المقهى والكتاب

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد البغوري

كان اللقاء مصادفة، حين رن هاتفي، فهرعت لاستقبال المكالمة التي عودتني على أن لا تكون إلا من الأستاذ الغائب الحاضر، فهو بقدر ما يعودك الحضور، يعودك في الوقت نفسه الغياب والانفلات من قبضة ما نسعى إلى أن تنسجه اللحظة من خرائط واستراتيجيات، قد تتحول إلى عالم بهيج، ولوحات تعطرها المستجدات من: الفرح، والألم، واللذة، والانتشاء، وسخرية القدر التي تأتي الإنسان عنوة، وبدون سبق اختيار وبرمجة.. فكم هي الحياة المعاصرة حبلى بالبرودة والنكد، وباقي أطياف كتاب عرته التضاريس، ونخرته العزلة.. العزلة التي نقاومها بشتى الوسائل وحتى الحيل والدسائس.. وكذا ما لا يتم خنقه وضبطه من الثرثرات والزيادات..!؟

 

أسرعت إلى صوان الملابس لأغير ما تحتمه عادة اللباس في البيت، وحتى أنتقل من حال ومقام إلى مقامات وأحوال جديدة. واصلت الهرولة نازلا من درج المنزل ذو الثلاث طبقات. فتحت الباب وحينما فكرت في عبور الشارع الهادر والغاص بسيل لا يعرف التوقف من السيارات المتفاوتة السرعة والوقع، اغتنمت هنيهة انقطع فيها جري السيارات وأطلقت ساقي بخطى فائقة السرعة في اتجاه الطوار الآخر، به يقبع مقهى فاره بجماليته المعمارية، وخربشاته الهندسية الساحرة!.. لكن الفقير والضحل برواده وزائريه الذين أتخمتهم الأيام والشهور والأعوام بموائدها الحاتمية التي تغذي بطونهم، وتغطي مطالب تلهفاتهم مما لذ وطاب.. بل تبعدهم بالكلية عن غذاء العقل ولذائذ الروح التي تمنحها الكتب والمطالعات، هذه الموائد اليانعة، سأتقاسمها مع الأستاذ الذي كان معه-هذه المرة- صديقا له قدمه لي لحظتئذ مبادرا:

-ألا تعرف صديقي عبد الله؟

حملقت في وجهه بحزم، كان وجهه مشعا، وعيناه سوداوان فاحمتان، شاربه كث تتخلله في احتشام وصمت بعض الشعيرات البيضاء تعلن عن نهاية مرحلة عمرية، لتمهد لمصالحة وتقبل لأخرى آتية عاتية، يجهل عبد الله تفاصيلها وضغطها، كان الرجل الواقع بين منزلتي الأربعين والخمسين، يتلفع بقميص أزرق فاقع لونه، وسروال بلون غراب هارب من ملاحقة أطفال فوق غرفة معزولة فوق سطح عمارة.. بادرني الصديق الجديد

-قلت: لأستاذي المدمن على حضور أعراسي وفرجاتي البهيجة، هكذا يخيل لي؟!…

هذا الوجه ليس بغريب على ذاكرتي وحدسي.

فأضاف أستاذي، إنه عبد الله القائم على أمور مقهى يثوي في بناية نيابة التعليم، وصاحب خبرة عالية، أبان عن حضور سامق في الخدمة والتنظيم، وحتى الإفادات والإنشادات، وأريحية لا يتملكها إلا الأكابر من الناس، شخصيته صنعتها دماثة أخلاقه، وزركشتها الكتب، هذه الأخيرة التي أصبح-عبد الله- صريع هواها، وكائنا صغيرا جدا أمام عناوينها ومحتوياتها، وما تثيره من فضول ومشاكسة ورغبة.

تنهد عبد الله: آه!؟ عن الكتب وأفاعيلها.

مد يده إلى جراب كان برفقته، وأخرج مجموعة قصصية أو رواية خانتني ذاكرتي في تذكر عنوان جلدتها. أثار جليسنا الجديد إنه ممتع أخذ بلب عقلي منذ أن لمسته يدي البارحة، وأنا أركز عيني في مقدمته التي فتحت لي شهية مواصلة اختراقه وفض ما بين حروفه من بذور الإمتاع والمؤانسة، وما تطرحه أسئلته من باقات مرصعة من التجارب والذكريات، والألم، والانكسارات، الحب، الموت، المدائح، والتأملات.. وما يستعصي طي عناوينه.

لحظتها أبهرني عبد الله العاشق للقراءة والكتب، وطابت الجلسة التي فرضت علينا نحن الثلاثة أن نرتع في بساتين المعرفة، ونتبادل تجار القراءات وأخبار الكتب، حلقنا بعيدا عبر جغرافيات وتاريخ الفكر والثقافة، ولم نعد إلى حضورنا من هذا السفر الرمزي المجنح إلا برنة من أحد هواتفنا، وهي رنة ثانية، لكن هذه المرة من طرف أحدنا تطلب الحضور عاجلا، وتستنفر العقل الولهان في أودية الحروف والكلمات للرجوع إلى أغراض وطلبات المطبخ والمائدة اللذين رحلا أخبار الأدب وقصة الكتاب ولحظات الأنس وأعلنها حربا حامية الوطيس على مخلفات وأثار خير جليس في الأنام..

أستاذي وصديقي الجديد رفعت الجلسة، ولنا ليال أجمل من نهاراتكم نغازل فيها عيون الغزلان، ونمتطي صهوة الليل الأليل، فهل تضحي أيها المحارب الذي هده الهجود بليلتك وفراشك الفره والدافئ لتجلس فوق كرسي خشبي، تقلب صفحات رواية أو ديوان شعر، أو أي كتاب كيفما اتفق وصادف ومن أي جنس كان تحت مصباح ضئيل وخافت نوره!؟

ــــــــــــــــــــ

*قاص مغربي

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم