أ.د. مصطفى الضبع
تمهيد أول:
الكُتّاب أربعة:
- كاتب يقرأ أكثر مما يكتب يليق بك قراءة تجربته.
- كاتب يقرأ قدر ما يكتب متذبذب في مستواه.
- كاتب يكتب أكثر مما يقرأ فلا تعول عليه.
….والشعراء أربعة:
- شاعر يقرأ نفسه فامنحه بعض وقتك.
- شاعر يقرأ العالم فأنصت إليه.
- شاعر ينتج العالم فكن معه أينما حل.
تمهيد ثان:
” سأبدأ من ” غسل ” معجمي الجاهلي
وخيمتي البدوية بالضوء
أصغي إليَّ قليلا
وأصغي إليكم كثيرا
فلا شيء ممتلئا بالحقيقة مثل السؤال ” ([1])
ربما تصلح هذه الصورة لقراءة تجربة شاعر يليق به أن يطرح تجربته، ويليق به أن نتوقف لديها قدرا من الوقت يسمح لاكتشاف ماتكتنزه ، لك أن تقف عند مفاتيح التجربة التي تتضمنها الصورة : سين الاستقبال للبداية (رؤية المستقبل والتخطيط له ) + فعل الغسل بمعناه الحقيقي والمجازي (فعل الشاعر وما يريد لتجربته أن تكون عليه من الفاعلية) +المعجم الجاهلي(وقد نجح الشاعر في تجاوزه محققا فعل الغسل/ التطهير/ التغيير/تجاوز اللغة في جانبها التقليدي )+ الخيمة البدوية (بوصفها مكانا متجاوزا وثقافة تفرض نفسها على أبنائها بوصفها جينا مستمر التأثير) + الإصغاء إلى الذات (إعرابا عن الذات ،تحقيقا لحضورها وتأكيدا لموقفها من العالم ) + الإصغاء إلى الآخرين (بوصفهم مركز ثقل رؤية الشاعر الإنسانية للوجود الإنساني وتعبيرا عن تحقق الذات عبر تحقق الآخرين)+ الوصول للحكم القاطع الوحيد المؤكد بصيغة الاستثناء ، حضا على السؤال / الأسئلة بوصفه مفجر الغموض وصولا إلى الحقيقة ، و حثا على استخدامها في قراءة تجربة هي جزء من أو تعبير عن العالم ، كما يمكن لهذه المفاتيح أن تجتمع في صيغة لغوية تكشف عن لغة الشاعر ومعجمه الذي ارتضاه للتعبير عن عالمه عبر نص متسع الأطراف قوامه خمسة دواوين بوصفها دالا على شاعريته .
إنه علي الدميني
الشاعر السعودي المنتمي إلى جيل التحديث في القصيدة العربية، جمعت تجربته بين الشعر والنقد والسرد، وعبرت تجربته عن المثقف المتصالح مع تجربته لصالح قضايا وطنه، والقارئ تفاصيل الكون متحركا بينها حركته الرادارية التقاطا لما من شأنه التعبير عن كونه الشعري ذلك الذي اكتنزه في خمسة دواوين شعرية تمثل ضلعا من مثلث ثلاثي الأضلاع (الشعر – السرد – النقد)، وما بين صدور الديوان الأول والديوان الخامس مساحة زمنية قدرها قرابة ثلاثة عقود:
- رياح المواقع – طبعة خاصة 1987.
- بياض الأزمنة – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – عمان 1993، دار الكنوز -ط2 1999.
- بأجنحتها تدق أجراس النافذة – دار الكنوز 1999.
- مثلما نفتح الباب – طبعة خاصة 1429 هـ
- خرز الوقت- الندي الأدبي – الباحة، مؤسسة الانتشار العربي – بيروت 2016.
