كان لأودن علاوة على ذلك حس كوميدي واضح، إذ كان في بعض الأحيان يحاكي على سبيل السخرية أساليب أقرانه أو حتى أساتذته من الشعراء من أمثال ديكنسن وييتس وهنري جيمس.
زار أودن ألمانيا وآيسلندة والصين، وخدم أثناء الحرب الأهلية الأسبانية، وفي عام 1939، انتقل إلى الولايات المتحدة حيث أحب وتجنَّس وغير آراءه تغييرا جذريا، فقد كان في شبابه الأول في إنجلترا مناصرا متشددا للاشتراكية والتحليل النفسي الفرويدي، ثم تحول في الولايات المتحدة إلى المسيحية معتنقا اللاهوت البروتستنتي الحديث.
هو كاتب غزير الإنتاج، فبالإضافة إلى الشعر، كان كاتبا مسرحيا بارزا، ومكتبيا، وكاتب مقال ومحررا. ويعتبر أودن بشكل عام أعظم الشعراء البريطانيين في القرن العشرين وأكثرهم تأثيرا في الأجيال التالية على جانبي الأطلنطي سواء بسواء.
عمل أودن مستشارا لأكاديمية الشعراء الأمريكيين أو رئيسا فخريا لها منذ عام 1954 وحتى وفاته عام 1973.
نقدم له هنا قصيدة من ديوانه “زمان آخر” الصادر في الولايات المتحدة عام 1940.
***
المواطن المجهول
(إلى جيه إس صفر سبعة ميم ثلاثة سبعة ثمانية
هذا النصب الرخامي مقام بمعرفة الولاية)
أفاد مكتب الإحصاء أنه
شخصٌ لم تقدَّم فيه شكوى رسمية
وتُجمع كلُّ تقاريره السلوكية أنه كان
بالمعنى الحديث للكلمة البالية
قديسا،
ففي كل ما قام به
كان يخدم المجتمع الأعظم.
وفيما خلا فترة الحرب
ظل حتى يوم تقاعده
يعمل في مصنع،
لم يتعرض للفصل
بل رضي عنه مديروه في مصنع سيارات فَدْج.
لم يكن عاملا مشاغبا أو غريب الأفكار،
وتفيد تقاريره النقابية أنه كان يدفع مستحقاته
(كما تفيد تقاريرنا بصحة تقارير نقابته)
تبين لعمّالنا في علم النفس الاجتماعي
أنه كان محبوبا من أقرانه وكان يحب الشراب.
والصحافةُ مقتنعة أنه كان يشتري الجريدة كل يوم
وأن ردود أفعاله على الإعلانات كانت طبيعية بكل المعاني.
تؤكد البوالص المسجلة باسمه أنه كان مؤمَّنًا تماما
وتوضح بطاقته الصحية أنه دخل المستشفى مرة لكنه خرج منها معافى.
وتشير أبحاث الإنتاج ودرجات الحياة العليا
إلى أنه كان عاقلا تماما في تعامله مع مزايا نظام التقسيط
وكان لديه كل ما يلزم الإنسان المعاصر:
فونغراف ومذياع وسيارة وثلاجة.
أما باحثونا في مجال قياس الرأي العام فعلى قناعة تامة
بأنه كان يتبنى الآراء المناسبة لأوقات السنة المختلفة
ففي السلام أيَّد السلام، وفي الحرب
ذهب إلى الحرب.
تزوج، وأضاف إلى التعداد خمسة أطفال
وهذا طبقا لعلمائنا في مجال النسل هو العدد المناسب لوالدين في جيله.
وتشير تقارير معلمينا إلى أنه لم يتدخل قط في تعليمهم.
هل كان حرا؟ هل كان سعيدا؟ تلك أسئلة عبثية:
فلو كان هناك أدنى خطأ، لكنا يقينا عرفنا به.
***
هذه إذن قصيدة محفورة في رخام النصب التذكاري الذي أقيم بمعرفة الولاية. هذا إذن هو المواطن الذي رأت الولاية أن تكرمه فهل لدى أي منا اعتراض؟ هل يرى أي منا أنه مواطن غير صالح وغير جدير بالتكريم؟ لقد عمل الرجل طوال عمره، خاض حروب بلده، أحبه أصدقاؤه، وهو من جانبه أحب وتزوج وأسلم أبناءه للمدرسة تعلمهم ما تقرر أن فيه نفعا لهم. ظل طول عمره مطلعا على الأحداث الجارية عبر حرصه على ابتياع نسخة من الجريدة اليومية. كل تقارير الولاية تشير إلى أنه مواطن صالح، لم تغفل التقارير شيئا، أخبرتنا بسلوكه في العمل، بحالته الصحية، بوضعه الاجتماعي، بحكمته في التعامل مع نظام التقسيط، برضا مديريه عنه، بتبنيه الرأي المناسب في الوقت المناسب من العام. ربما أغفلت تقارير الولاية والنصب التذكاري المقام بمعرفتها أن تذكر اسم المواطن. ولكن هذه يقينا تفصيلة ثانوية، شأنها شأن إحساس ذلك المواطن المجهول بالحرية أو السعادة. لقد تضمنت التقارير الأشياء الأكثر أهمية، بالنسبة لكاتبي تلك التقارير.
ليبق إذن مجهولا كما شاءت الولاية أو الدولة، والشاعر بالمناسبة، ليبق كذلك حتى نعرف نحن عن أسمائنا شيئا: أنها بطريقة أو بأخرى حماية لنا، أنها مسوغ لكي يقول س منا إنه ليس ص، ولا يمكن وفق أي ظرف من الظروف أن يكون ص، بصمة أصابعه هي التي لـ س، ولـ س وحده، رصيده في البنك هو رصيد س، سجله الجنائي هو سجل س … أما ص فآخر، برغم أن “كبير” الشاعر الهندي العظيم يقول ـ وأعتمد على ما في ذاكرتي من ترجمة عاشور الطويبي ـ “إنه ماء وسط الماء.. ما ذنبي أنا إذا كان شخص ما سمَّاه موجة”.
ما يقوله كبير، أو ما يمكن أن نقوّله لكبير هنا، هو أن التسمية افتعال، وتعمية على حقيقة أن الإنسان واحد. لكن، مع ذلك، ليبق المواطن الصالح هذا مجهولا، ولنتأمل العلم: علم النفس الاجتماعي، وعلم الإحصاء، وعلم قياس الرأي العام. لنر العلم وهو يهز ذيله طمعا في تربيتة رضا وعطف من الدولة، لنر كيف أن مقدرة إنسانية رفيعة كالتي يجسِّدها العلم وقد انحطّت إلى خدمة القهر. بل تعالوا ننظر النظرة نفسها إلى شركات التأمين ووكالات الإعلان والإعلام، والمصنع والمستشفى، والبنك، وبعد ذلك كله، الهيئة العليا لشؤون شواهد القبور. تعالوا ننظر إلى الوحوش التي صنعناها بأيدينا لخدمتنا، فانتهت إلى استخدامنا. تعالوا ننظر في غضب في أي اتجاه فلا نرى غير المواطن المجهول، في الشارع وفي المرآة.