الناب الأخير

hamed moussa
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حامد موسى

شعرت أمّي بآلامٍ في نابها داخل فكّها السفلي، آلام خافتة في البداية، لكنها راحت تشتدّ مع الأيام حتى صارت تؤرق ليلها وتسرق منها راحة النهار.

كانت تخشى أكثر من ألم الخلع ذاته، كأنها تخشى أن يُنتزع منها شيء أعمق من مجرد سنٍّ واهنٍ في فمٍ عجوز.

على مدى شهور طويلة، كانت تمضغ بلسانها الألم كما تمضغ صبرها، تلوكه علّها تخفف حدته، كمن يحاول إقناع جسده أن يبقى كما كان.

كانت أمي قد شارفت على الثمانين، والناب هو آخر ثلاث أسنان بقين لها في فمها بعد أن فقدت الكثير منهن على مدار عمرها المديد.

لم تستطع تركيب أسنانٍ أخرى؛ مرةً لقلة ذات اليد، ومرةً لأنها لم تكن ترغب أن تُدخل شيئًا غريبًا في فمها، كأنها تريد أن تبقى على ما تبقى منها ولو كان واهيًا.

حين لم تعد تحتمل الألم، رضخت أخيرًا لمحاولاتنا لإقناعها بالذهاب إلى طبيب الأسنان لخلعه

قطعنا تذكرة الكشف، وجلسنا ننتظر في صالةٍ باردة تفوح منها رائحة المطهّرات والقلق.

خلال الانتظار، راحت تلوك بلسانها حول الناب الموجوع، كأنها تودّعه.

وفجأة التفتت إليّ، وفي عينيها بريق طفلٍ نجا من عقابٍ مؤجل، وقالت بفرحٍ لا يخلو من دهشة:

– لقد سقط الناب.

ورفعت يدها الصغيرة المرتجفة، فإذا به هناك… نابٌ صغيرمائل، كأن الزمن نحت عليه كل ما مرّ بها من عمر.

أخذته بين يديها كمن يحتضن تذكارًا عزيزًا، وشعرتُ أنها لم

تفقد سنًّا، بل استردّت جزءًا من نفسها بعد أن أنهكها الوجع.

وقد لمع لحظةً تحت ضوء المصباح. رأيت الفرحة في عينيها، فرحة من تخلّص أخيرًا من وجعٍ قديم. كان الناب في مرحلته الأخيرة من الضعف، نخَره السوس، وأرهقه الزمن، ومحاولاتها لتحريكه لم تدع له سوى لحظة سقوطٍ هادئة، كأنها تسليمٌ أخير.

شعرت أنها لم تفقد سنًّا، بل شيئًا من صلابتها القديمة، تلك الشراسة الطيبة التي كانت تواجه بها الحياة وتحمينا بها. سقط الناب، وبقي الحنان وحده في ملامحها .

خرجنا من العيادة إلى الشارع، كانت ما تزال تقبض على الناب في يدها، تحكم عليه قبضتها كما لو أنه قد يفرّ منها.

قلت لها ضاحكًا:

– ألقيه إذن.

قالت في هدوءٍ حاسم:

– لا، ليس الآن.

قلت مازحًا:

– هل ستحتفظين به ؟

ثم أضفت مبتسمًا:

– إذن أنتظري إلى الصباح، حتى تشرق الشمس، وألقيه في وجهها وقولي لها -يا شمس يا شموسه خدّي سنّتي وهاتي سنة العروسة

ضحكت وقالت وهي تهزّ رأسها برضا طفلٍ صدّق الأسطورة:

– طبعًا سأفعل.

ثم أخرجت منديلاً قماشيًا من جيبها، ولفّت الناب برقةٍ كمن يلفّ جرحًا نازفًا، ووضعته في حقيبتها برفق.كما لو كانت تضع قلبًا صغيرًا يخفق من الذاكرة، وتغلق عليه أصابعها بحنانٍ غامض.

سِرنا في الطريق، وكانت تمسك بالحقيبة إلى صدرها كأنها تخفي فيها سرًّا.

كلما مررنا بضوءٍ أصفر من مصباحٍ شارع، كانت تلمس المنديل داخلاً بإصبعها لتتأكد أنه ما زال هناك.

في وجهها ارتسمت ملامح طمأنينة غريبة، مزيجٌ من حنينٍ

وخوفٍ مكتوم، كأنها تستعيد في ذلك الناب كل ما فقدته من قبل:

ضحكةً قديمة، طفلةً كانتها، بيتًا بعيدًا، شبابًا مرّ خفيفًا كالنسمة.

وفى البيت حين أطلّ الفجر، رأيتها تقف عند النافذة.

كانت تفتح المنديل برفق، تنظر إلى الناب في ضوءٍ شاحبٍ يتسلّل من وراء الستارة، ثم تلمسه بطرف إصبعها، كأنها تتأكد أن الماضي لم يغادرها بعد.

لم ترمه، بل أغلقت المنديل ببطءٍ وأعادته إلى حضنها، وجلست صامتةً تتابع خيوط الضوء الأولى وهي تزحف على الجدار.

وقفتُ خلفها أراقب المشهد.

بدت لي صغيرة جدًا أمام الفجر، كأنها ابنتي لا أمي، وكأن الناب ليس سنًّا بل عمرٌ يوشك أن ينزلق من بين أصابعنا معًا.

أردت أن أقول شيئًا، أن أطلب منها أن تتركه، لكنها كانت تمسكه كما أمسك أنا بها — بحذرٍ، بخشيةٍ، بحبٍّ يعرف أنه لا يوقف الزمن، لكنه على الأقل يؤخر لحظة الفقد قليلًا.

وفي صباحٍ آخر ، كنت أرتّب أشياءها الصغيرة فوق الطاولة حين وجدت المنديل القماشي مفتوحًا، والناب غير موجود.

نظرت إليها، كانت جالسة إلى جوار النافذة، تغمض عينيها في هدوءٍ عميق، والضوء يغمر وجهها.

ثم راحت ترفع يدها ناحية الشمس وتهمس بكلماتٍ لم أتبينها، ثم غابت في صمتٍ طويل.

وحين التفتت إليّ أخيرًا، رأيت في عينيها بريقًا غريبًا، مزيجًا من الخفة والوداع. كأن سقوط الناب لم يكن مجرد نهاية لوجعٍ في فمها، بل وداعًا أخيرًا لسنواتٍ طويلة قاومتها بشراسةٍ أمومية ناعمة، واستسلامًا راضيًا لضوءٍ يتسع في الداخل شيئًا فشيئًا.

نظرت مرة أخرى نحو النافذة المفتوحة، كانت الشمس تملأ الغرفة بضوءٍ دافئ، والستارة ترفرف بهدوءٍ كأنها تهمس بسرٍّ بينهما.صمتت بعدها لحظه أخرى ، وراحت فى اغفاءة قصيرة ظننتها نائمة، لكن ابتسامة خفيفة كانت ترتسم على شفتيها،

عندما نظرت إلى المنديل مره اخرى، تأكدت من عدم وجود الناب، لكني شعرت — على نحوٍ غامض — أن شيئًا ما أُلقي فعلًا في وجه الشمس،

كأنها، أخيرًا، ألقت الناب في وجهها، وأن الشمس — هذه المرّة — ابتسمت لها، وردّت لها عمرًا آخر، ومضت بها إلى حيث الضوء.

 

مقالات من نفس القسم