أحمد المنجي
كان الأصيل قد هلّ يُضفي لونه الذهبي على الدنيا ويبرز لطائف الربيع، والأرض مبللة رطبة والخلق ذاهبة آتية في الشارع بحِسٍ هادئ قد أنهكها الصيام، وفوطة الجزمجي، الذي اصطاده سيد عبد العزيز فور خروجه من دوام عمله بمكتب الأوقاف بالدقي، تمرُش حذاءه الجلدي الأسود الذي خطت وجهه خطوط بيضاء لا يذهب أثرها ولو مسحت ألف مرة، وهو واقف ثاني رجله يُعبّق رئتيه من سيجارة بأنفاس طويلة في تمزج وارتياح كأن الرجل يُدلك له ما تيبس من قدمه. وكان الجزمجي يرمقه من حين لآخر متأففاً من دخان سيجارته ولاحظ عبد العزيز ذلك فعلق بلهجة ثابتة متعالية تنم عن حجة راكزة لمدخن في نهار رمضان: السكر اللعين يحرمني من أجر الشهر الكريم، عافاك الله.
غير أن أفكاره في الداخل كانت مختلجة مهزوزة على عكس لهجته، فقد خسر في سهرة الأمس مبلغاً ليس بالقليل وأدرك أن فاقة قد نالت من جيبه إلى ما تبقى من الشهر. وهو مقامر قديم يعرف جيداً أصداء الخسارة ودواعي التعويض ومتطلباته من حشد مال للعب به، ولما كانت الشعائر هينة على نفسه ولا يكاد يتفيأ ظلها أو يتقيد بقيودها، لم يجد أسنح من شهر رمضان لفرصة كهذه، فالطعام والشراب متاح على الموائد بلا نكلة ولا حساب والكرامات تطوف بالأرض، وهو هنالك خبير أيما خبرة في المحافظة على وجاهته وكبريائه كموظف بلا خجل ولا وجل، فلم تكن أول مرة بل حلاً يدخره للأيام القِحال.
ولما شعر بفوطة الجزمجي تسأم وتتبلد في حركتها رمقه باحتقار وسحب رجله وناوله خمس جنيهات ولم يستقل ميكروباصاً يتجه نحو شارع فيصل حيث يقطن بل ترجل ناحية المهندسين.
كانت الشمس قد فقدت سلطتها على السماء لما وصل عند صوان رُصت بداخله طاولات عماد معدنية مصفوفة تعلوها مفارش بلاستيكية رخوة. ورأى جوقة من البشر تتسابق على الكراسي في هرج بسيط، وحين تنفذ الكراسي الشاغرة يُزعق بالصوت: كراسي! بينما يسارع الفاهمين ليؤمّنوا أنفسهم بالوقوف عند مدخل الصواني والأواني والأطباق. الحركة تدب صحيحة في المكان، العيال تجري هنا وهناك يقذفون بعضهم ويعبثون بما تطوله أيديهم والنساء تضرب من تقدر على إمساكه. تقدم في أُلفة واضحة نحو ذلك المسرح بعدما تطلع في الوجوه الكالحة واشترك معهم في الانتظار فقط، وأخذ يرفع بنطاله ويشد أكمام قميصه من تحت أكمام البدلة ويُسرّح بكفيه جانبي رأسه المشعّرين في زجاج إحدى السيارات المركونة، وبدى في الزجاج وجه مُمتلئ مزيّت أربعيني منبّت الذقن وفم مائل للانحراف كأنه متوثب للسب دائماً. وأذن المغرب. وصعدت البسملات والتسبيحات من الأفواه إلى السماء تترا، بينما أشعل سيد عبد العزيز سيجارة وهو يتابع من موقفه المشهد في شموخ وشمول كأنه يقف على تل، ولم يُعن بالزجاجات البلاستيكية المشبرة المعبأة بقمر الدين والسوبيا وإنما عاين محتويات الأطباق الفلينية الموضوعة بعناية. كمية أرز بحجم كفين متلاصقين وثلاث قطع من اللحم المسلوق، إذاً فقد صدقت أقاويل المرتجلين من أول الشارع بأن في هذا الصوان لحم هذه الليلة، إنه لامع وطري تقتطعه بسحبة خفيفة وتمضغه مضغتين فيذوب في أرجاء الفم كالزبدة، وليس كاللحم السوداني الذي ابتاعه من المجمع الاستهلاكي وأخذ منه من المغرب إلى المغرب ليسويّه. وفكر أن هذه المائدة رغم صغر حجمها وخفوت صيتها إلا أن القائمين عليها يبدون آية في الكرم والخير. ووقعت عيناه على شاب أسمر ملتحي يغرف أطباقاً ويناولها فتفرسه لدقائق حتى أيقن أن مثله ما يبحث عنه. وزايل مكانه متجهاً نحوه بخطوات وئيدة وهو يجول ببصره في أطباق الجالسين كقائد كتيبة يتفقد جنوده، وتوقف في طريقه يربت على كتف شيخ في جلباب مهلهل منهمك في الأكل ومال نحوه يسأله بصوته اللزج: كل شيء تمام؟ الطعام تمام؟ فرفع الشيخ رأسه وكفيه إلى السماء دون أن يلتفت إلى الصوت: ربنا يبارك لك في بيتك وعيالك يا بيه. ثم عاد للأكل.
