د.سيد ضيف الله
“ثورة الفانيليا” هو كتاب لمبدعة من الاسكندرية تعمل باحثة في الصحة النفسية. صدر هذا الكتاب هذا العام عن دار المثقف للنشر بالقاهرة. يبدو العنوان الفرعي على غلاف “ثورة الفانيليا” بمثابة تأكيد على حرص الكاتبة على إثارة الدهشة والتساؤل لدى القاريء حول النوع الأدبي الذي تريدنا أن ندرج فيه نصوصها. فثورة الفانيليا يتم رصد وقائعها وأسبابها عبر “رسائل من المطبخ”.
كيف يمكن أن تكون ثورة الفانيليا؟ وما الرسائل التي يمكن أن تكتبها امرأة ترصد ثورة الفانيليا من المطبخ؟!
الرسائل نوع أدبي قديم، منه ما هو رسمي وكان يُسمى بالرسائل الديوانية نسبة لدواوين الحكم، ومنه ما هو غير رسمي أو اجتماعي وكان يُسمى بالرسائل الإخوانية نسبة لما يتم بين الإخوة والإصدقاء من مراسلات. لكن لم ينشغل النقد الأدبي قديمًا وحديثًا- فيما أظن- بدراسة الرسائل الغرامية باعتبارها نوعًا أدبيًا مختلفًا من النوعين السابقين من حيث الغاية منه وطريقة التعبير المتبعة في كل منها. ومن الطبيعي أن تكون سرية هذه الرسائل الغرامية أحد الأسباب التي حالت دون دراستها بشكل نقدي، فهي شأن شخصي بامتياز فلم تُكتب للنشر العام. أقصد بالرسائل الغرامية رسائل الناس العاديين لبعضهم البعض، لاسيما أن العشاق كانوا فيما مضى يستعينون بكتيبات يشترونها من عند باعة الجرائد عادة لينقلوا منها أو يتعلموا منها كيف يكتبون رسالة غرامية، ومن ثم كانت تتواتر عبارات وتشبيهات حتى أصبحت عرفًا من أعراف الرسائل الغرامية المكتوبة في زمن الخطابات الغرامية الورقية.
“ثورة الفانيليا” ثورة على الرسائل الغرامية التقليدية التي كانت تسيطر عليها العبارات الجاهزة “الأكليشيهات” والمجازات الميتة من كثرة تداول الناس عليها دون تغيير. وإذا كانت هيمنة التكنولوجيا على حياتنا جعلت الرسائل الغرامية نوعًا أدبيًا كاد أن يكون قد انقرض دون أن يُدرس، فإن سقوط المسافة بين المبدع والإنسان العادي في عصرنا هذا يجعلنا نتساءل عن مصير الرغبة في التعبير الغرامي عبر رسائل شخصية وكيف تتجسد أدبيًا وكيف تنجو من تقاليد الرسائل الغرامية القديمة لتثور على المجازات الميتة لتقدم وعيًا يثمن لحظات الضعف الإنساني ويعيد الاعتبار للرسائل التي تُكتب لكي لا نرسلها لشخص معين، وإنما لتكتشف بها الذات نفسها وتتحرر بها من قيودها أو تستأنس بها آلامها. فضلا عن ذلك ،فإن رسائل “ثورة الفانيليا” تتجاوز مأزق الجندرية لأنها لم تقع في فخ وعي نسوي ثائر يحلق في الهواء بعيدًا عن الملامح النفسية للمرأة العاشقة ذاتها لا سيما مع تبدل أحوال العشق.
تقدم هبة الله أحمد من خلال الإهداء أولى رسائلها بل الرسالة الأم التي تشتق منها رسائل ثورة الفانيليا كاملة. فالإهداء إلى الآخر الذي به تكتمل الذات، وهذا الآخر ليس رجلاً محبًا أو محبوبًا، وإنما هو الآخر الذي تجد فيه ذاتها بل ويعيد تعريفها لذاتها. إنه المطبخ. حيث المكان الذي يفتح لها أبوابًا من الحيوات الموازية ليصبح هو الكيان والكائن الذي لا يملها أبدًا.
(إلى الذي لا يملني أبدًا. يفتح لي أبوابًا لحيوات موازية.. شكرًا لأن كلينا يعيد تعريف الآخر .. المطبخ وأنا). ص5.
