هاني إسحاق
خائر القوى، وحيداً جلس فى تلك الغرفة الوحيدة، الكائنة أعلى إحدى بنايات العشوائيات المطلة على إحدى أرقى أحياء القاهرة.
ظلام يعم الغرفة المغلقة كقبر عتيق، تنبعث من جوانبها رائحة ذكريات قاطنها الكئيبة، لاهية فى جنباتها ديدان الزمن، تنخر فى هيكلها، وهيكل قاطنها.
يسترجع شريط ذكرياته..
طفولة فقيرة، مُعذبة لوالدين فقيرين مالاً غنيين حناناً.
أب يعمل فى طائفة المعمار، عائد ببطيخة حمراء كالدم مما يعنى عشاء لذيذا، وقطعة جُبن قديمة صفراء. السكر والملح ألذ طعام للفقراء.
لكنه كره الدم، واللون الأصفر؛ بعدما شاهد والده مُضرجاً فى دمائه أصفر الوجه وقد نزفت منه دماء الحياة، أسفل ذلك البُرج تحت الإنشاء؛ نتيجة عدم وجود (السيفتى) الأمان، توفيراً من المقاول للنفقات.
كانت المرة الأولى التى يشاهد فيها الموت، وهو فى التاسعة من عمره.
ليالٍ طويلة يفتقد فيها حِضن الأب، مُشاهدة دموع أمه أنهاراً مخُبأة خلف أهدابها الجميلة، قسوة الحياة على أرملة معيلة، ذئاب بشرية، وظلم من أرباب العمل.
سيارة مسرعة تدهم والدته، وتتركه مُحطم الجسد والروح، ينظر لأمه وهى تمد يدها نحوه؛ لتحميه، لتزيل عنه الألم، وارتعاشة أخيرة تشمل كل جسدها من أهدابها الجميلة، حتى يدها الممدودة، حتى جسدها النازف؛ لينسحب لون وجهها الوردى وشفتيها إلى اللون الأصفر.
كم أكرهك أيها الموت….
ثلاث سنوات بين الحادثين،وأبطالهما الدم، وصُفرة الموت.
ليالى شتاء قاسية بدون حِضن الأم وحنانها وأهدابها التى ترنو اليه بأمل فى غدِ أفضل، فى وجه كوجه القمر، وشفتيها على جبينه حانية دافئة.
انتهى كابوس الموت ولم تنته آثاره، لكن قبل نهايته ظهر رعب الغد.
كيف يعول نفسه: مأكل ومصروفات دراسية وسكن؟
لا يهم الملبس. ساعده بعض الجيران بما قدروا عليه ليبدأ بداية بسيطة.
يعمل ليلاً؛ ليدرس نهاراً، ويبيت فى مكان العمل.
سخرية وظلم وقهر الفقراء الذين أعلى منه شأناً تهون أمام ظلم وقهر الأغنياء. كلما زادت النقود ازداد معها ظلم الظالم وقهره لمن هم دونه.
لقطات تمر سريعاً لمشاجرات، وصراعات فى أعمار مختلفة، والفوز ليس حليفه، والظلم والقهر نير على كتفيه لا يُبرحانه، يجثمان على أنفاسه وحياته ذاتها.
مدير المدرسة، وولى أمر طالب فاشل يذيقانه الظلم، لأنه ليس له ظهر يحميه: ولى أمر، نقود، سُلطة.
الجامعة بسنواتها الجميلة لأى شاب بالنسبة له كانت كابوسا مُقيما. من كد متواصل واستذكار؛ حتى يصبح مُعيداً؛ لكن كالعادة ابنة عميد الكلية أجدر بالمنصب، وتحطيماً لإرادته تم إضافة خمسمائة درجة لابنة العميد التي سقطت سهواً العام الماضى. وبذلك تخطته فى مجموع الدرجات؛ ليجلس هو أمام القسم على أسفل درجاته مُفترشا أرض الظلم، بثياب كالحة لفقير حلم يوما أن يرتقى أعلى درجات سُلم رسالة التعليم.
