جداريات عادل عزت الشعرية

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د.مصطفى الضبع

يستمد مصطلح الجدارية الشعرية مرجعيته من المعلقة العربية المعروفة وما بين المعلقة القديمة والجدارية الحديثة تاريخ طويل من قصيدة تبحث عن مصطلح أعني القصيدة المطولة التي تضاهي المعلقة في طولها وتحمل جيناتها الفنية والشعرية ، الجدارية الشعرية قصيدة مطولة تتضمن ألوانا متعددة وأطيافا متنوعة من الفنون الشعرية تحافظ على جينات المعلقة ، وتشكل لنفسها مسارا حضاريا مغايرا يناسب اللحظة التاريخية التي ولدت فيها .

ونحن على مساحة زمنية قرابة خمسة عشر قرنا فالسؤال الذي يطرح نفسه بقوة :

لماذا لم يستمر إطلاق المعلقة على القصائد المطولة بعد العصر الجاهلي ؟ ولماذا ظل المصطلح – دون أن يتطور أو دون محاولة واحدة لتطويره – حبيسا للعصر الجاهلي رغم استمرار القصيدة ومقوماتها الفنية ؟.

السؤال نفسه لم يطرح من قبل ، فقك انشغل الدارسون بالتحقق من وجود المعلقات أو المقارنة بينها أو تحرير المصطلح أو البحث في جماليات المعلقة دون محاولة الخروج عن دائرتها المحدودة والمحددة بعصرها وبشعرائها وموضوعاتها .

بعد انتهاء العصر الجاهلي تاريخيا وعلى مدار عصور الشعر العربي كله ظهرت قصيدة لا تقل عن المعلقة في الطول ، اصطلح الدارسون عليها بالمطولة الشعرية ، وقد مرت بمرحلتين فنيتين أساسيتين :

  • مرحلة القصيدة المطولة : وتمتد من العصر الأموي حتى المرحلة الكلاسيكية حيث القصيدة المطولة التي لا تحمل عنوانا ولا تمتد القصيدة إلى مساحة الديوان .
  • مرحلة القصيدة الديوان : وتمتد من المرحلة الرومانسية ومابعدها من مراحل الواقعية حتى قصيدة النثر ، وتتسم بالقصيدة الديوان أو الديوان الذي يضم قصيدة واحدة ويفرض نفسه على مساحة الديوان .

المعلقة والمطولة كلتاهما قصيدة حمل السمات نفسها تقريبا ، مع احتفاظ كل واحدة بسياقها الخاص ، ولأن المطولة تسمية فضفاضة وغير علمية فإنها إن كانت تصلح لعصور سابقة جاءت بعد عصر المعلقات ، فإن مصطلحا آخر يأخذ طابعه العصري يمكنه أن يحل محل المطولة أو على الأقل يمكن التحقق من فنيته ودراسة القصيدة بوعي منه ، أعني مصطلح الجدارية .

لنا أن نستعير النموذج العربى القديم نموذج المعلقة ، على أن نطورها (بفعل عوامل التطور وظروف اللحظة التاريخية ) لتكون الجدارية فى مقابل المعلقة ، والأمر بسيط من ثلاث زوايا:

  • ارتبطت المعلقات بالخيام يوم لم يكن هناك جدران ففى وجودها يصبح الأمر مرتبطا بسياق حضارى مغاير ينتمى للجدار فى ثباته بما يعنى محوا وتجاوزا للخيمة .
  • المعلقات كانت سبعة أو عشرة عندما كان مجموع الشعراء أقل بكثير مما هم عليه الآن ويوم أن كانت القصيدة الواحدة مناسبة للتميز بين شعراء القبيلة الواحدة ، وقياسا إلى التعداد السكاني الآن إذا اعتمدنا فكرة الدولة في مقابل القبيلة فإن انتشار قصيدة واحدة وتميزها عبر الوسائط الإلكترونية لهو إنتشار مذهل مقارنة بانتشار القصيدة وشهرتها قديما .
  • اعتمادها طرائق شعبية فى التعبير والشعبية هنا يعنى شيوعها وانتشارها عبر الوسيط الشفوى قديما والوسيط الشفوى ( الغناء والحفظ ) إضافة إلى الوسائط المتعددة حديثا .

