع.
إلا أنه وفى الوقت نفسه توجد تباينات عديدة على مستوى الخبرة والتجربة والرؤية للعالم، إن أخطر ما يهدد الكتّاب الجدد فى مصر ـمن وجهة نظرى ـ هو ذلك الإصرار على التعامل معهم باعتبارهم كتلة واحدة متماثلة تكتب نصا واحدا.
لكن على أن اعترف أن بعض هؤلاء الكتّاب قد ساعدوا على ترسيخ هذا الاعتقاد، حين حصروا أنفسهم فى مساحة ضيقة مرددين، الأقوال التى صارت أكليشيهات بائسة مثل:” نحن لا نكتب إلا عن ذواتنا لأنها الشىء الوحيد الذين نعرفه”، وما إلى ذلك. لأن المقولات والتنظيرات المسبقة عادة ما تظلم الإبداع، كما أن هذه المقولات سمحت للكثيرين بالتجرؤ على فن الرواية دون توافر الموهبة أو الدراية الكافية بتقنياته. لقد تحول هذا النوع الأدبى في نظر البعض الى مجرد سرد لتجارب ذاتية ضيقة، وهو ما قد يؤدي بالرواية “الجديدة” في مصر إلى مأزق صعب، خاصة مع سهولة النشر وعدم وجود فرز نقدى حقيقى.
***
الكتابة السابقة فى معظمها، كانت تحاول تمثل الواقع ومحاكاته، أما الكتابة الجديدة فتتحفظ على ذلك، إذ يرى كتابها أن الواقع بما فيه من تعقد وتشابك لا يمكن رصده بالعين أو عبر الكتابة البصرية وحدها. كتابة ما بعد الحداثة عموما تشكك فى قدرة العقل البشرى على كشف الواقع بشكل كامل.
وأرجو ألا يفهم من كلامى أن كل ما يكتبه الكتاب الجدد يمكن وصفة بالكتابة الجديدة أو الكتابة ما بعد الحداثية، فهناك كتاب جدد يلتزمون تماما بفكرة أن الكتابة ما هى إلا محاكاة للواقع، وهناك كتاب من أجيال سابقة ينتمى ما يكتبونه إلى مفهوم الكتابة الجديدة بالمعنى الذى أتحدث عنه.
حين بدأت الكتابة فى منتصف التسعينيات كانت كتابة الذات هى الأعلى صوتا والأكثر وجودا بين الكتاب الجدد فى مصر، وقتها لم أجد نفسى فى هذا النوع من الكتابة، إذ مثّل الخيال الجامح شرطا أساسيا للكتابة الجيدة من وجهة نظرى، التقيت مع من تم الاصطلاح على تسميتهم بكتاب التسعينيات فى نظرتهم التى تعلى من شأن الشك ونسبية المعرفة، ورغبتهم فى تجاوز الواقع بمفهومه القديم، واختلفت معهم فى إيمانهم بأن كتابة الذات هى الطريقة المثلى والوحيدة للكتابة فى زمن سقوط الحكايات الكبرى.
لم أرغب فى محاكاة الواقع، ولم أسع لتغييره على طريقة الرومانسيين الثوريين، رغبت فقط فى نقل حيرتى المعرفية أمامه، حيرتى المعرفية فى مواجهة الوجود الإشكالى للإنسان، الكتابة عندى هى محاولة لفهم ومساءلة هذا الوجود الهش والملتبس والمحكوم بالفناء. الحياة بالنسبة لى هى “حياة من الزجاج.. حياة هشة قابلة للكسر فى أية لحظة وفق أية مصادفة“.
وبما أن الوجود بالنسبة لى يُعد مأزقا، وبما أن نقطة إنطلاقى هى الحيرة المعرفية أمامه، فالأسئلة هى البطل الأساسى فيما أكتب، والكتابة فى جزء منها هى رحلة بحث ومغامرة مقلقة فى المجهول. وفى غياهب النفس الإنسانية بجوانبها المظلمة والشريرة، فتأمل الوجود يصبح فعلا بلا طائل إذا لم يكن من خلال ما هو جارح ومظلم، ومن خلال مزج المعرفة بالألم.
