النور ينازع فقدًا .. فصل من رواية “نفيسة البيضا”
مصطفى البلكي
تنظر إلى المرئيات كطفلة تلهو, الآن ترى قبابًا وبيوتًا تظهر, وتسمع أوصافًا لمدينة قالوا إنها آخر نقطة للوصول, تنصت لكل مفردة تصدر من أي فرد يجاورها, تحاول كما اتفقت مع نفسها أن تؤسس لواقع علاقة جديدة, تساعدها لتحب الحياة بدلا من الانسحاب منها.
البدايات تلوح لها, تذكرها بكلمات جدتها عن مدن مشيدة من الحجارة, فسيحة الميادين، مليحة البنيان، لا مثيل لها, كل ما فيها باهر, ابتداء بحركة أسواق الدجاجين حيث يباع الدجاج بأنواعه وشتى أصناف الطيور المغردة ثم سوق الشماعين الذي يزدان بأصناف الشموع .
أما الطريق فهو غاص بالخلق حتى ترى الماشي فيها ما له هم سوى التحفظ من دوس الدواب إياه، ولا يمكنه تأمل شيء في السوق لأن الخلق يندفعون فيها مثل اندفاع السيل.
تتشجع, توقظ حواسها, ترسل عينيها, ترى حياة جديدة حولها, حياة رسمت لنفسها وجودًا لا تستطيع الانفلات منه, منذ تلك اللحظة التي وقفت فيها على بداية طريق لا تعرف نهايته, الآن تطوى كل الطرق, تمنح مفرداتها بالمجان لعينيها, تجاوبها مع المفردات يبدو قويًا, فتدخر كل شيء في عينين حائرتين, تفعل هذا وهي تردد كلمات سمعتها منذ ظهور القاهرة:
" القاهرة ستر حسنها حسن غيرها وحجب"
ترتجف.
فللعيون لغة, تجيد هي قراءتها.
تكتشف حزنًا عميقًا يفرش وينام على الوجوه المردومة بالبؤس.
" لا أثر للحياة على الوجوه"
تقولها, وبينما القافلة تدخل خان الخليلي( 1) تؤكد:
" كلنا عبيد، مجلوبون إلا من رحم ربى"
تتابع ماري عيون رواد السوق المصلوبة على البضائع, يحيرهم الاختيار, تسرب الوقت وقلة المعروض يدفع بعضهم إلى مد الأيدي والحصول على أي شيء، هي مستسلمة نهائيًا للعيون, بينما الخوف من مصير مجهول يعض قلبها, فتتشاغل عنه بأن تفكر في أمها وعلاقتها بوالدها المتسبب في جرح غائر طال قلبها يوم أن تركها ومضى مع أخرى.
ووسط تلك الدوامة تتذكر الأمرد, فيظهر طيفه لها, فتناجيه:
" أرسلت اليوم روحي, ستكون بجوارك, ضمها إليك, قربها من قلبك , واجعلها كحبات مسبحة, ورتل على وقع حضورها أنشودة للعشق, تخصك وتخصني, وإن رأيت فيها ما يكدر صفوك , فعاتبها والتمس لها العذر, ولا تحرمها من همس شفتيك , فالهمس لغة حياة لمن تعلق بالسنا , وإن غابت عنك عنفِّها , وقل لها من أجل وقتي وجدت لحظاتك"
تصلها رائحة المستكة, فتقطع المناجاة, وتميل برأسها إلى جدار يقع خلف دكة العبيد, وكلما تسربت الرائحة إليها, تبعتها بأنفها, وداخلها يردد المقولة التي تحفظها:
" لو دخلت حانوت عطارة, فأعلم أنك في مكان يلخص ثقافات أمم شتى, فلكل صنف نكهة ورائحة, ترتبط بالبلد المجلوب منه, تماما كالنساء "
تترك الكلمات, وتمنح عينيها للساحة المربعة تراها مغسولة بشمس دافئة, تحتها تبدو المكونات واضحة, ابتداء من المشربيات, وانتهاء بأبواب الحوانيت.
توجد لنفسها تسليتها, فتبدأ في إحصاء الشرفات المحيطة بالسوق, تفعل رغم علمها بأن الأرقام صادمة.
واحد
اثنان
..............
..............
