الليل الليل .. الليل يا إنسان

الليل الليل .. الليل يا إنسان
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

في عام 1996 حصلت البولندية فيسوافا شيمبورسكا على جائزة نوبل في الآداب، بعد عقود قضتها عاكفة على الشعر، إذ لا نكاد نعرف لها أي اهتمامات أخرى، ليس إلا الشعر، الذي ظلت حتى وفاتها تكتب منه القليل، والنادر، والأصيل.

القصيدة الواردة في ما يلي مأخوذة من كتاب صدر في شتاء 2005 في الولايات المتحدة الأمريكية بعنوان "مونولوج كلب" بمقدمة للشاعر الأمريكي بيلي كولينز وترجمة من البولندية إلى الإنجليزية بقلم كلير كافاناج وستانيسلاف بارانتشاك

***

 

قردان

هذا ما أراه في أحلامي عن امتحانات آخر العامِ:

قردان، مربوطان بالسلاسل في الأرض،

وأنا جالسة على حافة الشباك،

خلفهما السماء ترفرف

والبحر يستحم

والامتحان في تاريخ البشرية.

وأنا أتهته وأتلعثم.

أحد القردين يحدق فيَّ ويصغي لي

ويحاكيني باستهزاء،

والآخر يبدو في حلم يقظة ما

ولكنه

حين يبدو أنني لا أعرف ما أقول

يشجعني

بهزة رقيقة من السلسلة.

***

من كان منكم يصدق أن القرد هز سلسلته برقة ليشجع الممتحَنة فليكتف بهذا القدر من القراءة، فأنا من جانبي لا أصدق هذا التفسير ولا أنوي أن أدعمه أو أتعامل معه بأي قدر من الجدية. المسألة في رأيي لا تعدو واقعة غش مفضوح. القرد يعطي الممتحنة البليدة إشارة تجعلها تنجح في أسئلة مادة تاريخ البشرية. القرد يهز السلسلة التي تربطه بالأرض: وهذا موجز تاريخ البشرية، أم أن لكم رأيا آخر؟

***

لا أحسب أن نظرية علمية على مدار تاريخ البشرية قد أثارت من الجدل مثل الذي أثارته نظرية النشوء والارتقاء، ولا أحسب أن هذا يرجع ـ في المقام الأول على الأقل ـ إلى أنها تخالف ما جاءت به الأديان، فثمة ملاحدة صرحاء، يدعون للإلحاد جهارا، فيجدون، خلافا للأعداء المعتادين، من يكتفون بالرد عليهم، وتصحيح مغالطاتهم، بل ويجدون من المؤمنين بمختلف الأديان من يشفقون عليهم ويرثون لضلاهم. في ظني أن سبب الاختلاف الصاخب على نظرية دارون هو أنها تنكر على الإنسان شرفه، تاريخه المجيد الذي تقول به الأديان، والسماوية منها على وجه الخصوص.

إليكم تصويرا شعريا كتبه الشاعر جيمس وِلدُن جونسن لخلق الإنسان وفقا للتصور المسيحي:

اغترف الرب الصلصالَ

من قاع نهر           

وجثا على ضفته:

هذا الرب القدير العظيم

الذي نوَّر الشمس وأسكنها السماء

الذي قذف النجوم إلى أبعد ركن من أركان الليل

الذي كوَّر الأرض فى راحة يده

هذا الرب العظيم

جثا على التراب كأمٍّ تحنو على صغارها

وكدَّ فى تشكيل كتلة الصلصال

إلى أن جعلها على صورته.

***

لا يكتفي دارون بحرماننا من هذا التاريخ المشرف، بل من المستقبل الآمن أيضا، فإذا كان الإنسان مجرد تطور لكيان سابق قد يكون قردا أو سواه، فالإنسان الحالي مجرد مشروع كائن آخر أكثر تطورا. هكذا يحرمنا دارون من الإحساس بالأمان تجاه الغد. ومهما يكن الرأي العلمي في نظرية دارون، فشمبورسكا تأتي لتضع في قصيدتها كل قسوة النظرية.

لدينا هنا قردان في حلم أسود يختبران إنسانا في تاريخ البشرية. ليس القرد بالتأكيد إنسانا منقوصا، ولكنه إشارة من الخالق إلى أن وقوفك على قدمين ليس امتيازا، وانتصابك على الأرض ليس خصيصة، فها هو قرد، مجرد قرد، يسير على الأرض سيرك عليها، ولكن ما الذي يفعله بسيره؟ وما الذي يحركه في سيره؟ وما حدود وعيه بما يطؤه في سيره هذا، وما يمتنع عن وطئه؟

ألهذا السبب ربط المصريون القدماء بين القرد والحكمة، تراهم أرادوا أن يذكروا أنفسهم بأن ثمة ما هو أعمق من الخواص البيولوجية المظهرية ليكون الإنسان إنسانا؟ تراهم عبدوا في القرد ما ليس فيه، العقل، شرف الإنسان الحقيقي؟ أم عبدوا فيه مجرد ما فيه: وجوده هنا والآن، برغم افتقاره إلى الكثير، وجوده الذي بعد حذغ كل الزركشات الإضافية يتساوى ووجودهم، أعني ووجودنا نحن.

 

مقالات من نفس القسم