وجملة أعماله المتنوعة بين الشعر والسرد والنقد ([2]) تعني رصده لتجارب الآخرين من جهة ووعيه بالتجربة الشعرية الحديثة والمعاصرة لتجربته بوصفها جزء من تجربته الذاتية ، تنعكس عليها وتؤثر فيها تأثير تجربته هو في الآخرين من أبناء جيله أو الأجيال اللاحقة ، كما يعني اتساع دائرة قراءته لعالمه على مستويي: اللحظة الراهنة و الماضي المتبلور في الثقافة العربية في عبورها من القديم إلى الحديث وهو ما تدلل عليه تجربته في اتساعها أو في قدرتها على استيعاب مساحة كبرى من الثقافة العربية ، مساحة تمتد من عصر طرفة بن العبد (بوصفه وغيره علامة زمنية على عصر ما قبل الإسلام ) إلى مِسْفِر (شقيق الشاعر المتوفى 2015) بوصفه العلامة الزمنية الأحدث ، والعلامتان انتقال من العام (الشاعر القديم) إلى الخاص ( شقيق الشاعر) ، وهو ما يوسع مجال حركة الشاعر فيما يطرح ، تلك الحركة المؤطرة زمنيا بعصور العربية جميعها من القديم إلى الحديث، والمؤطرة مكانيا بالعالم على اتساعه انطلاقا من الجزيرة العربية وحتى نيويورك مرورا بعدد من العواصم العربية ( بيروت والقاهرة على سبيل المثال ) مما يمنح القصيدة مجالها الحيوي العامل على إنتاج التخييل في ذهن متلقيها .
المجال الحيوي ([3]): المساحة اللازمة لنمو القصيدة في حضرة التلقي تأسيسا على مجموعة من العلامات التي تتضمنها القصيدة أولا والديوان ثانيا حيث تعتمد قراءة المجال الحيوي لتجربة الشاعر على ثلاثة أسس:
- قراءة الأعمال الشعرية بوصفها عملا واحدا (الدواوين بوصفها ديوانا واحدا والديوان بوصفه قصيدة واحدة مما يعني أن القراءة تتأسس على مجموعة قصائد الشاعر حيث الدواوين الخمسة هي بالأساس خمس قصائد).
- تتبع حركة الشاعر في راداريتها التقاطا للعناصر التي من شأنها العمل على توسيع المجال الحيوي للنصوص في سياقاتها المتعددة والمتداخلة.
- الربط بين العناصر تدعيما لاستكشاف المجال الحيوي وأثره في إنتاج الدلالة النصية.
ينتج الشاعر مجاله الحيوي للقصيدة أو تنتج القصيدة مجالها الحيوي لصالح التلقي، فكلما اتسعت دائرة التلقي حققت القصيدة نموذجها، وأنتجت مثاليتها الشعرية، المجال الحيوي لا ينحصر فيما تقوله اللغة بشكل يبدو سطحيا أو مجرد تحقيق المفردة معناها في سياقها المنفصل، وإنما يكون للمفردة قدرتها على استحضار ماهو خارج النص وامتصاص النص لما هو متحقق خارجه معيدا إنتاجه في سياقها الخاص وهو ما يجعل من حضور عنصر ما في سياق القصيدة بمثابة العلامة المستمدة من خارجها ، من واقع له بعده المكاني والزماني ، والشاعر حين يطرح أمكنته ذات الحضور الواقعي أو شخصياته أو أحداثه تلك التي يتشارك معرفتها مع متلقيه أو يشاركه المتلقي معرفتها ينسج من كل ذلك مجاله الحيوي بالقدر الذي تكون فيه هذه العلامات قادرة على توسيع المجال الحيوي أو تضييقه مما يكون له تأثيره في إنتاج الدلالة النصية .