وتابع طريقه إلى الملتحي حتى وقف قبالته بمتر تقريباً ونادى عليه: انت يا ابني تعال هنا.
والتفت إليه الملتحي بعنين فاهيتين خيّرتين : أؤمرني يا والدي، أينقصك شيء؟
ورد متجهماً:
-وماذا عساه ينقصني؟ أنا عمك سيد عبد العزيز المشرف على المائدة، أما فطرت بعد يا ولد أم ماذا بك؟
وترك الشاب ما في يده وانتصب وهو يمسح يديه في بنطاله وقال مرتبكاً:
-جهلك من لا يعرفك يا أستاذ، بالكاد قد غيرت ريقي بتمر ومياه واطعام الطعام أولى والأجر والثواب على الله.
-بارك الله فيك، ولكن ماذا عن طبق الجودة ألم تأكل منه مع الآكلين؟
واعترى الاستفهام وجه الشاب فصار كعلامته وقال كمن يخلص نفسه من تهمة:
-الحق أن هذا هو ثان أيامي كمتطوع مع الإخوة في المسجد لخدمة الموائد وأنا اليوم وحدي على هذه المائدة فأرجو أن تعذر جهلي.
-لا حول ولا قوة إلا بالله، إذا عمل أحدكم عملاً فليتمه يا ولد، وعلى مُشرف المائدة أن يتذوق الطعام فيتأكد أن جودة ما يأكله الناس أحسن مما يؤكل في البيوت وأطعم، وإن غاب المشرف فهي مهمتك أنت كخادم المائدة، نحن نعامل الرزاق الكريم يا ولدي.
واستطرد في تأثر مصطنع:
-هون عليك هون عليك، هيا ناولني طبقاً!
وأخذ الشاب يغرف طبقاً في اضطراب وقد طُبع على صفحته غباء ساذج، ومُلئ الطبق عن أخره تحت أنظار عبد العزيز الناطقة وريقه المتحلب الآيل للهبوط. والتقف منه الطبق وجعل يدلل اللحم بأسنانه في جوفه ويُتبعه بالأرز وأعصابه تنساب من اللذة والشهوة حتى بَيّض الطبق الفليني تماماً كيوم خرج من المصنع. وبنفَس مطبوق أشار إلى صينية البسبوسة الموضوعة على الأرض مستفهماً، فهمّ الشاب يقطع له قطعة كبيرة ويناوله طبقاً.
