د. جمال فودة
إن بنية القصيدة عند (بسيسو) تتضمن العديد من المضمرات النسقية التي تتعلق بنظرة الشاعر الخارجية لمجتمعه/ واقعه الذي تغلب عليه الصبغة السياسية، وما تمثله من ضغط نفسي انعكس على شعره، ومن ثم يمثل الكشف عن هذه الأنساق استبطاناً يمنح النص ميزة التعدد القرائي والتأويل الفكري؛ مما يسهم في فهم الأبعاد المعرفية والنفسية للشاعر، لكن طغيان النزعة الخطابية غطى على قيمة النسق المضمر وفاعليته داخل النص الشعري.
يقول معين بسيسو في قصيدته المعركة:
أنا إن سقطت فخذ مكاني يا رفيقي في الكفاح
وانظــــــــــر إلى شفتي أطبقتا على هـــــــوج الريـــــــاح
أنا لم أمت! أنا لم أزل أدعوك من خلف الجراح
واقرع طبولك يستجب لك كل شعبك للقتال
يا أيها الموتى أفيقوا: إن عهد الموت زال
يا أيها الموتى أفيقوا: إن عهد الموت زال
ولتحملوا البركان تقذفه لنا حمر الجــــــــبال
هذا هو اليوم الذي قد حددته لنا الحياة
هذا هو اليوم الذي قد حددته لنا الحياة
للثورة الكبرى على الغيلان أعداء الحياة
فإذا سقطنا يا رفيقي في جحيم المعركة
فإذا سقطنا يا رفيقي في جحيم المعركة
فانظر تجد علماً يرفرف فوق نار المعركة
ما زال يحمله رفاقك يا رفيق المعركة
ما زال يحمله رفاقك يا رفيق المعركة
في القصيدة السابقة نلاحظ أن جرس الألفاظ له دور كبير في إثارة الانفعال النفسي؛ لأن الإيقاع الداخلي للألفاظ والجو الموسيقي الذي يحدثه عند النطق بها يعد من أهم المنبهات المثيرة للانفعالات الخاصة، كما أن له إيحاءً نغمياً خاصاً لدى المبدع والمتلقي على حد سواء، لذا فإن تقييم كل تشابه في الصوت إنما يتم على أساس علاقته ـ وجوداً أو عدماً ـ بالتشابه في المعنى.
وفي هذه القصيدة ينثال الشعر المتدفق حيوية عن نفس ثائرة؛ فتحس فيه بحرارة أنفاس الشاعر تعبيراً عما يخالجه من إحساس تجاه المخاطب.
لكن الإفراط في الاعتماد على النزعة الخطابية يجنح به إلـى التقريـر والمباشرة، لا إلى الإيحاء والدلالة، خاصة عندما تعلو النبرة الخطابية في النص فيفقد جزءاً كبيراً من الإثارة التي تتولد مع استكشاف آفاق جديدة لأبعاد التجربة الشعرية.
فنلاحظ توالي أفعال الأمر (خذ، انظر، اقرع، أفيقوا، لتحملوا …) والتي تدور في فلك استنهاض الهمم وبث الأمل في نفوس غمرها اليأس، حيث تدور الدلالة حول محور النضال ـ بكافة أشكاله ـ والذي يعد من المحاور الأساسية في شعر (بسيسو) من خلاله يحيى الموات بالتوجه إلى منطقة المقاومة بكل فاعليتها التفاؤلية، وبكل منطلقاتها الاجتماعية والسياسية، مع ملاحظة أن الحرية لها آلامها الممتعة (أنا لم أمت! أنا لم أزل أدعوك من خلف الجراح)، فهو يعمل على تجميع النضال في بؤرة مؤثرة تعمل على تغيير الواقع بفاعلية تنبع من الواقع الجماهيري الذي يرسف في قيود المهانة، والدعوة إلى الصمود والمقاومة لخلق أجيال تواصل النضال لبلوغ الهدف الإنساني الحقيقي (واقرع طبولك يستجب لك كل شعبك للقتال)
لقد استطاع ” بسيسو ” أن ” يوازن بين قوالب الصياغة الموروثة للنداء والرغبة الملحة في الإبداع الخاص وإنتاج الإيحاءات والتوقعات الجديدة، باستخدام الصيغة على نحو يتيح لها إنتاج دلالات تركيبية تجسد حالة نفسية خاصة يعيشها الشاعر.
