عاطف محمد عبد المجيد
ربما لا يجود الحظُّ عليك، وإنْ كان كريمًا، بمقابلةِ كثيرين لديْهم ما لديْهِ من مَلَكاتٍ وسِماتٍ إنسانية وإبداعية، لنا أن نصِفها بأنها من طراز نادر.تكفيك فقط بشاشته، وترحيبه بكَ حين يراكَ مُقْبلاً نحوه، ناهضاً بقامته الفارعة وبوجهه القمحي وبشَعره الأبيض، ناهضاً بحماس ليُصافحكَ بيده الحنون وبابتسامته الرقراقة التي تُنْسيكَ، ما إنْ تراها، كلَّ هموم الكون، داعيًا إياك إلى الجلوس، عارضًا عليك، وبطيبة خاطر، أن تطلب ما تريد. إنه باختصار، كائن بشري غير قابل للاستنساخ، لا يمكن أن تشبع قَطْ من المكوث بين يديه، ومن تبادل أطراف الحديث معه، إذ سيغدق عليك، وبدون حساب، مما أفاء الله عليهِ من خيراتٍ سواء كانت معنوية أم مادية، جاعلاً إياك تشعر وكأنك في ضيافة أخٍ لك، بل قُلْ أكثر من أخ.إنه فعليًّا صورةٌ أخرى من صور الكرم الحاتمي الذي تهْطلُ عليكَ أمطارُه المدْرارةُ دون أن ينتظر منك أدنى رد.وكي تتأكد من هذا، فقط عليك أن تسأل مئات الأشخاص الذين كان يستضيفهم على المقهى أو في مقر عمله، إضافة إلى بيته الذي لا يُغلق بابه لا في وجه قريب أو بعيد.
في قرية صغيرة في أقاصي صعيد البلاد يُطلَق عليها اسم نجع الجوابي بمركز طما بسوهاج، يتربع الفقر على عرشها، ولأبٍ كان يجلس فوق كرسيِّ شيخ القبيلة ويحمل شهادةَ العالمية من الأزهر الشريف، وُلِد منجي فراج سرحان المعروف باسمه الحركي: المنجي سرحان، بعد ثورة يوليو بثلاث سنوات تقريبًا.جاء المنجي إلى الحياة بعد أربعة أطفال اختارهم الموت صغارًا، حتى إن الجميع كانوا يتوقعون له المصير نفسه، لكن الله أراد أن يظل المنجي على قيد الحياة، ليكون أول فرحة حقيقية لأبيه وأمه.
إنه جنوبي تحمل جيناته الوراثية ما يحمله الجنوبيون عمومًا من طيبة فِطرية لا يشوهها خبث، ونقاء وشهامة وإقدام وصراحة.كل ذلك في حضور اسمرار لون البشرة الذي يدل في أغلب الأحيان على بياض السريرة.
في عامه الخامس، التحق المنجي سرحان بكُتّاب القرية ليتعلم القراءة والكتابة وليحفظ القرآن تمهيدًا لدخول المعهد الأزهري، كي يتمكن من استكمال رسالة أبيه في الدراسات الاسلامية والفقه.لكن الله تعالى شاء أنْ يلتحق بالتعليم الإلزامي.كان المنجي سرحان متفوقًا في دراسته وهو في المرحلة الابتدائية، ولذا نال حب مُعلِّميهِ ومُعلِّماتِهِ درجةَ أنْ كانوا يجعلونه يقود طابور الصباح، والشرطة المدرسية، وكان هو بالطبع سعيدًا بكل هذا. لكن السعادة لا تدوم، إذ توفيت أمه وهو لا يزال صغيرًا في الصف الرابع الابتدائي، ونتيجة لموتها ذاق مرارة فقْد الحضن الحنون، لكن الله عوَّضه بأبيه الذي كان له أبًا وأمًا في الوقت نفسه.صغيرًا كان المنجي سرحان يعشق الموسيقى، ويعزف على الاكسليفون، حتى كانت الموسيقى هي طريقه إلى حدائق الشعر ورياضه الوارفة. هذا، وهو على عتبات عامه العاشر بدأ كتابة الشعر الذي ناداه وحيه صغيرًا، وظلَّ بصحبته حتى الآن. بدأ المنجي سرحان الكتابة بكتابة بعض المداعبات الشعرية عن زملائه متندرًا عليهم.