في تجربة الدميني تتعدد العناصر التي تمنح النص حيويته منتجة مجاله الحيوي المؤثر ومؤسسة لبلاغة الاتصال مع متلقيه الذي يتحرك بفعل خارطة المجال الحيوي الموزعة عناصرها على مدار القصيدة الواحدة (أعمال الشاعر جميعها الداخلة في القراءة)، وهو ما يمكن مكاشفته بداية من عناوين القصائد بوصفها عناصر تحيل إلى ما تنتمي إليه ، فالنشيد (في الديوان الأول ) على سبيل المثال ينتمي إلى مجال يختلف عما ينتمي إليه الليل ( إشراقات ليلية ) خلافا لما تنتمي إليه الزهور (رحلة الزهور إلى المائدة ) ، خلافا لما ينتهي إليه التناص الديني (يسألونك عن الساعة ) ، خلافا لما ينتمي إليه النيل ونيويورك (حوارية النيل ونيويورك) حيث العنوان الأخير يحرك متلقيه للجمع بين مكانين متباعدين على مستوى الواقع متقاربين على مستوى النص وما يطرحه من دلالة وما يمنحه متلقيه من مساحة حركة تمنحه بدورها قدرا من الحيوية وحيث هذه العناصر في النهاية علامات على خارطة النصوص لك أن تراها مسارات التأويل أو مدنا وهمية يكون مجموعها عالم الشاعر أو محطات توقف يمنحنا الشاعر تذاكر الوصول إليها لتتبع مجريات حركته لرؤية العالم ، أو هي بمثابة مجموعة من المصابيح المضيئة في عالم مظلم وقد وزعت بعناية لإضاءة هذا العالم ، فقط يكون على المتلقي التحرك بينها للاستكشاف حركة واعية بقدر وعي الشاعر حين وزعها في أمكنتها وارتضى لها وظائفها.
في الديوان الأول تأتي مفردة النشيد الأكثر تكرارا لتكون علامة لغوية لها حضورها الخاص (تتكرر اثنتي عشرة مرة) متصدرة العناوين جميعها (صيغة الجمع الأناشيد) مضافة إلى ذات (أناشيد على باب السيدة العظيمة) مستثمرا الطاقة الدلالية لمفردة النشيد، تلك الطاقة المؤسسة على معاني المفردة ([4]) تلك التي تعمل على إنتاج سردية تفتح بابا واسعا بدورها لقراءة العالم عبر مجموعة الأسئلة المطروحة بادئة من السؤال عن نقطة النهاية في جملة العنوان (السيدة العظيمة ) عن كنهها وماهية صفتها وأسباب حضورها النصي مما يجعلها عنصرا سرديا لا تكتمل بنية القصيدة دون إعادة تشكيل عناصر الحكاية نفسها.
والنظام نفسه ينسحب على بقية عناوين قصائد الشاعر عبر دواوينه حيث العناوين تتضمن في بنيتها العميقة علامات لغوية من شأنها إنتاج شبكة علاقات تحقق الفكرة التي ذهبنا إليها:
- في الديوان الثاني: بروق العامرية – البروج – يمامة – طفولة – الصمت – موسيقى – معلقة – الطائر – الجاهلي.
- في الديوان الثالث: بهو الأصدقاء – بهو الجداريات – بهو النحت – ممرات – بهو الغروب.
- في الديوان الرابع: امرأة – وصية – مسائل صغيرة – نهر الغياب – أنا فاطمة – الباب – إيميل – لوحة.
- في الديوان الخامس: تمثال الماء – خرز الوقت – تغريدات – البيوت – عش – أريكة – السرير- أوراق البردي …..إلخ .