لا تتخلى الجدارية عن علاقتها بالمعلقة من خلال الاسم لك أن تراها معلقة على جدار الوعى ) أليس من تفسيرات تسمية المعلقات أنها تعلق بالذاكرة) ، ولكنها تعمد إلى إنتاج سماتها الخاصة والمميزة ، ومنها :

  • تنوع الألوان وتكرارها .
  • شعبية العناصر وتداولها .
  • العمل على إطار له زمن المتعة (زمن التلقي).
  • لها ظاهر (لونى وتشكيلى ) ، ولها باطن دلالى .
  • بصرية الصور .
  • تمثيلها للقصيدة فى عصرها ، أو تمثيلها للشعر فى زمنها، إذ تعبر عن سمات القصيدة فى عصرها .

الخلاصة وبصورة إجرائية أن الجدارية في سماتها الأولى : قصيدة طويلة تجمع بين سمات المعلقة القديمة وبين التصوير الجداري المعروف والمعلقة القديمة تجدد حضورها في الجدارية الجديدة ليس وجودا ضاغطا بقدر ماهو وجود طبيعيى تماما كوجود الجينات الوراثية وانتقالها من الجد إلى الحفيد ، وهو حضور ليس مباشرا كما قد يعتقد البعض ، فالجوانب الإنسانية والوجودية التي فرضت نفسها على القصيدة القديمة تعاود طرح نفسها بالقدر نفسه في القصيدة الحديثة ، إنه وجود الإنسان في دراميته إن صح التعبير ، فالدراما حاضرة في القصيديتين ، ولكن حضور الدراما في المعلقة القديمة كان جزئيا في مقابل كلية الحضور في الجدارية .

الجدارية لوحة شعرية تتشكل عبر مجموعة من الصور والمفردات والعلامات اللغوية التي تكون بمثابة تفاصيل اللوحة الجدارية بألوانها المتعددة التي تتضام بدورها لتشكل لوحة كبرى محكومة بسياق خاص لا ينفصل عن سياق عام خارجي تبدو اللوحة فيه كاشفة عن لحظة تاريخية بعينها وإن تماست مع الوجود الإنساني في المطلق الزمني ومختزلة هذا الوجود في سياق يمكن تفكيك تفاصيله وصولا إلى مستوياته الدالة (تماما كالمعلقة القديمة التي اختزلت الوجود الإنساني كما عبرت عن لحظة تاريخية خاصة بها بوصفها ابنة زمنها وخلاصة تجربة إنسان عايش مجتمعا في مكان وزمان معينين ) .

تتعدد الجدارايات الشعرية في القصيدة العربية ( الفصحى والعامية على حد سواء ) ( [1] ) ، ومنها تجربة الشاعر عادل عزت التي تقوم على تشكيل عدد من الجداريات الشعرية ، تتوزع على دواوينه التسعة ، ومن أظهرها ديوانه ” التاسع ” : الهجرة بعيدا عن عواصف الحجاز ” ، فالقصيدة / الديوان التي استمرت كتابتها ” من نوفمبر 2010حتى مارس 2011 عدا أيام الثورة “( [2] ) حسب إشارة الشاعر في نهاية الديوان تحتل مساحة الديوان بالكامل على مدار (77) صفحة .