صورة مهتزة لحنان التى تشبه والدته بأهدابها الجميلة، ووجهها، وشفتيها الحمراء. إنه لايريد أن يسترجع تلك الذكرى القريبة؛ لقد طعنته فى فؤاده، فى حلمه.
لتتشتت الصورة أمام دهس سيارة مُسرعة لعمى صابر العامل فى طائفة المعمار؛ لتتركه مُضرجاً فى دمائه من حوله ويعلو وجهه صُفرة الموت.
الفقر، والظلم، والموت حوّلوا روحه لإعلان نهاية إنسان؛ ولكن لا، ما زال هناك أمل. إنه وجه أمه الذى يراه فى القمر؛ف يعطيه الأمل.
يحاول جاهداً رفع نفسه، وتحريك قدميه نحو باب الغرفة؛ ليرى وجه والدته فى ذكرى يوم مولده2018/1/31 لعله الأمل الأخير فى حياته المحطمة، لم يكن يعلم أن المشى نحو الأمل بكل هذه الجروح، والألم النفسى الرهيب المنعكس على جسده المنهك وعقله المكدود ؛ يحتاج كل هذا المجهود.
لمحة واحدة من قمرك يا أمى يغير حياتى…
ثم فتح الباب أخيراً ليرى ذلك القمر … القمر الدموى.
(توجد نهايتان: يمكن للقارئ الاختيار بينهما)
ثم فتح الباب أخيراً؛ ليرى ذلك القمر…القمر الدموى؛فذاب قلبه فى جسده.
هل مات القمر، أم يدعوه للموت؟
هل هذا وجهك يا أمى؛ بعد أن وجدت أنى لا أستطيع، ولا أقوى على تلك الحياة الظالمة؟
ماهذه الدماء والصُفرة فى وجه القمر؟
أجيبينى ياأمى
هل أبى معكِ؟
هل أعددتم لى مكانا أفضل من هذه الحياة؟
هل…هل…هل…
غشاوة على عقله، وعينيه. خدر يسرى فى أطرافه.
تمتزج روحه بنور القمر الدموى.
فيحتضنها القمر.
ليهوى جسده، وعقله ذاهب لغيبوبة لا رجعة فيها بانفجار شريان فى المخ.
آخر ما شعر به هو…
تحرر روحه من هذا الجسد المنهك نحو قمر، قمر مُنير فى فضاء سرمدى..
قمر لا يعرف…لا يعرف…
الفقر… الظلم…القهر…الموت.
(النهاية الأولى)
ثم فتح الباب أخيراً ليرى ذلك القمر…القمر الدموى؛ فذاب قلبه فى جسده
هل مات القمر، أم يدعوه للموت؟
هل هذا وجهك ياأمى؛ بعد أن وجدت أنى لا أستطيع، ولاأقوى على تلك الحياة الظالمة؟
ماهذه الدماء والصُفرة فى وجه القمر؟
أجيبينى يا أمى.
هل أبى معكِ؟
وظهرت ومضات فى عقله: البطيخ الأحمر، والجبن الأصفر، السكر والملح هزما مرارة الفقر.
صُفرة الموت، والدماء النازفة لوالديه، هزما الموت ليحيا هو حياة أفضل.
إن وجه أمه يدعوه للنهوض من موت الهزيمة كعنقاء النار، ليواجه الحياة.
إنه يرى فى ذلك القمر الدموى؛ حماسة والديه وقد ضحيا بحياتهما من أجله.
فكيف يضيع هذا الحب العظيم هباء؟
فليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه.
إنه يمتلك سر الوجود
إنه يمتلك أعظم أسلحة الكون لمواجهة هذه الحياة.
إنه يستطيع أن يقهر الفقر، والظلم، والقهر، والموت.
بالعقل والحب.
لقد بدأت حياته .
ميلاده الآن أمام والديه.
وليشهد على ذلك القمر الدموى.
(النهاية الثانية)