من هذا الإهداء نفهم أن الحياة في المطبخ حياة موازية لحياة واقعية تشعر فيها الذات الكاتبة بأنها عرضة لأن تكون موضوعًا للملل. وهذا في حد ذاته، نفي لكل احتمال للشعور بالسعادة. الملل فتور للمشاعر، وفقد للشغف بأي شيء، ومن يشعر بالملل يتألم لكنه قادر على أن يتجاوز شعوره بالبحث عما يثير شغفه ويجدد رغباته، لكن ما هو أقسى من الشعور بالملل هو الشعور بأن شريكك أو الآخر الذي تعيد تعريف ذاتك به قد ملّ منك. وهنا عليك إما أن تتغير لتثير رغبات الآخر الملول أو ترتمي في أحضان الآخر الذي لا يملّ منك أبدًا(المطبخ).
وهنا نجد المطبخ في رسائل ثورة الفانيليا له وظيفة مختلفة عن التصور الشائع لوظيفته في الكتابات النسوية، وبوعي شديد هبة الله أحمد هذين التصويرين المختلفين:
“المطبخ مهربي، محاولة الانفراد بهواجسي التي أصبحت أشبه ببندول ساعة قديم أصابه الخرف يتأرجح بين قدرين …علني أتخلص منها.
(…) قالت لي صديقتي: وجود المرأة بالمطبخ لفترات طويلة وشغل البيت هو أشبه بمعتقل مجتمعي لها، ومحاولة تدجين مستمرة لخيال المرأة.. بوابة لحيوات تمنيت عيشها، ولوحات دموية لانتقامي وفتكي بك قبل اندفاعي لأحضانك”(ص-ص14-15).
إن رسائل ثورة الفانيليا تميزت بأنها رسائل من المطبخ، وهذا المكان بوصفه موقعًا ثقافيًا شكّل كل عناصر الرسائل من مُرسل ومرسَل إليه ورسالة. فكتابة رسائل من المطبخ هي كتابة في الغياب، غرضها إحصاء ما في القلب من طعنات” لذا تخرج كلماتنا لازعة مُبهّرة تدمع العين وتسيل الأنف فنتهم البصل بالرغم من براءته بالدموع” (ص9).
فالكتابة في الغياب ليست كتابة لمحبوب لأنها بالأساس لن تُرسل له حتى لو طبعت ونُشرت في كتاب، إذ يبدو أن ثمة انتقالا من مرحلة الكتابة إلى محبوب لتخفيف ما ينوء به القلب او للعتاب أو لاستجداء وصل العيون إلى مرحلة الكتابة المخيفة “اللاهثة ككلب يركض بكامل قوته نحو عظمةبالحلم، يفيق منه جائعًا يتصبب عرقًا” (ص14).
الكتابة في الغياب هي الكتابة بألف ولام الترعيف، لأنه لا توجد كتابة في الحضور، فحضور المتلقي يعني أننا بصدد حوار أو حديث بين طرفين حاضرين، أما الكتابة فهي حضور لطرف هو المُرسل وغياب حتمي للمرسل له لحظة الكتابة، ومن ثم فالرسائل ذات معان مؤجلة ولا تكتمل معانيها إلا عند متلقٍ يهمه أمر هذه الرسائل. وبالتالي فغياب المتلقي أو حرمان الرسائل من أن تُكمل معانيها عند متلقٍ حُكمٌ مسبق من الذات الكاتبة على رسائلها بأن تكون تجسيدًا لحالتها النفسية المتأرجحة بين قدرين تريد الهرب منهما.
تواجه الذات الكاتبة حقيقة كتابتها لرسائل لا تصل لمن كُتبت له لكنها تختار أن تستدل على تلك الحقيقة بطريقة غير مباشرة، حيث التشكك في الغاية من رسائلها لأنها لم يتم الرد عليها برسالة واحدة من المحبوب إليها!
“لم تأتني رسالة أبدًا مما يجعلني أتساءل أأكتب لك أم لي؟!” (ص80).
إنها كتابة في غياب المحبوب الذي يمكن أن يملّ منها لكنها كتابة في حضور الذات أمام نفسها في سياق المطبخ بوصفه الآخر الذي لا يملّ منها ولا يفرض عليها التغير او التبدل أو أن تكون شخصًا آخر غير نفسها. وبالتالي تأتي رسائل الذات من المطبخ دون تحسينات للكلام ودون مقاطعة ودون خوف من أحكام وتصورات معلبة جاهزة. إنها كتابة تشبه الحديث لمستمع جيد لا يقاطعنا ولا يحكم علينا.