وجميعها تمثل شبكة من العلاقات القائمة بين العلامات النصية العاملة على توسيع المجال الحيوي للقصيدة والتي يمكن للدارس الوقوف لديها وفق ترتيب ظهورها أو وفق كم تكرارها أو وفق مدى قدرتها على الحضور بكثافة في سياق النصوص، فإذا اتبعنا المنهج الأول أمكننا الوقوف على واحدة من العلامات الرابطة بين تجربة الشاعر وتراثه الشعري:
معلقة الطائر الجاهلي:
لا يتوقف الرابط بين عناصر العنوان وتجربة الشاعر عند مجرد الربط السطحي بين المعلقة والقصيدة، أو بين الطرح الجاهلي والطرح الحديث وإنما يتجاوز ذلك إلى الطائر بوصفه واحدا من الجينات الوراثية في القصيدة القديمة ([5])، قديما كان الطائر مخاطبا، وكان مثيرا للحنين، الشاعر الحديث يمنح الطائر فرصة التعبير عن ذاته بأن ينتقل من ضمير المخاطب إلى ضمير المتكلم، مفسحا المجال للرمز الشعري أن يتنفس معلنا حضوره المتجاوز لأحادية الحضور القديم:
” يصير الحنين يماما على الكف ” اليمام كان مثيرا للحنين قديما ولكن الشاعر في مغايرته لما كانت عليه أمور المعنى سابقا يبدل الصورة ودلالتها جاعلا من الحنين نفسه يماما يطير ناقلا الصورة لمساحة مغايرة تكون فيها أكثر حيوية وأكثر قدرة على الاشتباك مع مخيلة المتلقي:
” أيا شجرا رأيت يمامه مطرا ” ([6]).
- ” يا نساء المدينة إخفقن كالطير مبهمة في البكور، وملهمة في السرى“([7])
- ” ماتبقى من العمر إلا بياض الصبايا يلوح للطير، أن إهبطي من عل
واشربي باقيات يقيني
ماتبقى سوى رعشة الثوب في بدني،
واختلاج الأعنة فوق جوادي،
وكأس حنيني” ([8])
وهي مجرد أمثلة تكشف عن تعدد صور حضور الطائر مغايرة للصورة السابقة التي تعاهدها الشعر العربي ثابتة العناصر (الطائر – الشجرة – الإنسان) محددة الدلالة (إثارة الحنين والتذكر)، وقد بث فيها الشاعر حيويتها، حتى عندما يستدعي الشاعر العناصر القديمة لا يطرحها بالطريقة التقليدية، وإنما يعيد تشكيل مفردات الصورة (الطير – الإنسان – الحنين) ص 86، ويأخذ الطير مجموعة من الأوضاع المتنوعة حسب طبيعة الصورة: الطير – اليمام – القطا، وتكاد اليمام تمثل القطاع الأكبر من صور الطير من زاويتين:
- تصدرها لعنوان قصيدتين: ” يمامة على جدارية الأزمنة” (ص 63 من ” بياض الأزمنة” – وقصيدة ” شدو اليمام” من ديوان ” خرز الوقت ” ص 84).
- ورودها في كل دواوين الشاعر:
- الديوان الأول، وردت مرتين: 102- 108.
- الديوان الثاني، وردت أربع مرات: 8-23-23-112.
- الديوان الثالث، وردت مرتين: 14- 67.
- الديوان الرابع، وردت ثلاث مرات: 6-14-46.
- الديوان الخامس، وردت ست مرات: 28-52-75-75-84-84.
مما يؤهلها لأن تكون واحدة من معالم معجم الشاعر ممثلة نسقا ثقافيا أحسن الشاعر توظيفه عبر التجربة على مدار تفاصيلها، مغايرا ماكانت عليه في القديم حين يحملها دلالة جديدة تنتقل فيها من كونها واقعة تحت بصر الذات بوصفا ندا إلى تلبسها بالذات أو تلبس الذات بها عبر علاقة التشبيه ، يقول الشاعر مشبها فوزية أبو خالد ( الذات ) بالطائر:
” حملت حقول البن من “صنعا” وحطت طائرا في القدس
أغراها الدخان وطائر الفينيق، هدهدها الزمان على المرايا ” ([9]).
الشخصية الاستعارية:
الشخصية التي يستعيرها الشاعر من زمنها الماضي (انقضت لحظتها بالموت أو بمرور زمن يتعلق بها سابقا) يستنهضها في زمن لاحق لأداء وظيفة جمالية قد تقترب أو تتباعد عما كانت عليه وظيفتها السابقة منتجة – وفق حضورها الجديد- بلاغتها الخاصة التي هي بالأساس تؤشر على بلاغة الشاعر ( المستعير) .
