طارق إمام
(1)
لم أكتب يوماً في صمت، كأن انقطاع صوت العالم هو خرس الكتابة.
يفتقر التدوين إلى القدرة على تمثيل الصوت، مثلما يفتقر للقدرة على بعث الرائحة، كيف يمكنك بالكتابة أن تُصوِّر لقارئ ما طبيعة صوت إحدى شخصياتك؟ أن تجعله يميزه لو تسنى له أن يقابله؟ هل نعرف، نحن القراء، صوت أي شخصيةٍ روائية قرأناها منذ بدأنا القراءة؟ كيف بوسعك أن “تُشمِّم” ذلك القارئ رائحة ملابس أو جسد شخص أو رائحة ما يتنسمها في النص؟ إن لم تكن تتحدث عن صوتٍ مشترك في الوعي الجمعي (أم كلثوم مثلاً) أو رائحة معروفة ( لتكن رائحة البرتقال) فلن تفعل اللغة سوى أن تلتفت لعجزها، لائذةً به. لكن الإحالة للصوت تظل أصعب من بث الرائحة، فأنف العالم بأسره يعرف رائحة البرتقال، لكن أذناً دون غيرها هي من تعرف صوت “الست”. لا يملك التدوين سوى تلك العلامات المصفوفة التي نسميها اللغة المكتوبة، ربما لذلك يظل بحاجةٍ إلى ما يُغذِّي نقصه الجوهري ذاك أثناء تحققه، ما دام عاجزاً عن إكمال هذا النقص بعد التحقق. كأن حضور الصوت المتجسد أثناء الكتابة، كمحرض، يدعم، بشكلٍ غامضٍ، تسربه في النص العاجز عن خلقه. كأنه اعتذار للقارئ عما لن يجده أبداً. وكأن الكتابة، لكي تتحقق، تلزمها أغنية، مقطوعة موسيقية، تليفزيون مفتوح، لغط زبائن في مقهى، أو حتى مشاجرة في شارع تنتهي خشونةُ موسيقاها ببقعة دمٍ على قميص النص.
(2)
لم تلائمني دائماً الغرف المغلقة وأنا أكتب، أو لنقل، لم تتوفر لي دائماً تلك “الغرفة التي تخص المرء وحده”. المكان الذي تملك وحدك مفتاحاً لبابه ستملك التحكم في سلّمه الموسيقي، درجات صمته وصخبه، مقاماته وتحديد “نوتته”، وستجيدُ، من ثمّ، تلوين درجة حرارة “الصوت” الذي يغمره بما يلائم عريك. لكن كلما انفتح المكان أو اتسع أو شاركك فيه آخر، (سواء كان هذا الآخر أخ أو صديق أو شريك غرفة) صار عليك أن تستجيب لإيقاعه، أو أن تضبط إيقاعك على وقعِه: مستوى صوت الموسيقي الذي لا يجب أن يزعج شريكاً في غرفة، الأغنية التي قد توقظ نائماً على مقربة، فما بالك بمكان مفتوح وضعتَ أوراقك على إحدى طاولاته لتكتب؟ إن صاحبه يختار لك الموسيقي، التي عليك أن تستمع إليها قليلاً قبل أن تبدأ، لكي توائم إيقاعك معها، كتبتُ على سيمفونيات لأصحاب مقاه يتباهون برفعة الذوق، على أغنيات فيروز وحليم وأم كلثوم، (حبذا لو بزغ عمرو دياب أو حميد الشاعري كهدايا غير متوقعة)، وكتبتُ على وقع أغاني المهرجانات التي تصرخ فيك كأنها تريد أن تحطم اللاب توب.
(3)
ظهرت أغاني التسعينيات كخلفية ملائمة للحياة، موسيقى تصويرية للمراهقة بطلتها “السقفة”: “سقفة” تلائم قصة حب تبدأ، وقصة حب تنتهي على حد سواء: “سنصفق في الحالتين”. إنه الإيقاع الذي يشبهني لحظة الكتابة، حيث المسافة بين البكاء والضحك يجب أن تكون أضيق ما تكون. مثل أغنيات عمرو دياب الحزينة التي أتندر بقدرتها على بث البهجة من حيث تبتغي الدموع، لأن “التوزيع” يحب أن يخون “اللحن”.