“الكتابة إليك يا كليمي..
هي حديث مكتمل الأركان له صوت واحد هو نقر أصابعي على أزرار اللاب توب أو الاهتزازات البسيطة لحروف الموبايل، أتبادل الأحاديث معك بسهولة، بدون ارتباك، ولا خوف، لا أضيف تحسينات للكلام، ولا أخفي أجزاء منه خشية الملام”(ص135).
إنها كتابة إلى كليم لا يصدر عنه أي رد فعل سوى رفع حاجب للتعجب او للتحفيز للاسترسال في الكتابة التي تشبه الحديث. ولهذا ، ليست الكتابة كالحديث، وإنما هي مهرب من الحديث مثلما أن المطبخ حياة موازية للهروب إليها من الحياة خارجه.
إن الهروب من الحياة الواقعية خارج المطبخ إلى الحياة مع المطبخ شديد الصلة بالهروب من الكلام إلى الكتابة. فالذات الكاتبة تفضل الكتابة على الحكي المباشر حتى لا تتكشف بالكلام ندوب الروح المتراكمة.
“أكتب إليك من جديد رسالة لن أبعثها لك أبدًا، أفضل الكتابة عن الحكي المباشر، ففي الكتابة لن تعرف أبدًا إن كانت الحروف تخرج صرعى أو متقافزة من الأصابع، لكن في المهاتفة تكشف الندوب المتراكمة في الصوت.” (ص16).
وعلى الرغم من أن الكلام يطير في الهواء فإنه وحده الأكثر كشفًا عن ندوب الروح، لكن كشف الندوب لا يضمن النجاح في الوصول إلى علاج ناجع لها إذا لم يكن كليمك خبير بك أمين عليك. ولهذا قد تكون الكتابة اعتماد على الذات في علاج الندوب حين يكون توثيق لحظات الضعف أمام المحبوب وسيلة الذات الكاتبة للتحرر منه أو للاستغاثة من التورط بالنفس.
“أكتب كاستغاثة متورط بنفسه، (…) أعرف بأنني امرأة قوية، (…) لن تتصور أبدًا طعم الضعف المر في فمها وعلى أطراف أناملها حينما توثق ضعفها وهذيانها أمامك، ترتجل كل يوم غابة من أحلام وأفكار تنصب فيها متاهتها مهرجانًا.” (ص134).
الكتابة وسيلة للهروب وللتوثيق في آن لما نهرب منه. وبفضل هذه الوسيلة يمكن إعادة تعريف الذات والآخر وإعادة رسم العلاقة على نحو يحقق التوازن النفسي والتحرر من التورط في الوجود في عالم غير آمن أو مع شخص محبوب لكنه غير أمين عليك ليس لشيء سوى أنه سوف يغدر بك حين يملّ منك.
كتابة “رسائل من المطبخ” هي فعل مبني على تصور للمطبخ بوصفه موقعًا ثقافيًا وليس مجرد فضاء خال من الدلالة الثقافية والاجتماعية. فالمطبخ موقع ثقافي فيه استطاعت الذات الكاتبة أن تحوّله من مكان مخصص للنساء لتجهيز الطعام باعتباره وظيفتها ومسئوليتها وحدها إلى مكان تجهز فيه مجازات تعيد من خلالها تعريف ذاتها بل وتعيد تعريف الحب ذاته ومن ثم تقوم بتمثيل المحبوب الغادر على نحو يليق به في عالم من صنعها وحدها.
فالذات الكاتبة تكرر استخدامها لضمير الجمع المعبر عن “معشر النساء” لتكشف عن صفات محددة للنساء قد يحهلها القاريء أو المحبوب الغادر المفترض أن ترسل له رسائله.
” فالكتابة لدينا يا صديقي
أقصد بـ ” لدينا” نحن معشر النساء، بكاء موثق حينما يخوننا الحديث”” (ص11)ـ
ثم تكشفى الذات الكاتبة عن التلامس الجسدي كوسيلة نسائية لتوصيل الرسائل بقولها:
” نحن معشر النساء نشبه القطط كثيرًا في تمسحن فيمن يحببن بصفة خاصة، ومن حولهن بصفة عامة، نصرح بما نريد عبر اتصال جسدي مباشر ، أقول أحسنت بضغة على الذراع أو الفخ، أيهما أقرب.” (ص57).