تتردد في أعمال الشاعر أسماء لشخصيات لها حضورها التاريخي، شخصيات لها مرجعياتها وثقافاتها المختلفة الكاشفة – في مرحلة أولى – عن حركة رادارية يعتمدها الشاعر وسيلة لحركة متلقيه وتحريكه عبر تفاصيل العالم، على سبيل الاستعارة التصريحية يستعير الشاعر شخصيات معينة من سياقها التاريخي، موظفها وجاعلها قائمة بدورها في إنتاج الدلالة، والاستعارة تتشكل في تفاصيلها على النحو التالي:
- المستعار: الشخصية.
- المستعار منه: سياق سابق على / معاصر لزمن الشاعر.
- المستعار له: متلق معاصر لزمن الشاعر أو لاحق عليه.
للوهلة الأولى يتكشف نوع من العلاقة بين ثلاثة أزمنة يكون فيها الزمن الراهن بمثابة المعبر إلى زمن لاحق وحركة متجددة، وتتحدد مساحات حضور الشخصية الاستعارية بمساحتين أساسيتين:
- الصورة.
- النص الكامل وفي الغالب يتحقق حضورها منذ العتبة الأولى للقصيدة ( العنوان)،و تنفرد الشخصية على كامل القصيدة لتكون موضوعا لها ومن هذه الشخصيات :
- عبد الله بن إلياس (ديوان رياح المواقع ص 101).
- بروق العامرية (بياض الأزمنة ص 5)
- أنا فاطمة (مثلما نفتح الباب 49)
- لذاكرة القرى (عبد العزيز مشري) مثلما نفتح الباب 79)
- مرثية لصفات الوردة (زكي أبو السعود وعائلته) مثلما نفتح الباب 93.
- مسفر (شقيق الشاعر الراحل) في قصيدة تحمل العنوان نفسه (مسفر)
في جملتها تعد الشخصية الاستعارية مجالا للربط بين المتلقي والنص بداية حيث يحيل النص متلقيه إلى مساحة زمنية لها سماتها الخاصة، مساحة – بدورها – تخص المجال الحيوي للشخصية المستعارة، فالشخصية لا تحل في النص الجديد منفردة، والمتلقي تجاهها يأخذ وضعية من اثنتين:
- وضعية العارف بالشخصية ولو معرفة جزئية، وهو ما يجعله مستعيدها في سياق جديد هو سياق النص بوصفه بيئة دلالية يستنبتها الشاعر لطرح خطابه ،والمتلقي يؤسس دلالة خطاب الشاعر على مقدار معرفته بالشخصية خارج النص ، تلك المعرفة التي لا تتطابق تماما مع ما يقدمه الشاعر فعبد العزيز المشري الروائي المعروف([10]) يراه المتلقي علامة شعرية يقدمها الشاعر لإنتاج ما هو مغاير لمجرد معرفة المتلقي بكون الشخصية تنتمي لعالم الكتابة.
- وضعية غير العارف، مما يجعله مدفوعا للمعرفة بالشخصية، وحينها لا تكون المعرفة منحصرة في الشخصية بقدر ماهي منحصرة في معرفة ذات الشخصية المستعارة فقط :
- ” يــا “فوز” … يا رفة الأفلاك ، ياشجرا
يخط في الأرض ما أهواه من سنني
- ياطائرا لا يخاف الريح إن عصفت
ولا يهاب المنايا حين تأسرني ” ([11])
حيث فوز ([12]) التي قد لا يعرفها الكثيرون تقوم بدور استعاري بالأساس ليس على ذاتها فقط وإنما على صانعها و منتج دلالتها الأولى ( العباس بن الأحنف ) مما يجعلها شخصية مزدوجة الدلالة ممتدتها من القديم إلى الحديث ، والشاعر يستعير عددا من الشخصيات (الشعراء والفلاسفة والمفكرين والمناضلين والروائيين ) مقيما عالما له طبيعته الحيوية يتحقق حضورها في كل دواوين الشاعر ، ويتخذها الشاعر رموزا لإنسان عصره مثلما نجد في شخصية فاطمة :” أنا “فاطمة”
أتمسك بحقي في الحياة
بحقي في “الحب “
وبأن أعيش مع طفلي
وزوجي
مثلما تعيش كل الطيور آمنة في أعشاشها ” ([13]).