خمسة عشر
الرقم الأخير, وقفت عنده, تأملته قليلًا, عرفت أنه يدل على عمرها, ضجة عالية ولدت, جعلتها تكف, وتوجه نظرها إلي الجهة التي يأتي منها الصوت, رأت طابور العيال, عانقت وجوههم المبقعة بعلامات الفقر, ومرت على أجسادهم المكفنة في ملابس رثة ثم تفرغت للرجال وهم يسوقون الطابور المربوط في حبل واحد, يوجه حركته أحدهم, ولولا رائحة المستكة لرافقته حتى يختفي.
غمر السوق صمت, تكاثف مع خفوت وقع الأقدام, وفى اللحظة التي انتهى فيها, دخلت مهرة في المشهد.
لمحتْ مهرة الصمت البادي علي وجه ماري المحاصر بالعيون, ارتبكتْ, ثم انهمكتْ في نقل النظرات, وعقلها يرمح في أرض رخوة, تسكنه كثير من الاحتمالات المنهكة لقلبها, وسؤال وحيد يتردد: ماذا لو لم تجد ما تطلب؟
خشيتْ مهرة علي نفسها من الفشل, فكفتْ, وحاولتْ السيطرة علي داخلها وإخفاء ما يمور فيه, كي لا تمنح القلق فرصة ينتظرها, فتجعله يقف علي ضعفها، لكن إصراره وإلحاحه جعلها تخطئ، فتتعثر, ويفر أحد الأكياس من يدها, يُحدث ارتطامه دويًا هائلًا, تتحول قطع المحبوب(2) الصغيرة إلى نجوم تلمع بفعل شمس القاهرة, ملأت القطع محيط وقفتها, بسرعة أدركت أن وقوع المال يعد سببًا وجيهًا يؤجل الحديث المتصل بينها وبين نفسها..
لم تجد من وسيلة لاستعادة ثباتها إلا أن تطيل زمن الصمت, هداها تفكيرها إلي أن تبعد يد تابعها, وتسحب القطع المتناثرة فوق أرضية السوق بنفسها, أثناء ذلك تبين لها أن الحقيقة المعروفة لديها يصعب انتقالها من شخص لآخر حتى لو كان زوجها تقي الورَّاق, حقيقة تقول لها إنها في طريقها للعثور لعلي بك( 3) على امرأة الحلم.
شعرت بشيء خفي يسحب وميض الحياة المستوطن جسدها, ففَقَد جمع القطع بعضًا من هدفه, وداعبت الحقيقة رأسها:
" نعم سأنجح رغم كل شيء, أنا أعرف, عرفت ذلك حينما لمست عيني وجه الجارية البيضاء ".
تعود إلي القطع, يخطف البريق بصرها, فتغمض عينيها, وبينما هي في ظلمة خفيفة, وكأنما النور ينازع فقد, يتسرب كل الضجيج, وتسافر بكامل كيانها لما حدث وكان, تبدو الطرقات لها ممتلئة بأجساد ساكني القاهرة, وفرقة من المماليك تقترب من مشهد الحسين, تلتفت فتجد علي بك يتقدم بجواده, وعلى وجهه ابتسامة المنتصر.
ـ لماذا تركتِ القصر؟ والدنيا تفتح لي صدرها.
سكوتها يجعله يخاطبها بلهجة مضمخة بالحسرة:
ـ حينما التقينا بعد الفراق, قلت وجدت عائلتي, أما اليوم فأنتِ بما فعلتِ تقوضين ما شيدته.
ـ كانت وسوسة من الشيطان, ولن أسمح له بعد اليوم.