عبر سبع عشرة فاصلة شعرية متدرجة الترقيم (1-17) يتحرك الشاعر حركة سردية تبدو في البداية منطلقة من نقطة محددة تعمل على تشويق المتلقي وإثارة تساؤلاته وهو المغادر توا عنوان الديوان داخلا إلى النص في متنه الممتد ، لذا يأتي الاستهلال سرديا بالمعنى الحكائي جامعا بين صوت الشاعر / السارد وبين المروي عنها وقد أثبت الشاعر لنفسه دورا سرديا في السياق ممثلا في الشخصية المشاركة في السرد :

” تحولت نظرتها توسلا وطمأنتني

أن زوجها يعب ما يخدر الحواس

كل ليلة ، وبعد ساعة تراه نائما

كأنه انتهى ” ( [3] )

والشاعر حين يستهل نصه بضمير الغياب (تحولت نظرتها ) يعمد إلى بداية تليق بشاعر حديث يشعر متلقيه أنه دخل مسرح الأحداث عند بداية توهج الحدث خلافا للشاعر القديم الذي كان يبدأ من نقطة انطلاقه هو إلى الحدث لا نقطة انطلاق الحدث إلى دوائر زمنية متوالية .

الاستهلال هنا يحقق دلالات عدة ، منها :

  • التشويق بالإحالة إلى الغائب الدافع للمتلقي لمعرفته والتعرف على طبيعته بالقدر الذي يتطلبه السياق .
  • حضور المرأة بوصفها علامة شعرية سابقة لاحقة ، سابقة في المعلقة ( يمكنك الربط بين هذه الصورة وصورة المرأة عند امرئ القيس ، تلك الصورة التي يمثل خدر عنيزة علامة أساسية في سياقها ( [4] ) ، خدر عنيزة يمثل واقعا في تجربة امرئ القيس ولكنه يمثل وعدا قادما ومثيرا في تجربة عادل عزت الذي يستعيد الثلاثية القديمة (الحبيب – المحبوب – الزوج) ، منتجا دلالات جديدة يخرج النص إليها بقوة ما يتضمنه من علامات وبما يكتنزه من أبنية فنية .
  • عند امريء القيس كانت قصته مع المرأة في جانبها الأكبر مقصودة لذاتها لتصوير العلاقة ، ولكنها عند الشاعر الحديث مقصودة لغيرها فالشاعر لم يرد إثبات شيئ لنفسه كما هو الحال عند الشاعر القديم ، فالعلاقة تمثل منطلقا لاكتشاف العالم وتكئة لإبراز تلك الجوانب متعددة الأبعاد .
  • الفاصلة الأولى تنتهي بخروج الشاعر من خطيئة العلاقة مع امرأة لم يجبره على التعامل معها سوى الشهوة :

تشبثت بجسمي الذي أحسه يريد

أن يفر من وجودها ، ومن وجود قطها

الذي قد عاد للمواء ” ( [5] )

   الخطيئة هنا تمثل قبحا خفيا استشعره السارد حال خروجه من عندها:

” منكسرا وصامتا خرجت كالمطرود ” (ص 9) ، فيما تبدأ الفاصلة الثانية بقبح معلن يتمثل في هذه الأصوات التعذيبية :

” وقت الأذان يبدأ التعذيب بالأصوات ، من أوحى لهم بذلك الجنون ؟!

أكلما علا ضجيجهم علت أمجادهم وزاد قدر المسلمين

كنت أحس هذه الأصوات في الفجر سيوفا توخز النيام

أين بلال ؟! كان صوته مسافرا وحيدا في المدى ” (ص 11).

القصيدة الديوان هنا تمثل مساحة من التفاصيل التي يلتقطها الشاعر بعناية ليبثها جدارية نسقت تفاصيلها بقدر كبير من العناية وصولا إلى تشكيل شعري قادر على أن يعطي متلقيه الصورة البصرية المؤهلة لاستكمال عملية التلقي في عمقها ومشاركا في إنتاج رموزها و الكشف عن المخزون الدلالي فيها .