التناص
منذ فجر التجربة اعتمد الشاعر التناص وسيلة من وسائل التواصل مع تراثه أولا، وإعادة قراءة التجربة الشعرية العربية ثانيا (التناصات في معظمها مع الشعر العربي بالأساس ) ولقراءة العالم بوصفه مجالا حيويا لحركة الإنسان وتحقيقه ذاته ثالثا، وهو ما تجلى منذ الديوان الأول للشاعر ، في قصيدته المتميزة ، والدالة على بدايات شاعر متمكن ، قصيدة ” الخبت ” التي جاءت بمثابة الجدارية الشعرية يستهلها الشاعر بالتناص مع طرفة بن العبد في بيته السابع والتسعين من المعلقة:
” وظلم ذوي القربى” ([14])
هنا تبدو اللغة فى حالتها السكونية ، غير الداخلة فى سياق من التركيب ، تعد بمثابة المادة الخام المملوكة للجميع ، جميع أبناء الثقافة الواحدة ذات اللغة المشتركة ، يشاركهم فى ملكيتها كل من يدخل إلى نطاق ثقافتهم أو يتعلم لغتهم ، وما إن تدخل المفردة فى حالة من الفعل عبر إدخالها إلى سياق فاعل تصبح – حسب قدرة صائغها – نوعا من الملكية الخاصة التي تفرض عليك قوانين الأمانة أن تنسبها لمرجعية واحدة ، مرجعية صاحبها ذلك الذى أدخلها في سياق أسلوبي أعلى من كونها مجرد مفردة لغوية، وأسمى من كونها تدرج فى سياق لغة نفعية الطابع ([15]).
هنا يتحرك أفق المتلقى إلى الوعى بالسياقين : سياق النص / العنصر السابق وسياق اللاحق ، طارحا أسئلة التناص ، تلك الأسئلة التي تتشكل بالتأكيد عن الانتقاء وأسبابه ودلالته وقدرته على خلق بلاغة جديدة فى سياق النص فإذا كان التناص نوعين : نوع يدخل فى نطاق وعي المبدع المتناص ، ونوع يدخل في نطاق لا وعيه فإن النوع الأول محكوم بالقدرة على الانتقاء متماهيا مع آلية من آليات البلاغة
( القدرة على الاختيار حيث لا تحقق للبلاغة دون حرية المنتج في المفاضلة بين المفردات والتعبيرات ) كما لا تتحقق بدون اختياره موقفه من السابقين ، وشاعرنا قد اختار منذ البداية التأكيد على هذه العلاقة منذ ديوانه الأول:
” لخولة أطلال ، أجوس خلالها ، ببرقة ثهمد
إذا أفردتني الأرض جاوزت للغد
أبوح بطعم الحب أقتات موعدي
أعاتب أحبابي، بلادي بفيئها
وأهلي وإن جاروا علي فهم يدي ” ([16])
تتناص الأبيات في أولها مع معلقة طرفة بن العبد ([17])
وتتناص في آخرها مع أبيات قتادة:
بلادي وإن هانت علي عزيزة ولو إنني أعرى بها وأجوع ([18])
والشاعر ينهيها بمفردة تعيدنا إلى واحدة من أبرز الصور في المعلقة (يدي) إشارة إلى قول طرفة:
لَعَمرُكَ إِنَّ المَوتَ ما أَخطَأَ الفَتى لَكَالطِوَلِ المُرخى وَثِنياهُ بِاليَدِ ([19])
يتحرك الشاعر عبر العصور مرسخا للعلاقة مع شعراء آخرين:
” ياقلب ” لو أن الفتى حجر” لأسبلت الأصابع
في دمي
وأتيت مختضا بمكنون الحجارة” ([20])
أسلوب خاص
في استخدام متفرد على مستوى أعمال الشاعر، وتأكيدا لمنحاه الأسلوبي يتكرر أسلوب الاستثناء بشكل لافت لا من حيث كثرة الاستخدام وإنما من حيث قلته وارتباطه بمعان محددة، الأسلوب يلزم حالة واحدة هي الأقوى في نوعه، النفي والاستثناء:
- ” ماتبقى من العمر إلا بياض الصبايا يلوح للطير، أن إهبطي من عل
واشربي باقيات يقيني
ماتبقى سوى رعشة الثوب في بدني،
واختلاج الأعنة فوق جوادي،
وكأس حنيني ” ([21])
- “لم تبصر من الأحلام إلا موتها الماثل في الأصفاد” ([22]).