ـ أتمنى أن يصدق كلامك, ولا تدفعك كلمات النسوة إلى أن تتركيني مرة أخرى..آه يا مهرة لو رحلتِ, ما كنت سامحت نفسي أبدًا, فأنا حينما أنظر إليك أتذكر يوسف ابن الخامسة عشرة, نجل داود راعي الكنيسة, الصبي الغض الذي انتقل من يد كرد أحمد إلى يد القائمين على جمرك الإسكندرية, تذكرين ذلك اليوم؟ أنت لا تنسين, أعرف هذا, نصف حياتك لذكرياتك, أنا غيرك, وضعت همي في يومي وغدي, ما زلت أركض كما ترين, منذ وفاة أستاذي إبراهيم كتخدا(4) وأنا ما ذقت النوم, خوفًا من الخنجر, لو غفوت لتسلل إلى قلبي, ولو حدث لتعفن جسدي سريعا ندمًا على نقصان الحلم, ويزول اسمي وكل حجر كان لي, يمسى ويصبح من حق قاتلي, يسكنه ويوسعه, ويُبقى من زوجاتي الثلاث من تعجبه منهن, وإن أراد أحدهم أن يشق عصا الطاعة, استمالوه وقالوا له" فيك الخير والبركة", هذه نهاية لا أريدها للصبي الذي أنتزع من وطنه ونسي أهله وجاهد وغامر حتى يحتل تحت الشمس مكانًا يليق بقدراته, وكل ما أريده منك الآن أن تظلي بجواري, ولا تسمحي لكلام نسوة فارغات أن يعكر صفاء نفسك, هذا أمر سهل عليك, لن يكلفك من الجهد الكثير, هن يعرفن مقدارك عندي, وما فعلنه كان من باب الغيرة من بنت البارودي( 5), انظري إلى شكلك, هزموكِ, فخرجتِ من القصر بالقميص, لا بد أن تعودي معي, ولا تذهبي إلى بيت زوجك, فأنت قهرمانة(6 ) القصر, ستعودين وأنت في كامل زينتك, وهذه اتركيها لي.
لم تتكلم, وبقيت ساكنة, تتابعه وهو يعطى أوامره لأحد مماليكه, فينسحب من أمامه, ويتجه إلى حارة جانبية, فتتركه, وتدور بعينيها في المكان, تسأل نفسها كيف جاءت إلى المشهد الحسيني؟ بينما هى تسكن في الرويعي( 7), سؤال لم يسعفها الوقت لأن تجيب عنه, بسبب حضور الجندي وبيده القفطان والجبة, أخذتهما, وتنحت جانبا ارتدتهما, وأسدلت على شعرها طرحة شيفون ثم أسلمت نفسها ليدي جندي, أعانها على اعتلاء ظهر جواد, أمسك به آخر, فلما استقامت فوقه, تحرك الركب إلى باب الخرق( 8).
ظلت ساكنة, ريقها جاف, خاطرها يطوف في حدائق السنوات الماضية, تتجنب النظر إلى وجه سيدها, خشية من رهبة تتلبسها في كل مرة تتطلع إليه, هو يعرف تلك الحالة, فيميل بجواده حتى يقترب من وجهها ويهمس لها:
ـ هونِّي على نفسك.
ابتسمتْ ثم رفعتْ وجهها، ونظرتْ إليه, خيل إليها أنها تراه لأول مرة, وهو يدخل بيت اليهودي, فأغمضت عينيها وتشبثت بالسرج، تسأل نفسها عن جدوى العودة مرة أخرى لدنيا قررت تركها, بعدما أحست بضياع حبها له, سمعته يكلمها:
ـ أعرف أين كنتِ حينما شردتِ.
ارتبكتْ, وسكتتْ لتأكدها أنها كتاب مفتوح له, يمكنه في أي وقت شاء أن يفتحه ويقرأ ما يريد, تابع هو:
ـ أنا أعرف ما عندك من بضاعة.
حقا هو يعرف.همست لنفسها, وتابعت.
" أنا أمامه بلا كيان, يتلاشى, فكل كيان حقيقته فيما يخبئه في صدره, كثيرًا ما تمنيت أن أكون مكانه, لأعرف ما يدور بداخله, لكن كيف؟ وكل واحد خلق بقدراته, له عقله, به يتصرف, وحتى نمضى في دروب الحياة لا بد من وجود رجال مثل على معتوق سيده إبراهيم "
قبل أن تجاريه في الكلام, وجدت نفسها توسع النظرة, رأت شعيرات بيضاء بدأت تغزو لحيته, هو يعتز بها, ويقول عنها إنها من نعم سيده عليه, ولولا الرضاء الذي شمله به, ما طلب منه إطلاقها, ما شاهدته لم يكن إلا اكتشافًا يخبرها أنها مثله كبُرت, وما عادتْ الصبية ولا هو الفتى مفتول الجسد, وما عادت هناك أوقات مرح بجوار طاحونة اليهودي.
ـ كبرنا يا سيدي.
تهز رأسها, وتتحول إليه, تمنحه وجهها, فيخاطبها:
ـ كان لا بد أن تقاومي, ولا تدعيهن يهزمونكِ, في عقلك رجحان, وما تعلمناه فى بيت اليهودي, يجب ألا ننساه, ولو أضفنا إليه حوادث الأيام, ما سمحنا للفشل أن يخترقنا, أليس كذلك؟
ـ نعم, لكن..