في ذلك الوقت، كان يداوم على القراءة حتى قرأ تاجر البندقية، مقبرة الأفيال، زهرة البرسيم وغيرها من إصدارات وزارة الإرشاد / الثقافة حاليًا إضافة إلى ما كانت تحويه مكتبة والده مثل تجريد الأغاني،أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز.
وقتها لم يكن المنجي سرحان يفهم هذه الكتب كاملة، لكن خيطًا خفيًّا كان يشده لقرائتها. وهو في المرحلة الاعدادية قرأ سيرة عنترة، سيف بن ذي يزن، الملك الضليل، فارس بني حمدان وغيرها من السيَر.وكذلك حفظ المنجي سرحان الكثير من الشعر الجاهلي والإسلامي إضافة إلى دواوين حافظ إبراهيم وشوقي والجواهري وغيرهم.
أما بدايات نشره لقصائده فكانت وهو في المرحلة الثانوية.
لم يكمل المنجي سرحان دراسته في كلية الهندسة بل اتجه إلى دراسة الأدب، فالتحق بكلية لآداب بسوهاج وتخرج في العام 1980.بعد ذلك حصل على درجة الماجستير في النقد الأدبي من جامعة عين شمس.
أصدر المنجي سرحان عددًا من الدواوين الشعرية منها: حين يدق صمودك بابي – وعائد إليك – قراءة في كتاب النخيل – الولد البري – من كتاب المراثي.
ومن الملاحظ أنه مقل في إنتاجه الشعري إذ يُصدر ديوانًا كل ثماني سنوات، وعلى الأقل كل خمس سنوات، أي أنه لا يهتم بحجم المنتج الشعري ولا بكَمِّه قدْر اهتمامه بكَيْفه.إنه شاعر، مثلما يحب أن يعيش في هدوء، كذلك يحب ممارسة الإبداع في صومعته الخاصة به في هدوء وبعيدًا عن صخب الملتقيات وثرثرات روادها.
وقارئًا لديوانه الأخير ” من كتاب المراثي ” يقول حاتم الجوهري عن المنجي سرحان: يمتلك الشاعر جملة شعرية تستطيع أن تلمح أثرها عن بعد، تعتمد على قدرته السلسلة في عمل بعض التقديم والتأخير في ترتيب الجملة، وكذلك تعتمد على اختياره لأبنية للمفردات المستخدمة غير شائعة وجذلة (أقصد أبنية صرفية للمفردة)، وكذلك يملك قدرة على الاختزال والتعبير المكثف، ويملك في ذات الوقت حسًا رومانسيًا عاطفيًا شديد التدفق والتأثر، وشاعر بهذه الصفات كان يجب أن يأخذ مكانة أكثر بروزًا في المشهد الشعري المصري والعربي.
يقول المنجي سرحان في إحدى قصائده:
حين كان الفتى ساذجًا
ساذجًا
شكَّلَ الطمي نظرته للوجود
وأرّخ مشيته
فانتصبْ
فأثار انتباه الميادين
والحافلات
ورواد مقهى الحسين
وألهب في النسوة الخاصرات صبابتهن
فكنَّ يراقصْنه في المنام
يذِبْن على صدره الهرمي
الهوى الملتهب
ويحاورنه في صباح الترام
فيغرق في شبر ماء ويمضي
فيتبعنه بالعيون اللواهث
والجسد الفائر
المنتحب.
…………………….
” كُتب هذا البورتريه قبل رحيل المنجي سرحان، لكنه لم يقرأه إذ نُشر وهو في غيبوبة رحل بعدها مباشرة “