إنها جدارية القبح تقوم عليها تجربة الشاعر في ديوانه ، جدارية تليق بزمن من سماته :

” لا تقدر الفرسان أن تحمي الصحاري فاستحالت الكنوز دونما حرب إلى غنيمة

أكثرها ينهبه طغاة تلك الدولة العظمى المخيفة الجميلة القبيحة الغنية الظلوم

حماة دولة اليهود ” ( ص 48)

خلافا للجدارية بما تتضمنه من جمال بصري يمثل مستوى للتلقي يشكل الشاعر جدارية من القبح والتلوث متعدد الأشكال ، جدارية يقيمها على أنقاض مجتمع يأخذ طريقه للانهيار مالم يكن قادرا على اكتشاف مواطن القبح التي يرسمها الشاعر بعناية لا لمجرد الرصد وإنما ليضع أيدينا على هذه المساحات الواجب التخلص منها وتبديلها إلى الجمال .

ذلك القبح المستمر في خيط ممتد تراه في أشكال مختلفية تتواترها الفواصل الشعرية ، ويمكن للمتلقي رصده مرتبطا بعوامل بشرية وتتشارك الفواصل والصور الشعرية في تصوير أنواع من القبح والتلوث الذي يسهم بدوره في تشكيل جدارية من القبح ، متعدد الوجوه:

  • الأخلاقي أولا ممثلا في دعوة المرأة ، وقبح الرائحة ” رائحة غريبة تبعثها أنفاسها ” (ص 8).
  • الصوتي ممثلا في الأصوات المشار إليها سابقا مقارنة بصوت بلال رضي الله عنه .
  • الفكري والسياسي : في إشارته إلى هؤلاء المحتلين الجدد :

” لا ريب عندي أنهم إذا تمكنوا

مضوا بمصر في مجاهل يحيا بها

الحجاز ، والأفغان ، والذين يهربون من تدفق الحضارة .

أليس كل حاكم يظلم باسم الله

يجعل النصوص تلتوي على الذي

يريده ، وعنده المنافقون يسعفونه

بما يشاء من فتوى ؟ ” ( ص 16 )

  • البصري: ويمكن الوقوف عنده بسهولة عبر متابعة عدد كبير من الصور المتواترة في سياق الديوان :

“جاء الشتاء غاضبا فكانت الأمطار

حجة تواطأت مع الإهمال والزمن

تحولت بلدتنا ماء وطينا يأكل البيوت ” (ص 18) .

  • إزدواجية الشخصية : حيث يعتمد الشاعر المبنى وسيلة ترميزية للتعبير عن صورة دالة :

” مبنى عتيق حافل بالزائرين والمعاملات

يملكه الثري ذو الوجه الذي كان خطيبا ذا بشاشة ، وبعدما مضى الليل عليه عاد للصرامة

غرفته قد ملئت بصوته وروحه وحرصه على الثراء ” ( ص 33 ).

وتمتد الصورة كاشفة عن التناقض في الشخصية بوصفها نموذجا دالا على العصر .

بعدها ينطلق الشاعر تشكيل عدد من العلامات وتوظيفها بالقدر الذي يجعلها قادرة على تقديم منتج مغاير لما هو متجدد رغم ارتباطه بالمعلقة القديمة ، فالشاعر في تشكيله للجدارية لا يستحدث كل العناصر التشكيلية وإنما يعيد توظيف عناصر سابقة التجهيز ، أو إنتاج علامات تقوم بوظائف مشابهة لما قامت به عناصر أخرى مغايرة في القصيدة القديمة ، ويكفي الوقوف عند علامتين :

  • دور الطفل في المعلقة ، الطفل علامة اجتماعية على الأم /المرأة العاشقة ، يقابله القط في الجدارية الجديدة ( المعلقة الجديدة) والقط هنا علامة نفسية :” – ” وقطها كان يموء جائعا .. حين رآني فر واختفى” (ص 6).

” ومن وجود قطها الذي قد عاد للمواء ” (ص 9)

فالقط هنا يحيل إلى التعبير عن رغبتها المعلنة ، مختارا التعبير عنها عبر القط إشارة إلى حيوانية الرغبة كما تبدو منها وهي تخالف التقاليد الاجتماعية داعية العشيق في وجود الزوج .