وبينما هو منهمك في طبق الحلو خال إليه أنه رأى سحنة يعرفها تتجه نحوه لم تنفذ إلى بصره تماماً من الخطفة الأولى لكنه عرف هذا التكوين، وتوقف عن المضغ وهو مطرق الرأس في الطبق وشعر بضيق شديد وانقباض أنسياه طعم ما أكل، وجعل يُقلب في الذاكرة. وغلبه خاطر شجاع بأنه عسى أن يكون مجرد ضرب من خيال فأخذ يرفع عينيه ببطئ وحذر حتى ارتطمتا بسامح الفراش في مكتب الأوقاف، قادماً نحوه متهللاً بخطوات ثابتة كمن يرحب بضيف عزيز، فرد عينيه الجاحظتين إلى الطبق في سرعة وتورمت أفكاره، هذا ما لم يعمل حسابه، هذا الوجه يُرى يومياً، أيدفع كرامته ثمناً لصعلكته الان وما أراد إلا أن يتعرض لنفحات الشهر الكريم بأن يدخر ما قد يُنفق على الطعام للمقامرة والتعويض. وتصّنع انهماكه في الحديث مع الشاب بغمغمة غير مفهومة كآخر أمل عل الفراش ينصرف عنه، وإنه لفي عبثه حتى قاطعه صوت الفراش قائلاً:
-عم سيد عبد العزيز عاش من شافك.
وكان معتادا على أن يناديه ب (أستاذ سيد) وأيقن أن عليه تدارك نفسه والموقف على أسرع ما يكون فلا تؤمن عقبى ما بعد رفع الكُلَف وتساوي الرؤوس. فقال مقنّعاً بالترحيب والدهشة:
-من؟ سامح الفراش، يا محاسن الصدف.
وكبُر عليه منظره وهو ممسك بالطبق تحت عيني سامح الداهشة الراثية فقرر أن يبادر قبل أن يبرر وأن يضرب من حيث أراد الاخر أن يفعل، فأمسك بطرف بدلة سامح يُقلّبها واستطرد:
-وما هذه البدلة الأنيقة إنها أول مرة أراك في بدلة مع أنني أشبه عليها، أين رأيت هذه البدلة يا تُرى؟ اه، عرفتها تلك بدلة قديمة لسيادة مدير الإدارة.
وأجابه الرجل متبسماً دون خجل أو توتر بل قد احتدت عيناه التي لم تبرح عبد العزيز في مكر وسخرية:
-هي بالضبط، الرجل خيره علينا جميعاً، ولكن ما عساك تفعل هنا ومسكنك بعيد عن هنا تماماً؟
-الواجب وأحكامه فأنا المشرف على المائدة وذاك الشاب هو..
وقطع كلامه انفجار ضحكة سامح فانقبض صدره كأنما كُشِفت عورته.
-مشرف على أي مائدة يا عم سيد؟ إذاً فامذا أكون أنا؟
واستطرد مستغلاً تلعثم عبد العزيز الذي انبرى للدفاع فلم تسعفه كلماته.
-إن هذا إلا شغل نحن من ابتدعناه، ولا يساورك قلق فما رأيته هنا سأتركه هنا.
ووجم سيد ونظر للشاب الملتحي يستشهد به فقال الشاب بحذلقة الفاهم:
-الحقيقة أني لا أعرف كليكما والواضح أنك لست بمشرف ولا هو بمشرف وهذه لعبة ابتدعتموها ولا أعرف سبباً لها في حين كان بإمكانكما الأكل ككل هؤلاء، بيد أنه لا شأن لي في ما بينكما، وأنا هنا لخدمة المائدة فقط وأجري وثوابي من الله.
وتشدق كل واحد فيهما بأغلظ الأقسام بأنه هو المشرف وتبادلا الاتهامات وأوجس سيد في نفسه رهبة من تبعات ما حدث وشعر بأنه قد شوهد بعيون الجميع وليس سامح فقط، غير أن حط من ثقل الموقف انكماش ووجوم لاح في وجه سامح كأن نزل عليه سهم الله، وبدا أن السبب يكمن خلف سيد حيث ترشق نظرات سامح. فالتفت، فكان مدير الإدارة في قميص مهلهل وبنطال رثٍ مغطى الرأس والكتفين بوشاح شتوي إلا أنهما قد عرفا هيأته وطلته من أول نظرة، وتقابلت العيون والأجفان جامدة لا ترمش. ورغم ما ألقت رؤية المدير في نفس سيد عبد العزيز من سكينة وارتياح وتساوٍ في الموقف إلا أنها لم تدع متسعاً للمدير إلا ليهرع هارباً كمجذوب يُقذف بالحجارة.