أكتب، حتى الآن، على وقع الأغاني التسعينية وما تلاها كامتدادٍ لها من أغنيات عاطفية “رخيصة بحسب المثقفين” وسريعة التحضير، مثل أنفاسٍ سريعة من سيجارة شخص وصل قطاره. يلائمني هذا الإيقاع ويقيني شر ملل تلقِّي العالم في ترهله “الكلثومي” لحظة إعادة إنتاجه كنص، عليه، مهما اتسع، أن يظل خاطفاً.
(4)
كنت كلما انتقلتُ إلى شقةٍ جديدة، أظلُ لفترة أتنصت على طبيعة الأصوات الصاعدة من الشارع، مقرباً أذني كمن يريد أن يحصل على معلومةٍ ليست من حقه. وكمن يخشى أن تمتد يدٌ لتلابيبه وقت أن ظن أنه في مأمن خلف الباب، كنتُ أنا أخشى السقوط.
يملك من يكتب في مدينته غرفةً ما، تظل حتى إن تركها، وعداً قائماً بالعودة، أما الغريب، فتتساوى لديه غرف العالم: جميع هذه الأسرّة خانته، قبل أن يصل، مع جسدٍ آخر.
هذه الموسيقى التي تسبق الكتابة في العُمر، هي من سيشكّل إيقاع كتابتي بنظامها الغامض لكن الذي لا يخلو من نظامٍ ما رغم ذلك. يبدو عشوائياً في البداية، غير أنك بعد قليل، تتمكن من الإمساك بقانونٍ ما، تأتلف مع موسيقى الخلفية العمومية التي ستهبُّ عليك من الشباك المفتوح، ومن الشباك المغلق.
التنقل بين مناطق مختلفة ومتراوحة اجتماعياً وجغرافياً وثقافياً يجعلك أكثر مرونة في التعامل مع ذلك “الجاز”، ذلك الارتجال الذي يخلق بعد قليل قانونه. لكن بدون الإصغاء له، سيظل النص الذي تكتبه مغترباً وعاجزاً عن الاكتمال، سيظل ضيفاً هدفه الحقيقي من المكوث هو المغادرة . سيدعم ذلك بعد قليل اختياراتك الخاصة من المقطوعات الموسيقية والأغنيات التي ستصلك مختلطةً بأصوات هدير الشاحنات هنا أو زقزقة العصافير هناك، لتتلوَّن، بدورها، بمحيطها الموسيقي الأشمل.
أذكر أنني أثناء كتابة روايتي “هدوء القتلة” (صدرت 2008) كنت دائم الاستماع لأغنية “يبكي ويضحك” بصوت الشيخ زين، على وقع هدير عمال بناء آخذين في النهوض بعمارة جديدة وصوت شاحنات ضجيجية. صنع هذا المزيج إيقاعاً ما للرواية، كان في الحقيقة إيقاع القاهرة نفسها: صوفيةٌ معذبة تطفو فوق الإسمنت. في لحظة، بينما يجب أن يستمع البطل لأغنية، يجد نفسه يدندن بهذه الأغنية، وعندما يطل من الشباك، يصف مشهد البناية والشاحنة التي تفرغ الزلط. إنها القاهرة، موضوع الرواية وبطلها، وإيقاعها الخشن غير المتساوق، وهي تأبى إلا أن تضع موسيقاها التصويرية بنفسها. أذكر أن المترجمة الإيطالية للرواية أثناء نقاشها معها، قالت إن هذه الأغنية كانت في مكانها الصحيح درامياً، وشيئاً من قبيل “كأنك أنت من كنت تسمعها وليس هو، وكأنك أنت من نظرت من النافذة عوضاً عنه”، وكان ذلك صحيحاً.
(5)
بالنسبة لي صارت المسألة، ومنذ زمن بعيد، الصوت وليس الموسيقى أو الغناء تحديداً، فكل صوتٍ يصبح بعد قليل موسيقى ما، يصير أغنية على طريقته. وعلى عكس كثيرين، لا تمثل لي ضوضاء الخلفية إزعاجاً أو تشويشاً. هكذا أنام، وهكذا أكتب. وبالطريقة نفسها التي يصير بها كل صوتٍ مقطوعةً يعزفها المستمع، يصيرُ كل واقعٍ رواية، يكتبها القارئ.