  • الشاعر القديم عاش على الماضي بوصفه مجدا أو بوصفه فعلا لا يقبله المجتمع فاحاله إلى الماضي ، ولكن الشاعر الحديث يعايش حاضرا منبها لما فيه من مشكلات وياخذ على الآخرين محاولة العيش في الماضي:

“نبرتهم بها تعال ووعيد هائل كأنهم لا ينطقون عن هوى

يحاولون دون جدوى أن يعودوا نحو أزمان تلاشت في الزمان

………………

يمشون بين الناس مبطئين في اغترار من يعرف أين تكمن الحقيقة

ظنوا بأنهم جنود الله في الدنيا ” ( [6] ).

الفعل الإنساني

إذا كانت المعلقة تراهن على فعل الفرد في لحظة تاريخية لا يكون فيها العمل الجماعي إلا في الحروب والصراعات المختلفة ، فالجدارية تراهن على الفعل الإنساني في جماعيته ، صحيح أن السارد واحد (شأنه شأن الرسام حين يعبر عن فعل الجماعة دون أن يكون مشاركا في الفعل الجمعي بشكل مباشر وإنما يكون عمله عمل الراصد والمسجل لهذا الفعل ) ولكن هذا السارد يتيح الفرصة للفعل الإنساني أن يتجلى غير أن وصف الفعل بالإنساني هنا لا يعني الإنسانية من حيث هي منجز بقدر ما يعني الانتماء للجنس فقط ، الفعل هنا يعني فعل من ينتمون بالإسم فقط ولكن فعلهم ينتمي للخراب وقد احتشدوا وراء قائدهم لنشره:

” أتباعه تزايدت أموالهم .. بعدئذ تزايد المال مع الجماعة

فانتشرت شرورهم .. شرور من يمتلكون المال والجهالة

لا كتب تباع في بلدتنا إلا بعلمهم

أباحوا ما رأوه صالحا .. وانتشروا

بقوة الأبدان يمنعون ما يرونه مخالفا لهم كأنهم يروجون للخراب والغربان ” (ص 50 )

بعدها لا تتعجب مما يمكن أن ينتج عن فعل هؤلاء ، وكيف سيكون التأثير في نفوس

البشر :

” تداخل الخطيب في أحوالهم وصار منهم .. أرسل المديح في رموزهم

فصدق الدهماء أنهم رجال الله في الدنيا ، وأصحاب اليقين ” ( ص 50).

دلالة الصوت

تفسح الجدارية مساحة للصوت بوصفه عنصرا أساسيا في الصورة الكلية ( الصوت اللون – الحركة ) ، بفرض الصوت نفسه على الجدارية متجليا في : الحركة ، والأصوات الصادرة من الأفراد حتى يبدو الصوت عنصرا مشاركا في إنتاج الدلالة ، وقد اهتم الشاعر بتقديم عدد من الأصوات بوصفها وثائق على الفعل البشري ودليلا على نمط الحركة الإنسانية .

الصوت الأول المطروح على وعي المتلقي هو العواصف بوصفها الصوت الأعلى في العنوان ، سواء في مجازية الصورة (عواصف الحجاز ) أو مقاربتها لواقع متعين ، في كلا الحالتين تتسبب العواصف في فوضي لا يمكن وصفها بالخلاقة ، وهي فوضى تبدو بسيطة على مستوى الطرح الأول ( العتبة ) أو الطرح الثاني (المتن) حيث يبدو تأثير العواصف جليا من خلال ما يحدث في العالم المطروح من فوضى ترسمها الجدارية بوضوح تكشف عنها عشرات التفاصيل والأصوات شديدة الدلالة فالعواصف بوصفها (مبتدأ ) تفضي إلى العالم داخل النص بوصفه ( الخبر) ومن الطبيعي أن يفضي الأول إلى الثاني وليس العكس .