- “لا أطلب سوى أن أعيش مع أسرتي الصغيرة” ([23]) .
- “لا أنال من الهواء إلا ما أحتاجه.
ولا أرى من السماء إلا ما يدلني على حريتي البسيطة.
ولا أفتح عيني إلا على ما يكفيني من زرقة ندية “([24])
وجميعها تقرر ما يؤكده الشاعر من حقوق إنسانية وترسم صورة لما يجب أن يكون عليه الشاعر (في حسمه للأمور والتعبير عن موقفه بشجاعة) وما يجب أن يكون عليه الإنسان (في تقرير مصيره رافضا ما يمليه عليه الآخرون) ، والصيغة تطرح على المتلقي أن يتنبه إلى ماهو واقع بين النفي والاستثناء من أمور يطرحها النص / النصوص بوصفها علامات على مساحة التجربة في عمقها الحيوي المؤسس على مجالها الحيوي الذي يتجلى بدوره في كثير من العلامات التي لا تتسع لها هذه الصفحات المحكومة بالمساحة ، ومنها : الشمس – الشجر – الماء – البحر – النخيل فجميعها تؤكد نظام المجال الحيوي في تجربة شاعر من طراز خاص يقيم قصيدة كونية الطابع .
………..
هوامش
[1] – علي الدميني: مثلما نفتح الباب / 46.
[2] – أعمال الشاعر غير الشعرية: الغيمة الرصاصية، أطراف من سيرة سهل الجبلي (رواية) – دار الكنوز الأدبية – بيروت 1998، نعم في الزنزانة لحن – الأهالي – دمشق 2004، أيام في القاهرة وليال أخرى (سردية أدبية) – دار الكنوز الأدبية – بيروت 2006، زمن للسجن، أزمنة للحرية – دار الكنوز – بيروت 2004، شجر الأغاني، قراءة نقدية في التكوين الشعري لتجربة فوزية أبو خالد –
[3] – ظهر المصطلح سياسيا أولا هنا نستخدمه بصورة إجرائية للتعبير عن مساحة حركة الصورة بشكل جزئي أو القصيدة والديوان بشكل كلي، تلك المساحة في دائرتين: دائرة الخيال، ودائرة الواقع، وحيث تصبح القصيدة بمثابة الجزء الأساسي من الواقع نفسه، فالقصيدة قبل الكتابة خيال وبعد الكتابة وثيقة على واقع هي جزء منه .
[4] – نَشَدْتُ الضَّالَّةَ إذا ناديتَ وسَأَلتَ عنها طَلَبَها وعرَّفَها.وأَنْشَدَها: عَرَّفَها؛ ويقال في الناشد: إِنه المُعَرِّفُ ، والجامع بين هذه المعاني وغيرها ارتفاع الصوت طلبا وتعريفا . لسان العرب – مادة (نشد).
[5] – واحدة من الصور الأكثر تكرارا في القصيدة العربية على مر عصورها، تلك الصورة التي تجمع بين الطائر والشاعر والشجرة، ومن أبرزها قول عنترة بن شداد:
يا طائِرَ البانِ قَد هَيَّجتَ أَشجاني وَزِدتَني طَرَباً يا طائِرَ البانِ
إِن كُنتَ تَندُبُ إِلفاً قَد فُجِعتَ بِهِ فَقَد شَجاكَ الَّذي بِالبَينِ أَشجاني
[6] – بياض الأزمنة / 112.
