عبد اللطيف النيلة
ناديتك: يا صوتا أربك إيقاع حياتي، وساقني مذهولا إلى مقاماته!
ثم أدخلتك إلى هاتفي المحمول. برمجْتُك لتصيري الموسيقى التي تُخطرني بمجيء مكالمة ما. وتخيلت ما ينتظرني من سعادة: ما أن يهاتفني أحد معارفي، حتى تصدحي في أذن روحي، نغمةً رائقة مسكرة. سأتلكأ في الضغط على زر الرد، بل سأتحاشى أن أخرس النغمة المتعالية المُلحّة كي أديم لحظة انتشائي بسحرك. فليتحل الراغب في مكالمتي بالصبر: حضورك يُعميني حتى عن نفسي!
وأنا مستسلم لهدهدة الحلم، أخذتني غفوة. استيقظت على صرير خض رهافة أذني، حتى اقشعر جسدي. صرير يتعاظم شيئا فشيئا، جانحا بإصرار نحو الفظاظة. سارعت إلى إغلاق أذني، مستشيطا غضبا، مفتشا في الآن ذاته عن مصدر هذا الصوت السمج الذي يوشك أن يتلف أعصابي. وبمجرد أن وقع نظري على الهاتف المحمول، انجلى اللغز. كان مستقرا فوق منضدة السرير، وكان يواصل الصرير. طفقت أحدق فيه لحظة، دون أن يسعفني الفهم. ثم ضغطت على زر الرد، وقلت ببرود: «آلو..آلو..آلو..». عبثا رددتها، فلا أحد يرد.
ركبت الرقم الذي هاتفني، ضغطت على الزر. جاءني هسيس الصدى، قبل أن يداهم أذني صوت أنثوي حازم: «لا يوجد أي مشارك في الرقم الذي تطلبونه…».
***
ناديتك: يا الكتومة المتسللة إلى الظل، المختبئة تحت العتمة!… ثم جلست إلى شاشة الإنترنيت. فتحت بريدي الإلكتروني. دسستك في ملف، وأرسلتك، عبر الهواء، إلى مجلة”حدائق”، ملتمسا من رئيس التحرير أن ينشرك نصا مفتوحا على البهاء.
فاحت رائحةُ شائعةٍ حتى أزكمت أنفي. وإذ اكتشفت أني أضحيت لحما تلوكه الألسنة، استفسرت أحد فاعلي الخير عن مصدر الإشاعة، فألقى في وجهي بأحد أعداد مجلة “حدائق”. ويا لهول ما قرأت!
لم تُنشري نصا مفتوحا على…
بل نشرت غسيلا ذهب بماء وجهي
خلعتِني قناعاً قناعا
حتى عريتِ ما تحت ثيابي:
أسراري وعاهاتي
نشرتِ في واضحة الهواء
ما أتكلف إظهاره
وما أجهد لإخفائه
وكانت أصابعك صيحةً تشير نحوي:
– انظروا إليه..كم هو جميل!
***
ناديتك: يا المنفلتة من عيوني الجائعة! يا الرهيبة التي تفزع يقيني!… ثم شغلت فيلما كنت قد وعدتك بأن نشاهده معا ذات سبت. لذنا بالصمت نتابع وقائع الفيلم التي كانت تشد الأنفاس بالفخاخ التي كان سفاحٌ ينصبها لضحاياه. لكن انشغالي بك كان يشرد بي عن مواصلة الفرجة…وقبل أن يشارف الفيلم نهايته، دفعت بك داخل الشاشة، فوقعت بالقرب من شجرة وسط غابة كثيفة. كانت عتمة خفيفة تلقي على المكان غلالة من الغموض والرهبة. نهضت متثاقلة تستندين بيدك على جذع الشجرة، وأجلت نظرة حائرة في ما حولك. رأيتُ على الشاشة قدمين حافيتين خشنتين تتقدمان في طريق بين الأشجار، ورأيتك تلتفتين جهة الصوت والذعر باد على وجهك. أخذت تبتعدين عن مصدر الصوت، وحركة قدميك تتحول من مشي متعثر إلى خطو متسارع فعَدْوٍ لاهث، والقدمان الحافيتان الخشنتان ما فتئتا تتقدمان.
خامرتني الرغبة في تكسير التشويق ومقاومة فضولي المتأجج، فضغطت على زر «توقيف». بقيت جامدة، في لقطة العَدْو اللاهث. وجهك متعرق شاحب، نظرة عينيك تائهة جاحظة، شعرك ارتفعت خصلاته في الهواء، وقدمك اليمنى تهم بأن تنحط على أوراق عشب يابس، و…
مكثتُ لحظة أتأملك، جزءا جزءا، داخل هذه اللقطة المتجمدة. استشعرت مدى الهلع الذي يستبد بك، وأيقنت أنك واقعة لا محالة تحت قبضة السفاح الذي كان خبيرا بشعاب الغابة.
هل أتركك مجمدة على الشاشة؟ هل أطفىء الجهاز، وأحتفظ بك أسيرة داخل قرص الفيلم؟ هل أستأنف الفرجة، لأكتشف مآلك؟ هل أطلق…؟
دون أن أمنح نفسي مهلة للتفكير، ضغطت على زر «تشغيل»، فعادت الحياة. واصلت عدْوك اللاهث مندفعة بكل ما يختزن جسدك من قوة. وظهرت امرأة شقراء جالسة على مقعد في فسحة بين الأشجار. كانت تنظر جهة الطريق، وتتطلع من حين لآخر، إلى ساعة تطوق معصمها. كانت تنتظر، ربما، قدوم السفاح. لكن كم غمرتها الدهشة حين لُحت مقبلة في اتجاهها تجْرين لاهثة!… هدأت من روعك، إذ رأتك تشيرين إلى الخلف، وقد اضطربت الكلمات بين شفتيك…
وماهي إلا دقائق حتى ظهر السفاح. أقبل نحوكما هادئا، بخطى واثقة، وإن كان يلهث قليلا. تبسم إذ رآك خائفة، تحتمين بالمرأة الشقراء التي خفّت إلى استقباله ببشاشة. ورغم قدميه الحافيتين الخشنتين، لم يبد عليه أي ملمح يشي بالرغبة في سفك الدماء. كان وسيما، يتحدث بلباقة، ومن عينيه يشع سحر خاص. وكان مظهره ينم عن بساطة من تآلف مع أشياء الطبيعة.
لم يحدث ما كنت أتوقع. فقد كان مقدرا في الفيلم أن تتواطأ المرأة الشقراء مع الشرطة لاستدراج السفاح إلى ذلك المقعد في تلك الفسحة بين الأشجار. وفعلا ما إن استطاب السفاح جلسة المقعد، مستغرقا في حديث يكشف سر الغابة ويغري بمباهج الإقامة فيها، حتى انبعث رجال الشرطة من خلف الأشجار وألقوا القبض عليه بمهارة فائقة الإثارة. لكني فتحت فمي مذهولا، وأنا أراك تخاطبين الشرطة مشيرة صوبي:
– ها هو السفاح الحقيقي!