ربما لهذا تتماس كتابتى فى جانب من جوانبها مع أدب الرعب، حيث تنتشر الدماء، ويسود العنف، ويصبح العالم مكانا كابوسيا مخيفا وشرسا. فى طفولتى كان الخوف هو الشعور الأبرز عندى، كان على التعايش مع مخيلة شرسة تفاجئنى بكل الخيالات المرعبة والمخيفة، كان خيالى هو عدوى الأول الذى يحاربنى ويهدد ثبات واستقرار الواقع أمام عينىّ.
أحيانا أتساءل: هل أترجم مخاوف طفولتى إلى كتابة؟ هل أكتب ما يتماس مع المخيف تحديا لمخاوفى ومحاربة لها؟!
***
الكتابة التى تتوسل بالغرائبى ليست جديدة تماما على الأدب العربى، بل ربما يحتوى تراثنا الثقافى على الكثير من الغرائبى والعجائبى مقارنة بالثقافات الأخرى، التراث الدينى بشكل عام هو فى ظنى المصدر الأول للعجيب والغريب فى معظم الثقافات.
غير أن الثقافة العربية الحديثة قامت فى الغالب، بتهميش الكتابة الغرائبية والعجائبية، ونظرت إليها على أنها مجرد هروب رومانتيكى من الواقع ومشكلاته، هل يمكننا القول أن الثقافة العربية فى معظمها ما تزال تنظر للواقع بمعناه الضيق فقط؟ وما تزال لا تقدر إلا الكتابة التى تقدم نفسها باعتبارها محاكاة ونقلا له؟
الغرائبى فى ظنى لا ينفصل عن الواقع، والواقع ليس فقط مجرد ما نراه بأعيننا و نعيشه بوعينا.
ما أكتبه هو واقعى، أو الواقع كما أراه. ترى عيناى الواقع على هذا النحو، والقارئ المدقق سوف يلحظ أنه حتى أكثر التفاصيل عجائبية فيما أكتب يمكن تفسيرها على نحو واقعى صرف، بل وأحيانا تقبل أكثر من بديل، ما بين الجنون، الهلوسة، أو الحلم والكابوس. فالأحلام لا تنفصل عن الواقع، بل هى جزء أساسى منه، هى لغة اللاوعى، ووسيلته للتعبير عن نفسه، فكيف لا يكون لاوعينا جزءا من واقعنا؟
عندما نقوم بتفكيك عالم الأحلام والكوابيس، سوف نتمكن من إعادة بناء الواقع بمعناه الأوسع، الوقوف على الحافة بين الوهم والحقيقة، بين الواقع والخيال، بين العقل والجنون ربما يمنحنا فهماً أعمق للعالم الذى نعيش فيه، فالفن يكمن فى المخفى والملتبس، فى تلك المنطقة الغائمة الضبابية التى تفجر الحيرة والقلق والتساؤلات، أكثر مما تمنح الطمأنينة والأجوبة المريحة.
***
أحد فضائل الكتابة الجديدة فى مصر أنها- كما ذكرت سابقا- أعادت الاعتبار لأنواع أدبية ظلت مهمشة لفترات طويلة، فهى على سبيل المثال وضعت الكتابة الغرائبية فى مكانة بارزة فى المشهد الحالى عبر كتابات عدد من الكتاب الذين رأوا أن الواقع أصبح ضيقا فسعوا إلى توسيعه عبر الخيال، كما أعادت الاعتبار إلى الكتابة البوليسية وكتابة الرعب عبر الاستفادة من تقنياتها بعيدا عن التحفظات القديمة، بل أنها استفادت أيضا من شخصيات وعوالم الكارتون والرسوم المتحركة و ثقافة البوب آرت.
من هنا يمكننى أن أخلص إلى أن الكتابة الجديدة فى مصر رغم فوضاها البادية واحتياجها لنوع من الفرز النقدى، نجحت فى إحداث نوع من الخرق الإيجابى لأسطورة الأدب الرفيع بالمفهوم القديم.