[7] – بياض الأزمنة / 83.
[8] – بياض الأزمنة / 86.
[9] – رياح المواقع/ 95.
[10] – عبد العزيز المشري (1956-2000)، قاص وروائي سعودي.
[11] – مثلما نفتح الباب / 43
[12] – اسم المرأة التي تغنى بها الشاعر العباسي العباس بن الأحنف (تكرر اسمها 98 مرة، منها 37 مرة بصيغة المنادى).
[13] – مثلما نفتح الباب /57
[14] – تناص مع قول طرفة بن العبد في معلقته:
وَظُلمُ ذَوي القُربى أَشَدُّ مَضاضَةً عَلى المَرءِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ
ديوان طرفة بن العبد – تحقيق: درية الخطيب، لطفي الصقال – إدارة الثقافة والفنون – البحرين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت- ط2/ 2000 / 52.
[15] – المتناص ينجز تواصلا أو قطيعة معرفية مع التراث، أو مع المنجز السابق عليه مما يجعل فعله شكلا من أشكال رؤية العالم، فهو في تواصله أو قطيعته يقوم برفض أو قبول النص / النصوص السابقة عليه وذلك عبر واحدة من اثنتين:
- التواصل بما يعنى القبول والاعتراف، والتواصل يكون بواحدة من الطرق التالية:
- التناص الإيجابي (إدخال النص في النص لإنتاج وظيفة جديدة تشير إلى قبول النص السابق والاعتراف به بما يعنى الاتكاء عليه).
- التناص السلبي، السخرية من النص القديم.
- القطيعة أو الصمت عن النص السابق وهو ما ليس كائنا اعتمادا على أن الكتابة لا تبدأ من الصفر بالأساس.
[16] – رياح المواقع /15.
[17] – مطلعها:
لِخَولَةَ أَطلالٌ بِبُرقَةِ ثَهمَدِ تَلوحُ كَباقي الوَشمِ في ظاهِرِ اليَدِ
ديوان طرفة بن العبد / 23.
[18] – القلقشندي: مآثر الأنافة في معالم الخلافة – تحقيق: عبد الستار أحمد فراج – عالم الكتب – بيروت – د.ت 2/67. الشريف قتاده أبوعزيز بن ادريس بن مطاعن بن عبد لكريم بن موسى بن عيسى بن سليمان بن عبد الله أبى الكرم بنموسى الجون والأبيات:
بلادي وَإِن هَانَتْ عَلَيْك عزيزة وَلَو أنني أعرى بهَا وأجوع
ولي كف ضرغام أدل ببطشها وأشري بهَا بَين الورى وأبيع
تظل مُلُوك الأَرْض تلثم ظهرهَا وَفِي بَطنهَا للمجدبين ربيع
أجعلها تَحت الرحا ثمَّ أبتغي خلاصا لَهَا إني إِذا لرقيع
وَمَا أنا إِلَّا الْمسك فِي كل بَلْدَة يضوع وَأما عنْدكُمْ فيضيع
وقد نسبها الكثيرون لشعراء قدامى (أبي فراس الحمداني) أو معاصرين (أحمد شوقي).
[19] – ديوان طرفة بن العبد / 49.
[20] – بياض الأزمنة /20، متناصا مع قول الشاعر المخضرم تميم بن أبي :
مَا أَطْيَبَ العَيْشَ لَوْ أَنَّ الفَتَى حَجَرٌ تَنْبُو الحَوادِثُ عَنْهُ وَهْوَ مَلْمُومُ
[21] – بياض الأزمنة / 86.
[22] – مثلما نفتح الباب / 34.
[23]– مثلما نفتح الباب / 51.
[24] – مثلما نفتح الباب/ 55.