وإذا كان تمثيل الذات النسائية الجماعية باعتبارها قططًا تتمسح بمن تحب، يكشف عن امرأة في علاقتها بمن تحب، لكن تمثيل نمط آخر من النساء الخطرات جاء في سياق آخر حيث نكتشف بناء علاقة مشابهة بين بعض النساء الخطرات والفلفل الأسود.
“أحب الفلفل الأسود بشكل خاص؛ أعتقد أنه يشبه بعض النساء الخطرات التي تكمن ثورتهن خلف مظهرهن الضعيف، فالفلفل الأسود يبدو متواكلاً في بداية حياته حيث ينمو في تعريشات صغيرة مستندة على أشجار ضخمة، أوراقه إبرية رفيعة مع خيط طويل رخو من حبيبات متدلية توازي أوراقهن فتعطيك الإحساس بما تبديه المرأة من تبعية وخنوع، وفي أثناء تجفيف تلك الحبيبات تنكمش ويغمق لونها، وما إن صارت تحت ضرسك تقلب لحظتك في لحظة.. واااااو وعمل جيد. ” (ص70).
ومن معجم المطبخ أيضًا تنسج هبة الله أحمد صورة أخرى للنساء كاشفة عن التنوع فيمن بينهن، فالنساء أشبه في تنوعهن ب”شوربة الخضار”، لتبدأ في رصد صفات المرأة البطاطس والمرأة الفاصوليا والمرأة البازلاء …إلخ.
“لدى هوس متفرد بشوربة الخضار، كيان دافيء يشبه النساء كثيرًا، فهي براح رحب جميل سخي يحتمل أي شيء وكل شيء، يعج بالألوان وتماهيها بين بهجة الجزر، وحيادية البطاطس، وقوة البازلاء، ونضرة الفاصوليا والطغيان الهادر لرائحة الكرافس …(…) أخبرتني جدتي أن لكل امرأة نكهتها ورائحة تميزها بما يشبه البصمة لكنني ما إن أصنع شوربة خضار حتى أجد المطبخ امتلأ نساء كثيرات حولي، أتين كلهن إلىّ يضحكن ويبكين ويرقصن ويسبّن ببذائة، ويهمسن بفحش ووقاحة”. (ص91).
سبق وأن استخدمت الذات الكاتبة ضمير المتكلم الجمعي الدال على (معشر النساء) ، ومع ذلك لا نجد تحديدًا لها ضمن تمثيل (النساء شوربة خضار)، وذلك لأنها أقامت اختلافًا مع الذات النسائية الجمعية على مستوى المجاز حين قاربت بينها كذات كاتبة وبين الفراولة كنموذج تتمنى أن تكون مثله حيث الحلاوة واللذوعة معًا.
” أجد الفراولة شيئًا استثنائيًا .. تشبه إلى حد بعيد امرأة فواحة .. طالما تمنيت أن أكونها. حضور باهر بألوان متقدة، وطعم يجمع ما بين الحلاوة واللذوعة. ذلك التضاد الداعي الرافض على حد سواء يشبه الفتنة المبطنة لكل ما هو حي”(ص80).
وتتطور العلاقة بين الذات الكاتبة والفراولة إلى تمثيل ممتد تضفي عليه ملمحًا دراميًا حين تستحضر صورة أحد العابثين على وسائل التواصل الاجتماعي بالفراولة نازعًا عنها النقاط البيضاء بالإبرة كفعل تشويه غرائبي للفراولة نموذج المرأة الفواحة.
“تذكرت مستاءة صورة على الفيس بوك لحبة فراولة خالية من تلك الحبيبات الرفيعة التي تشبه حبة الخال على وجوه الحسناوات، انتزعها أحدهم بإبرة كروشية صغيرة نتيحة لإحدى نوبات الملل والفراغ أو الدونية”(ص81).
وإذا كانت الفراولة نموذج المرأة الفواحة يتم تشوييها خارج عالم المطبخ، فإن الأنوثة الفياضة تتجسد في معجم المطبخ المجازي من ذلك المزيج بين القرفة والفانيليا والذي يشحذ الهمم للتحدي، ويثير الشهية، ويمد الذات الكاتبة بطاقة من اللطافة غير المحدودة.