ومن ثم ينبض أسلوب النداء بتجربة الشاعر المتأججة القلقة، في محاولة منه لتصحيح المسار، وقد اختار ـ لإيقاظ العزائم وإحياء الضمائر ونفخ بوق الجهاد ـ صيغ النداء ” يا ” و ” يا أيها ” التي تستعمل للبعيد، فنحس أن هناك بوناً شاسعاً بين الشاعر وأمته، ورغم ذلك يلح ويكرر (يا أيها الموتى أفيقوا: إن عهد الموت زال
يا أيها الموتى أفيقوا: إن عهد الموت زال) فلا يمل النداء أملاً في الاستجابة.
هذا وإن كان الشاعر لا يهدف من وراء النداء لاستدعاء الأشياء على مستوى القول ليعلن موقفه تجاهها وإنما يستحضرها لدواع ٍأخرى، (يا أيها الموتى أفيقوا: إن عهد الموت زال ) في محاولة لإدراك ما يمكن إدراكه ، وإلقاء حجر في المياه الراكدة ليحركها ، وبعث المقاومة في نفوس جرفها اليأس ، ينادى أبناء وطنه بهذه النداءات المتكررة التي تأتي بأوجه مختلفة لتجسد قيمة واحدة ألح عليها الشاعر وهي إضرام نار الثورة لتأكل الأخضر واليابس حتى يستعيد الوطن حريته ، وليس للحريّة الحمراء غير بابٍ…بكلِّ يَدٍ مضَرَّجَةٍ يُدقُّ .
إن الشاعر هنا يركز الشاعر على توصيل الفكرة، ويتخذها هدفاً يبغي الوصول إليه؛ لذلك يعتمد على رصد الحقائق البعيدة عن الغمـوض والإيحاء والغرابة بلغة يسودها الوضوح والاستدلال.
ومن ثم برزت ظاهرة التكرار بشكل واضح ، وأخذت عدة مظاهر للحضور خلال النص الشعري ، فمنها تكرار الألفاظ (أسماء وأفعال ) ، ( رفيق ، رفيقي )، ( سقط ، أفيقوا ، زال ، حددته ) وتكرار العبارات ، (يا أيها الموتى أفيقوا ، إن عهد الموت زال ، هذا هو اليوم الذي قد حددته لنا الحياة ، فإذا سقطنا يا رفيقي في جحيم المعركة)
الأمر الذى يضع بين أيدينا مفتاحاً للفكرة المسيطرة على الشاعر في أعماق اللاشعور ، إذ إن إيقاعية التكرار تمثل عوداً نفسياً للمغزى الدلالي اعتماداً على التجانس النفسي في التطابق الصوتي ، وبه يصبح تشكيلاً نامياً ذا دلالات خاصة من خلال التشابهات الصوتية للوحدات الإيقاعية.
إن تكثيف بنية أسلوبية ما في نص شعري يوحي بأنها ظاهرة متميزة ينسجها الشاعر في حالة وجدانية خاصة، والتكرار من الظواهر الأسلوبية التي تلعب دوراً بارزاً في كشف إبداعية النص الشعري لدى (بسيسو)؛ إذ يصور تموجات الحالة النفسية التي تعتريه؛ بكونه يهدف إلى الإبانة عن دلالات داخلية فيما يشبه البث الإيحائي، إذ ينزع إلى إبراز إيقاع درامي سيكولوجي.
وفضلاً عن بنية التكرار والربط الدلالي فقد اشتملت الجملة على وسيلة ربط لفظية هي ” الفاء ” في صدر جملة الجواب ” فانظر تجد علماً 00 ” وهذه الفاء الواقعة في جواب الشرط تفيد عقد الصلة بين جملة الجواب وجملة الشرط حتى لا تكون إحداهما مستقلة بمعناها عن الأخرى.
وفي نهاية القصيدة يعمد (بسيسو) للمراوحة بـين الوصـف المباشـر (إذا سقطنا يا رفيقي …)، والوصف التصويري (الثورة الكبرى على الغيلان …)، يقول:
هذا هو اليوم الذي قد حددته لنا الحياة
للثورة الكبرى على الغيلان أعداء الحياة
فإذا سقطنا يا رفيقي في جحيم المعركة
فانظر تجد علماً يرفرف فوق نار المعركة
فتجده في قصيدته التي مازتها صفة الخطابية يبتعد عن الإغراب في اللفظ مفـضلاً الألفـاظ السهلة الواضحة، والصورة التي يقرب فهمها خضوعاً منه للدلالة، واستجابة لطبيعة الموقف، وكأنه في تراوح بين التصوير والتقرير، بهذا الشكل يجذب المتلقي فينشغل ذهنه بالصورة، ثم يقرر ما يهـدف إليه كاشفاً في ذلك عن قدراته الفنية.