في المتن تتجلى الأصوات عبر مجموعة من العلامات ، منها :

  • الصوت المباشر : “ما إن دخلت بيتها سمعت صوتا دائما ومستفزا .. إنه في نومه يبعث بالغطيط ” ( ص 6 ).
  • وهو ما يتكرر في أكثر من موقف : وقت الأذان يبدأ التعذيب بالأصوات ” ( ص 10).
  • ” معركة الأصوات ” ( ص 13 )
  • الصوت غير المباشر : تداخل القرآن للقرآن ، لا أحد يمكنه – في هذه الأجواء من تزتحم الآيات – أن ينصت للقرآن ” ( 13)
  • ” ألف خطيب صارخ تصادمت صرخاتهم وانتثرت تزاحم الأحياء ” (ص 13 )
  • الأسئلة : وتأتي بصورة مفصلية كاشفة عن أو تعليقا على أو رد فعل لحدث محدد ” أين بلال ” ( ص 14).
  • ” أليس كل حاكم يظلم باسم الله يجعل النصوص تلتوي على الذي يريده ، وعنده المنافقون يسعفونه بما يشاء من فتوى ؟ ” (ص 16) .
  • ” أكنت أستحقها ؟! أم أنها الدنيا بلا عدل ولا أقدار ؟ ( ص 66 ).

الأسئلة لا تقف عند كونها استفهاما له طبيعته المجازية فقط ، أو كونه يمثل أسلوبا إنشائيا متعدد الدلالة ، وإنما يستدعي محاورين اثنين (عبر المونولوج حينا وعبر الديالوج حينا آخر ) يقيمان نظاما من الصراع حينا ومن التفاهم حينا آخر ، فعندما يكون الشاعر طارحا سؤاله يحيل إلى درجة من التقرير القائم على معرفة الشاعر ومساحة إدراكه ، وعندما يحيلنا إلى صوت آخر فإنه يأخذنا إلى مساحة من الصراع بين قوتين ( في الغالب قوة التنوير في مقابل قوة الظلام ) : ” قد نزعوا مني كتابي ثم مزقوه قائلين ” كيف ياظلوما تقتفي آثار ذاك الكافر الأعمى ” ( ص17 )

إن كثيرا من التفاصيل التي لا يتسع الوقت لتقصيها تتجاور لتكشف عن قدرة الشاعر على إدارة جداريته عبر تشكلات متنوعة ، دالة قادرة على تصوير واقعها بقدر لا يجعل متلقيها مغيبا عن لحظته وإنما يكون عليه فقط إدارك التفاصيل بقدر من العناية القريبة من عناية الشاعر باللوحة التي نجح فيها في تصوير ما تسببت فيه عواصف الحجاز .

هوامش وإشارات

[1] – سبق دراسة تجربة الشاعر مسعود شومان في ديوانه ” ما تقفش عند بداية الحواديت ” من المنظور نفسه ، انظر : اكتشاف المخزون الإستراتيجى لفن القصيدة العامية ، جدارية مسعود شومان “ماتقفشى عند بداية الحواديت “- أخبار الأدب – العدد 1005-28 أكتوبر 2012.

[2] – عادل عزت : الهجرة بعيدا عن عواصف الحجاز – السلام للطباعة – القاهرة 2011، ص 77.

[3]الهجرة بعيدا عن عواصف الحجاز ص 3.

[4] – إشارة إلى قول امرئ القيس في معلقته :

وَيَومَ دَخَلتُ الخِدرَ خِدرَ عُنَيزَةٍ       فَقالَت لَكَ الوَيلاتُ إِنَّكَ مُرجِلي

[5]الهجرة بعيدا عن عواصف الحجاز ص 9.

[6] الهجرة بعيدا عن عواصف الحجاز ص 14- 15.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
ترقينات نقدية
د. مصطفى الضبع

تناغم (23)

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
ترقينات نقدية
د. مصطفى الضبع

تناغم (22)