ـ لكن ماذا؟
ـ خشية تعكير ورد يومك.
ـ آه منها من كلمة يا مهرة, فأنا مع الثلاث نساء عابر فراش, عقولهن سكنت بين أفخاذهن, سخرتْ كل واحدة جهدها في إظهار مفاتنها, تمنح اللذة, وبعدها تنام فاستشعر الوحشة, وتُفسد الليلة, الثلاث حلاوة بلا روح, كثيرًا ما قلت لهن أن سراجَ العقل موجودُ في الخورنقات(9), لكن من يقرأ ومن يسمع!
ـ الحلو لا يكتمل يا سيدي؟
ـ بل يكتمل يا مهرة.
ـ نادرًا ما يحدث هذا.
ـ صحيح, لكنه موجود، له أصل في عقلي, وأنت تعرفين.
ـ أنا؟
ـ نعم أنت, ألا تذكرين؟
ـ تقصد.....
ـ نعم أقصده.
ـ كانت رائعة , لكنها ما زالت حلمًا.
ـ يومها جئتُ إليكِ, وأنت ترفعين الماء من البئر, قلتُ لك إني رأيتُ امرأة, يومها رأيتُ دهشتك, وسمعتُ سؤالك عن جمالها, فقلتُ لك إنها جميلة وبيضاء, يومها شاهدتُ وجهك وقد أغلق بالضبة والمفتاح, لكنك رغم هذا, استفسرتِ إن كنت وجدتها فى الغرفة أو دخلتْ علىّ, سؤالك جعلني استعيد ما رأيته, فأكدتُ لك أنى وجدتها تنام على فراشي, وحولها الجواري, يقمن على خدمتها, وحينما سكتُ, تكلمتِ أنت, تذكرين كلماتك؟
ـ نعم أذكر, يومها قلت لك: امرأة في المنام تعني أن السنة المقبلة مملوءة بالخير والراحة, وقد تدل علي الصندوق الذي يحفظ فيه الإنسان كل متاعه, أو هي الأرض المقبرة, لأن الإنسان يعود إليها كما خرج منها, كانت أحلام صبي.
ـ لا بل هو حلم ما زال يزورني, وفى كل مرة, تتغير حياتي, وفى كل مرة أبحث عنها.
ـ عمن؟
ـ عن امرأة الحلم.
ـ ما زلت أبحث عنها.
ـ سنجدها.
ـ كيف؟
ـ الأيام كفيلة
تبعد مهرة عينيها عن القطع المتناثرة, تطير بهما إلى دكة العبيد, لا شيء جديد, الأجساد كما هي تتحرك , وماري أمامها عارية إلا من قطع صغيرة تخفى العورة, والنخاس يردد:
"يا سيد ليس كل ما استدار جوزة, ولا كل ما استطال موزة"
ويرفع ورقة التوت, فتنظر مهرة إلي ماري المشغولة بصوت يأتي إليها, تنصت لعلها تستأنس به, الكلمات غير واضحة, لبعد المسافة, حقيقة تعيها جيدًا, لكن بجهد وبفعل التركيز, تلتقطها.
"سحقا للمسافات التي تفرق, والمكان الذي لا يجمع "
تنتبه إلي نغمة الفقد المتعاظم أمرها, فترفع عينيها للسماء, تري طيورًا تحلق, تعبر خان الخليلي فتهمس:
ـ السلام أمانة لكل رأس مسكون بصورتي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ خان الخليلي، أحد أحياء القاهرة القديمة و هو واحد من أعرق أسواق الشرق
2ـ عملة كانت متداولة في القرن 18
3ـ مملوكي حكم القاهرة كشيخ البلد أيام العثمانيين ولد في أماسا بروسيا سنة 1728م
4ـ تولي مشيخة البلد هو وقسيمة رضوان كتخدا الخلفي, ومات سنة 1754
5ـ زوجة إبراهيم كتخدا
6ـ مدبِّرة البيت ومتولية شئونه
7ـ يمتد من شارع البكرية وينتهي لشارع وش البركة وسمى باسم السيد شهاب الدين الرويعي أحد التجار المغاربة
8ـ باب الخلق
9ــ خزائن الكتب والمخطوطات
روائي مصري، الرواية صادرة مؤخرًا عن دار سما للنشر