الهروب من الألم.. والطريق إلى الوحش

نهى محمود
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

نهى محمود

يوقظني ألم أسناني في الرابعة صباحا، أضع حبة مسكن في فمي وأتناول معها ثلاث حبات من أدوية المساء التي كثيرا ما أكسل أن أتناولها قبل النوم، لأني أكون في كامل تركيزي ونشاطي وفجأة يطفئ جسدي النور يسحب فيشة الطاقة، يحدث كل ذلك فجأة فأتجه بصعوبة نحو الفراش، صعوبة لا تمكني من فعل أي شيء مهم قبلها كتناول حبات الدواء المسائي اليومي أو الاطمئنان على فراش الطفلة وغطائها أو النظر لمن حولي وترديد همهمات تبدو كتحية المساء.

أنا أختفي فجأة في المساء، أمشي بلا ذرة وعي نحو الفراش وأنام.

أستيقظ مبكرا جدا، وأبقى في هدوء ووحدة محببة وعظيمة ساعتين أو ثلاث ساعات، يمكنني خلال تلك الساعات السحرية أن أمشي على الحائط، أو أكتب، طوال سنوات أنجزت أجمل ما كتبت في تلك الصباحات الباكرة المفعمة بالصمت والتركيز ودفقات المشاعر، لكني في السنوات الأخيرة حين نخر الكسل في عقلي استبدلت طقس الكتابة بطقس تضييع الوقت. ينخر الكسل وربما الرهبة من ملاقاة الوحوش في عقلي..

تماما كتلك السوسة السخيفة التي تنخر عصب ضرسي منذ أسبوعين بلا كلل ولا ملل، ألم يصعب احتماله يطول صف أسناني السفلي كله وأذني وعيني، لدرجة دفعتني للحجز مرتين لدى طبيب الأسنان، أنا التي تخاف من صوت المسمار الكهربائي الذي ينخر في الأسنان ورائحة البنج الذي سمعت أنه يعاني أزمة وجود في السوق الطبي، رائحة القرنفل والألم الذي يطل من ذاكرتي في معاملتي القديمة السابقة مع أطباء الأسنان، الحجز الأول كان منذ أسبوع، أفوت الميعاد لأني تظاهرت بالنوم بعد العصر حتى فات ميعاد الطبيب، وفي الميعاد التالي بعدها بأيام اعتذر الطبيب، وبقى الألم.

الذي أيقظني كعادته في الأيام الأخيرة، منذ يومين اكتشفت أن المسكن قد نفذ فسحبت حبة مهدأ على أمل أن تخفف الوجع، لكني نمت يومين في الفراش مرهقة ومُثبتة مثل ضفدعة على لوح التشريح  بسبب تلك الحبة، مرهقة ومتألمة من أسناني.

يهدأ الألم قليلا في هذا الصباح الباكر المفعم بالصمت والوحدة، صباحات بلا كتابة مغمسة بالكسل والخوف من تفويت متعة تضييع الوقت في لا شيء، الخوف من مواجهة الصفحة البيضاء أو مواجهة مشاعري المعقدة مثل كرة خيط من الصوف المنكوش.

أتجه للمطبخ، في تلك اللحظة الباكرة جدا، الباردة، القاتم ضوئها فلا هي بقيت ليلا ولا أضاءت لتعلن مجيء النهار، تشير الساعة للرابعة إلا ربع صباحا.

ميعاد لقائي بأشباح جدتي وأمي، أحيانا أرى جدتي في مطبخها الكبير ورائحة الدفء تتسرب لجسدي الصغير وهي تناولني كوب اللبن، وتعبر نحو الحمام الواسع الممتلئ بالبخار، هناك حيث تغلي الملابس وتحركها بعصا خشبية.

المطبخ والحمام والممر بينهما، رائحة اللبن وبخار ماء الغسيل ووشيش الباجور، المكان الذي يتحول في أحلامي لكابوس عن مكان مهجور واسع ومقبض، مسكون بأشباح تشبه البحارة الملعونين في فيلم “قراصنة الكاريبي”، تقابلني في الحلم فأشعر بدمي متجمد وروحي منتصبة وخائفة.

احتجت لأعوام والكثير من الكتابة حول الحلم / الكابوس حتى أعرف من أين أعرف ذلك المكان الذي تذهب له روحي في النوم، تلك الممرات الواسعة البعيدة أمر في غرف كثيرة أعبر حجرات مغلقة ومفتوحة، بعضها مظلم وبعضها معتم وكلها تئن وتطل منها أشباح تخيف الأطفال وتخيفني، كل تلك الصور جاءت من حمام جدتي ومطبخها والممر بينهما من ذلك البيت الذي طالما قضيت فيه أياما سعيدة جدا ودافئة من طفولتي، ولا أعرف كيف احتفظ بها لا وعيي بهذه الصورة المخيفة التي ترعبني في أحلامي.

أحتاج لصباحات هادئة وباردة ومعتمة لأشعر بوجود جدتي وضحكتها وصوت غنائها الحزين، وأحتاج لصباحات أخرى مثلها تماما أرى فيها أمي وهي تعد كوب الشاي بالحليب المغلي، أبتسم وأود أن أخبرها أننا نشرب اللبن البارد من العلبة ونضعه فوق مشروباتنا الساخنة، لم يعد أحد يسخن اللبن قبل وضعه على المشروبات. ثم أتذكر أن احدى صديقاتي تفعل ذلك.

