النور والعتمة في مملكة الكتابة

abd allah al salayma
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبدالله السلايمة

في كلّ حقل من حقول الإبداع، يتجاور النور والظلّ، ويتناوب الجمال والقبح على رسم ملامح المشهد. ومثلما تولد الأعمال الخالدة من الإخلاص للحقيقة والجمال، تولد بعض النصوص من مشاعر دفينة لا تقلّ ظلمة عن الحبر نفسه. هنا، لا تُقاس الموهبة بما يكتبه القلم فحسب، بل بما تُخفيه روح الكاتب من نوايا وطباع.

للكتابة وجهان؛ وجه مضيء يشعّ بالجمال ويستدعي القيم النبيلة في الإنسان، ووجه آخر مظلم، يختبئ فيه الغرور والحسد والأنانية. فالكتابة، مثل كلّ فعل إنساني، يمكن أن تكون طريقًا إلى النور، كما يمكن أن تتحوّل إلى أداة للظلمة حين يتسلّل إليها الحقد أو الغيرة أو الرغبة في الإيذاء. بين القلم الذي يزرع الأمل، والقلم الذي يشيع السمّ، مسافة دقيقة تفصل الإبداع الصادق عن التشويه المتعمّد.

لقد عرفت الساحة الأدبية، منذ أقدم العصور، صراعات حادّة بين الكُتّاب والشعراء، لم تكن دائمًا بسبب الفكر أو الفن، بل كثيرًا ما أشعلتها الغيرة وحبّ الظهور. فقد كان جرير والفرزدق في العصر الأموي مثالًا واضحًا على منافسة تحوّلت إلى معركة هجاء طويلة، تجاوزت حدود الإبداع إلى تصفية الحسابات الشخصية. ورغم القيمة الشعرية الهائلة لكليهما، فإنّ الغيرة بينهما صاغت جزءًا كبيرًا من حضورهما في الذاكرة العربية.

قديمًا، اشتعلت الخصومة بين أبي تمام والبحتري، إذ رأى كلٌّ منهما نفسه أحقَّ بالريادة، بينما ظلّ النقّاد منقسمين بين أنصار هذا وذاك.

أمّا المتنبي، فقد كانت غيرته من خصومه أسطورية؛ إذ لم يحتمل أن يُزاحم أحد مجده، فهاجم الشعراء والأمراء على حدّ سواء، وسُجّل له من الهجاء ما لا يقلّ عن قصائد الفخر.

وفي العصر الحديث، تكرّر المشهد ذاته وإنْ بوجوه جديدة. فقد كانت الخصومة الشهيرة بين طه حسين والعقّاد من أبرز صراعات القرن العشرين الأدبية في مصر، حيث امتزج فيها الفكر بالأنا، والنقد بالعداوة الشخصية.

هاجم العقّاد طه حسين في مقالاته، وردّ الأخير بتلميحاتٍ لاذعة في محاضراته وكتاباته. ورغم إسهامهما الكبير في نهضة الفكر العربي، فإنّ العلاقة بينهما ظلّت متوترة حتى النهاية.

كما شهدت الساحة اللبنانية صدامًا خفيًّا بين جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة؛ فبرغم انتمائهما إلى “الرابطة القلمية”، كان جبران أكثر نزوعًا إلى الفردية والتألّه، بينما اتخذ نعيمة موقف الناقد المتحفّظ من “أنانية جبران الفنية”.

أما في الغرب، فقد تناقلت الأوساط الأدبية خلافات مشهورة بين كبار الكُتّاب؛ فتولستوي لم يُخفِ امتعاضه من شهرة دوستويفسكي، وهيمنغواي كان يهاجم فوكنر علنًا، وغور فيدال كان يعتبر ترومان كابوتي عدوَّه الأدبي الأول.

وفي عصرنا الرقمي، لم تعد المعارك الأدبية تدور في المقاهي الثقافية، بل على الشاشات الصغيرة. فقد اشتعلت، خلال السنوات الأخيرة، صراعات بين كُتّاب عرب على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يُترجم الحسد إلى تغريدة، والغيرة إلى منشور غامض. هناك، تتغذّى الأنا على “الإعجابات” و”المتابعين”، ويُقاس المجد الأدبي بكمّ التفاعل لا بعمق التجربة. صار بعض الكتّاب يكتبون ليُرى اسمهم، لا ليُرى أثرهم.

ومع ذلك، يبقى في كلّ زمن أولئك الذين يكتبون لأنّ الكتابة قدر لا فكاك منه. يكتبون كما يتنفّسون، لا كما يتنافسون. لا يعنيهم الصراع ولا الجوائز ولا الأضواء، لأنّ مجد الكتابة الحقيقي لا يُقاس بما يُقال عن الكاتب ، بل بما يتركه في وجدان قارئ واحد. هؤلاء وحدهم من يُبقون للكتابة وجهها المضيء، ويحمونها من عتمة الأحقاد.

حين تتحوّل الغيرة الأدبية إلى حسد، لا تدمّر صاحبها فقط، بل تلوّث المناخ الثقافي بأكمله. فهي تُنتج بيئة مشحونة بالاتهام والريبة، وتُحوّل الإبداع إلى حلبة صراع بدلاً من أن تكون جسرًا للحوار والتجديد. وحين تتغلغل هذه العدوى، يفقد الأدب قدرته على الإشراق، لأنّ الحسد لا يثمر سوى المرارة.

ورغم كلّ ذلك، تبقى الكتابة فعلًا من أفعال المقاومة ضدّ العتمة الإنسانية. فكلّ من يكتب بصدق، إنما يُطهّر نفسه من شوائبها.

الكتابة الصادقة تشبه الضوء، لا يمكن حجبها طويلًا، والكتابة المسمومة تُفضَح برائحتها مهما تجمّلت. لذلك، تظلّ الكتابة امتحانًا أخلاقيًّا قبل أن تكون مهارة جمالية، وميزانًا للروح قبل أن تكون ميدانًا للعقل.

ومهما طال صراع الأقلام، فإنّ الكتابة، في جوهرها، تظلّ فعلاً من أفعال النور. قد تتلطّخ السطور أحيانًا بظلّ الغيرة أو شوائب الأنانية، لكنّ الكلمة الصادقة تعرف طريقها إلى الضوء وحدها، لا يضلّها زيف ولا يغويها صخب. فالأدب الحقّ لا يعيش في القلوب المعتمة، بل في النفوس التي رأت الألم فحوّلته إلى جمال، وعرفت الغيرة فطهّرتها بالإبداع.

إنّ الكاتب الذي يكتب بقلب نقيّ، يترك أثرًا أبقى من كلّ الجوائز، وأصدق من كلّ المديح. فحين تبهت الأسماء، وتخفت الأضواء، لا يبقى في ذاكرة الأدب إلا ذلك النور الهادئ الذي خرج من روح كتبت لا لتنتصر على أحد، بل لتفهم الحياة أكثر، وتحبّها بعمق أكبر.

مقالات من نفس القسم