الوارثون الوارثون

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

في عام 1991، كتب الناقد البولندي ستانيسلاف بارنسيزاك يقول إن الشاعرة "يوليا هارتفيج تشترك مع فيسوافا شيمبورسكا في كونهما الشاعرتين الأبرز حضورا في مشهد الشعر البولندي النسائي".

ولدت الشاعرة البولندية يوليا هارتفيج في مدينة لَبْلِن في عام 1921. درست أثناء الحرب العالمية الثانية في جامعة وارسو السرية، وعملت مبعوثة سرية للجيش المحارب للقوات النازية الذي عرف باسم “جيش الوطن”. عاشت بين عامي 1947 و1950 في فرنسا حيث حصلت على منحة دراسية وعملت موظفة في السفارة البولندية في باريس. وفيما بين عامي 1972 و 1974 حلّت ضيفة على البرنامج الدولي للكتاب الذي تنظمه جامعة أيوا الأمريكية. أصدرت أول دواوينها في عام 1956 ومنذ ذلك الحين أصدرت نحو ستة دواوين أخرى. وازداد نشاطها في السنوات الخمس الأولى من القرن الحادي والعشرين فأصدرت ديوانين أولهما بعنوان “لا وداع” والآخر بعنوان “لا رد” إضافة إلى كتاب من الشعر النثري وكتاب في أدب الرحلات بعنوان “يوميات أمريكا” إلى جانب ما ترجمته إلى البولندية من الشعر الأمريكي والفرنسي، حيث تعد هارتفيج من كبار المترجمين من هاتين اللغتين.

يأتي اهتمام هارتويج بالسياسة بشكلها المباشر أقل بكثير من اهتمام أقرانها من الشعراء البولنديين. فهي أكثر اهتماما بالهموم الإنسانية حيث يدور أغلب شعرها في مواضيع مثل العزلة والخوف والفناء والفرح، غير أن الشحنة العاطفية في قصائدها تبقى محسوبة جيدا.

في ما يلي قصيدة قصيرة لها بعنوان “مخطوطة”، وهي مأخوذة من مختارات ترجمها إلى الإنجليزية الزوجان الأمريكيان جون و بوكاندا كاربنتر.

***

مخطوطة

 

عبر زجاج خزانة العرض

في المدينة التي ولد فيها بتهوفن

تستطيعون أن تروا مخطوطةً

فيها عشرات الخربشات والتصويبات والكلمات المكشوطة.

رسالة إلى أمير ذي نفوذ

يناشده أن يقبل سيمفونية انتهى لتوه من تأليفها.

لا يوجد بين مؤلفات ذلك العبقري ما يحمل من علامات الجهد

مثل ما تحمل تلك الرسالةُ الموجهةُ

إلى حاكم ولاية صغيرة

لا يعرفه أحد اليوم.

***

ربما يعرف الكثيرون منا الملكة التي كتب وليم شكسبير في عهدها مسرحياته وسونتاته، وقد نعرف أيضا الحاكم الذي مدحه المتنبي وعاش في بلاطه شطرا كبيرا من عمره. ولكننا نعرف الأولى لارتباط اسمها بفترة من أهم فترات تاريخ المسرح الإنجليزي، كما نعرف الثاني لأنه هو نفسه كان شاعرا مُجيدا. أي أن الفن هو الذي حفظ هذين الاسمين في التاريخ.

منذ بضع سنوات أثيرت على صفحات الجرائد المصرية قضية بالغة الطرافة تتعلق بشارب الملك خوفو. ففي أثناء الاستعداد لتصوير مسلسل تليفزيوني عن ذلك الملك، رفض الممثل المرشح للدور ـ عزت العلايلي ـ أن يتخلى عن شاربه، وبدأ علماء الآثار يدلون بدلوهم حول هذا السؤال: هل كان لخوفو شارب؟ ولم يتم حسم القضية، إذ لم يبق من خوفو غير تمثال صغير غير واضح الملامح، وهَرَمٌ، لا يزال معجزة من معجزات الحضارة الإنسانية. ذهب إذن الملك العظيم ومُلكه، وبقي إبداع مهندسي زمنه وكهنته.

هذا جانب مما تقوله هذه القصيدة البسيطة. بقي بتهوفن، وذهب الحاكم ذو النفوذ. بقيت السيمفونيات، والفن والعبقرية. وزال الحكم والسلطة.