أتجه مباشرة لحوض المطبخ، أغسل ما تبقى من صحون العشاء والأكواب، أبتسم حين أرى أمي وهي تفعل الأمر ذاته، كنت أتساءل لماذا تتجه من سريرها لحوض المطبخ، لماذا لا تشرب الشاي أولا، أبتسم وأهمس لنفسي الآن عرفت..

لا يمكنني الاستمتاع بمج النيسكافيه وفي حوض المطبخ كوب أو ملعقة متسخة، مطبخ بلا صحون متسخة هو جزء رائق في روحك يمكنك معه أن تبدأ طقس الاستمتاع بالمشروب الصباحي الذي تفضله.

يضيء الصباح قليلا، أحتضن الكوب وأسحب دفئه لروحي، وأمرر يدي على شاشة التيلفون، حيث تقابلني صفحة سيدات المطبخ، وهي صفحة للاستشارات، تكتب بها السيدات أسئلة حول وصفات الطعام والمطبخ، طالما رأيت فيها العجب والعك كما أقول كثيرا وأنا اقرأ فتاوي النساء في مشاكل الطهي وفتاوي الوصفات، وأفكر في لحظات كثيرة أن أخرج من الصفحة لكني لا أفعل.

اليوم كانت السيدة تسأل عن وصفة لصناعة البرجر، قلت بصوت خافت لحم مفروم به نسبة دسم معقولة وملح وفلفل أسود فقط، وتمنيت ألا أجد في الإجابات فتاوي قاسية لا يحتملها قلبيـ لكني وجدت جرائم من عينة بيضة والقليل من البقسماط، رشة دقيق وبهارات لحمة، بصل مفروم نصف كوب برغل منقوع..

في البداية ابتسمت وأنا أمر بعيني على المشاركات ثم ضحكت كثيرا من قلبي ثم سببت في سري وهمست بكلمة عك، ثم أعجبني ايقاعها فتأبط ذراعها ومضينا نتمشي قليلا في البيت أناديها واقول عك فتبتسم لي فأكررها: عك عك، ونضحك سويا.

أعود معها للمطبخ، وأصنع فنجان قهوتي، أفتح طاولة المطبخ السحرية وأجلس “عك” فوقها وأضع جوارها فنجان القهوة السادة. أخبرها بحزن أني أشعر بالألم.

أحكي لها عن صديقتي المقربة جدا، التي توقفت عن محادثتي منذ بداية العام الجديد، توقفت عن الرد على رسائلي، غضبت بلا سبب أعرفه واختفت، شرحت لـ”عك” أني لا استطيع أن أستفسر منها عن سبب مقاطعتها لي، لأني حزينة واشعر بطعنة في قلبي والكثير من الخذلان. أخبر “عك” اني مخبولة وهو سر يعرفه عني الكثيرين، لكني لا زلت أعتبره سري الصغير، أخبرها حتى أني وقعت في الحب عدة مرات، أكشف لها عن ساقي لترى أثر الوقوع، تنظر بتركيز ثم تظهر الكثير من التأثر، أخبرها عن المرة الأخيرة التي أحببت فيها وحشا، أحكي لها عن المرة الأولى التي قابلته فيها، كان يقف في شرفة مكان، وكنت أصعد السلالم، التقت عيوننا فابتسمنا كأننا صديقين قريبين، عندما اقتربت منه لأحييّه، ناولته يدي فضغط عليها، ضم أصابعي لدرجة اضطررت معها للصراخ، أفلت يدي وضحك، ضحكة طالما أحببتها، تشبه ضحكة كل نسخ عفريت المصباح وهو يخرج من الأسر، لكني لا أذكر حقيقة هل ضحكها ويل سميث في النسخة الأخيرة أم لا.

عرفت فيما بعد أن شيئا حدث بيننا في تلك اللحظة كسر لعنته وحرره من المصباح.. وأنه ربما كان جني مصباح أو وحشا أسيرا في بيت مسحور أو أي بطل مأزوم وغائب في حكايات التراث.

لم أكن أفهم طريقته ولا لغته في كثير من الأحيان، أحيانا كثيرا كنت أخاف وأكره صوت زئيره، لم أكن أعرف أنه صوت الألم، ربما صوت استغاثة..

التفريق بين طريقة تعبيره عن رغبته في الصحبة، وقسوته في إظهار ذلك احتاجت مني أياما طويلة، كسرت فيها قلبي وقلبه.

وخسرت قطعا محببة وهامة من الخريطة التي يمكنني أن أصل بها إليه أو أمر عبر الشراك لأبقى آمنة.. مضيت عبر الغابة، وصلت للكوخ الذي يعيش فيه، كان غاضبا كعادته، لكنه كان صامتا، يقف فوق حزنه صامتا ومكسورا وقاسيا.. أشارت لي كائنات الغابة ألا أقترب، لكني لم أكن خائفة.. مشيت نحوه بخطوات قدرية، قبضت بيدي على ذراعه، لففت قبضة يدي كلها حول يده، همست له بكلمات حزينة وحقيقية لمواساته، لم يبعد يدي، لم يتحرك أصلا، هدأ وتجمد.

أربكني ذلك جدا وملأني بالألم.

عندما غادرته في ذلك اليوم، أصابتني لعنة الحب مرة أخرى، منحني الحب خريطة جديدة ليست واضحة بما يكفي، لكني ببعض اللعب يمكنني أن أحل طلاسمها

حيث أتصالح مع مخاوفي، واملئ الصفحات البيضاء بروحي، وتتلاقى عيوني بعيون وحش لطيف قابلته ذات مساء ووقعت في حبه.. وأتمنى ألا يخذلني الحب ولا الحماس

لأجد الطريق..    

 

مقالات من نفس القسم