“أحب رائحة القرفة المختلطة بالفانيليا بشكل لا يُصدق، تثير شهيتي رائحة الفانيليا، وتمدني القرفة بطاقة من اللطافة غير المحدودة، لسعتها مع حدة رائحتها تشبه الأنوثة الفياضة التي تشحذ الهمم للتحدي” (ص27).
إن إثارة الشهية بفعل مزيج القرفة والفانيليا يعني أننا أمام فعل “أكل” نهم مصحوبًا بسعادة أو نشوة ما، فالربط بين هذه المزيج والأنوثة الفياضة يسمح بالوصل بين الأكل والحب أو بين الشهية والنشوة، لاسيما أن تمثيل الحب وفق معجم هبة الله المجازي المشتق من عالم المطبخ هو تمثيل لعميلة أكل لمن نحب ليتحول ليكون بعض الذات بالفعل بفعل الهضم أو الاستيعاب أو صهر المحبوب في الذات العاشقة. ومن ثم يأخذ مشهد أكل الحبيب المتخيل أو المرغوب فيه تفسيرًا مختلفًا عما هو دارج في الثقافة السائدة وإن كان البعض يمكن أن يستخدمه في سياق الرغبة الجارفة على الاشتمال الدال على الوصول لذروة العشق. وهو في كل الأحوال مشهد يجسد الحب كما تريد أن تعرفه الذات الكاتبة حيث لا ملل ولا غدر.
“وأنا أزج الصينية في الفرن تسألني الشواية التي أهم بإشعالها: هل ستشعرين بالشبع إن أكلتي من تحبي؟
(…) هل تستطيع أن تجيبني أنت يا صديقي؟
هل سنشعر بالشبع إن أكلنا من نحب؟”(ص44).
إن تمثيل الحب باعتباره هضم الذات العاشقة للذات المعشوقة حتى تكون جزءًا منها ، هو تمثيل يعكس تصورًا للحب يتضح بالكشف عن مهارتين مترابطتين في هذا التمثيل الممتد عبر أكثر من مشهد؛ المهارة الأولى مهارة صنع الطعام حيث تمنح الطابخة الطعام من روحها.
“جدتي كانت تقول: العجين يأخذ من روح عاجنه”(ص46).
أما المهارة الثانية فهي مهارة تذوق الطعام أو التهام الأنثى من العاشق الذواقة.
“العاشق المتمرس هو من يتقن حياكة بداياته كما الذواقة عند الأكل ليلتهم أنثاه \ وجبته الكاملة.”(ص91).
إن تمثيل الحب على هذا النحو يجعل من الحب خارج عالم المطبخ مشاعر سطحية لا تستحق أن تُعاش فضلا عن أن يُطلق عليها حب. ومن هنا كان من الطبيعي حتى تنسجم المنظومة المجازية الرسائل هبة الله أحمد أن تقدم المحبوب خارج عالم المطبخ في صورة الأطباق الدائرية المسطحة حيث “دائرية الأطباق تذكرني بمراوغاتك، فأنت تهرب من الزوايا الحادة ولا تتفق مع نزاهة الزوايا القائمة، كما أنها تشبهك في تسطيح ألمي كما يتسطح بها الأرز وخيوط المكرونة المتشابكة.”(ص78).
ومن هنا، كان القرار الذي اتخذته الذات الكاتبة منذ قررت الهروب إلى المطبخ لتوثيق ندوب الروح هو القيام بثورة تشبه ثورة الفانيليا فبينما تقوم الفانيليا بطرد الروائح الكريهة من الأطعمة تقوم الذات الكاتبة بطرد المحبوب الذي يسطح آلامها ويراوغها ويشعرها بالملل منها. وهنا الطرد يأخذ شكل تحويله إلى شيء ملقى على أرفف الأطباق لا دور له في عالم المطبخ الذي صنعته لنفسها بنفسها لتعيد تعريف نفسها به.
“لُذت بالمطبخ لأنعم بالدفء وأتلذذ بتشيؤك في كل شيء”(ص21).
وفي الختام أقول، حاولت أن أتلمس شبكة علاقات مجازية قامت هبة الله أحمد ببنائها بوعي شديد فيما أظن، لتكتب لنا رسائل يصعب إدراجها بسهولة ضمن الرسائل الغرامية التقليدية فهي رسائل فيها من التخييل والحبك ما يجعل منها قصًا وإن كان هذا القص قد اتخذ قالب الرسائل عوضًا عن البوح بالحكي.