ورسالةً، أيضا، بقيت. صلة بين العبقري والحاكم. تُرانا ونحن نستمع إلى السيمفونية التاسعة البديعة لبيتهوفن سنتصور ذلك العبقري الأصم الذي منعت الطبيعة عنه ضوضاء العالم وهو عاكف على البيانو والأوراق، أم سنتصوره منحنيا على طاولته يكتب الكلمة ثم يكشطها ثم يعيد كتابتها ثم يخطئ في تهجئتها ثم يصححها إلى أن ينتهي من كتابة التماس يبعثه إلى شخص ربما لا يعترف الفنان له بعبقرية، لكنه يرجو منه الدعم لفنه؟ وهل سيكون لهذه الصورة تأثير على تلقينا لفن بتهوفن؟ هل سنشعر بوقعٍ أضخمَ لضربات القدر في مطلع السيمفونية؟ هل سنشعر بمدى قسوة تلك الضربات على الفنان الذي لم يتكبد فحسب عناء استعصار روحه في تلك الألحان، بل تكبد أيضا عناء إبقائها لنا؟ هل سنزداد تقديرا لما بذله هذا الفنان من جهد من أجل إمتاع أجيال لم يرها؟ أم سنكون منصفين قليلا ونتذكر أن حاكما مجهولا لولاية قليلة الشأن قد ساهم ولو بالقليل في الحفاظ على إحدى سيمفونيات عبقري مثل بتهوفن؟

***

أتخيل تلك الرسالة، صفحةً فيها بضعة سطور مليئة بالكشط والحذف، بكلمات خجل الفنان أن تحمل توقيعه، وكلمات أخرى لعله قدَّر أنها أجلب للمال من خزانة الحاكم، أو أجدر بحفظ ماء وجهه.

أتخيلها لا لأقول إن الفنان كان يواجه كل هذه المشقة في كتابة رسالة، في حين أنه كان ربما يبدع أعماله الموسيقية بسلاسة، فأنا ببساطة لا أستبعد أن يكون في مسوداته الموسيقية مثل ذلك الجهد أيضا. لكنني أتخيلها لأفكر في مأزق الوريث.

في العادة ننحاز للفنان على حساب وريثه، وأعني بالوريث ذلك الجانب من كل فنان المسؤولَ عن نشر أعماله وإذاعتها بين الناس. هناك بيتهوفن الذي يجلس إلى البيانو ناسكا وراهبا وإلها، مضيفا إلى العالم ما لم يكن فيه، وهناك بيتهوفن السكرتيرة السمسار  النخاس إن شئتم الذي يتفاوض على أجر بيتهوفن عن ذلك العمل، بيتهوفن الذي يحاول إقناع الناس بأن ما فعله بيتهوفن لهم جدير بلفت أنظارهم، وتقديرهم. ما ذنب هذا البيتهوفن أن يشقى بإرثه؟ ما ذنبه وهو عديم الموهبة لا حيلة يحتال بها ليعيش إلا التجارة في ما ورث عن صاحب الموهبة؟ أتخيل المخطوطة إذن لأشفق على الوريث.

وأتخيلها لأرى الوريث ضبعا، يعيش على جثة وارثه، يأخذ فنه، فنه بالذات، فيحيله إلى سلعة، يبيعها ويعرضها ويستعمل ما يجنيه من ورائها في ملء بطنه وإشباع شهواته.

أتخيلها لأرى مأزق الوريث في الحالتين، لأراه مرغما إما على التضحية بماء وجهه، أو لعب دور الضبع الذي يعيش على رمة نفسه.

أتخيلها لأحتقر الإرث ذاته، ولا أعني الفن، بل أعني فعل التوريث، أعني كل إرث، كل ما يجعلنا في صباح السبت مسؤولين عما قاله أشباه لنا في سكرهم ليلة السبت، وما هم إلا أشباه لنا، ليسوا إيانا، ولكننا مع ذلك، نحن الوارثين، نبقى مسؤولين أمام بعضنا البعض عن أفعال أؤلئك الذين لم نعد إياهم، بل إن منا من يقيمون متاحف للتشهير بهذه النسخ البائدة، ويكتبون تواريخ لفضحها وإلصاق فضائحها بنا، بل إننا جميعا، وبلا استثناء، نرضى بأن تقدَّر أعمارنا بأن تضاف إليها أعمار كل الذين كنا إياهم، وكأن الذي استيقظ اليوم قبل ساعة، بريئا براءة غيمة، ولدت اليوم لتموت اليوم، هو نفسه الذي مات بالأمس وكان ينبغي، لولا مماحكات البشر، أن ينعم بالعدم الأبدي، بعدما لقي من شقاء فادح على مدار عمره الممتد بين نومين.

 

مقالات من نفس القسم