الفيلم الصينى “زهرات الحرب”.. الوجه الآخر للإنسان

زهور الحرب
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 يوسف نعمان

شاهدت الفيلم منذ سنوات، وشاهدت بعده وقبله الكثير من الأفلام العظيمة، لمخرجين أثاروا دهشة العالم، بداية من كيشلوفيسكى وهيتشكوك وفيللينى وجودار وتروفو، ومرورا بالمكسيكى أليخاندروإنتريتو، وألفونسوكورون، والفرنسى جاك أوديار، وفرانسوا أوزون والكثير غيرهم، ممن ملؤوا صدورنا بمتعة وشغف السينما.

إلا أننى لا أدرى لماذا أتذكر مشاعرى، والمعانى التى تسللت لقلبى بعد مشاهدة هذا الفيلم، فاستفضت فى التعبير عنها بالقلم، ربما لإرضاء نفسى، وربما إجلالا لمعنى أكثر شرفا، يحمله الفيلم فى طيات سرده، أوربما كان غزلا فى السينما، وحبا فى التحدث عنها بشتى أنواعها…

الشرف…

كلمة يعرفها الكثيرون بحروفها الثلاث، ولكن إلى الآن – ومرورا بمواقف وأحداث عبر الأزمنة والعصور– لم يستشعر البعض معناها الحقيقى

يأخذنا زانج ييموالمخرج الصينى بفيلمه « زهرات الحرب « إلى مداخل للنفوس البشرية، فى رحلة يقودها الحب والألم والتضحية النبيلة… بمنتهى الشرف

وتختار كاتبة الرواية “جيلينج يانج” فترة عصيبة فى تاريخ الصين، وهى فترة الغزوالياباني لنانكينغ عام 1937، هذه المدينة التى حملت آلاما وجروحا غائرة، ولعل الحرب دائما بمثابة فترة قاسية وملهمة، تُعرى البشر، تُخرج كل مكنون بداخلهم من نبل – كان – أوخداع وزيف، وتظهر فيها الحقيقة جلية، بمفاجآت عديدة، كثيرا ما تعلن عن نفوس، يختلف باطنها عن ظاهرها للآخرين.

برع “زهرات الحرب” فى خلق شخصياته التى ستمثل هدفه المنشود منذ أول اللحظات، فها هو ضابط الجيش الصينى، يقوم بحماية الفتيات الصغيرات من رصاص جيش الإحتلال، ليصل بهن إلى مخبأهن فى الكنيسة حيث يعشن فى مدرستهن، بالرغم من قلة عتاده وعدد أفراد جيشه المتبقى، ولتظهر أولى معانى الشرف فى شخصية ضابط الجيش، والذى لم يكتف بإيصال الفتيات، بل وبمتابعتهم طوال الأحداث، إيمانا منه باستكمال رسالته فى الحفاظ على أبناء الوطن.

فى نفس اللحظات الأولى من الأحداث تظهر شخصيات أخرى متناقضة، فتيات الليل اللاتى تبحثن عن مأوى من الرصاص والانفجارات، لتجده أيضا بالكنيسة، ولتدخل العاهرات – بعد رفض خادمها جورج (الطفل الصغير) – لاعتباراته الدينية والأخلاقية التى تجعله يرى أنهن باغيات غير شريفات… أما الحانوتى السكير الأمريكى، والذى لعبه دوره “كريستسان بيل” ببراعه شديدة، والذى لا يهتم إلا بالعثور على النقود للعودة إلى أمريكا، يجد هو الآخر فى الكنيسة مخبأً له من الرصاص، لا يعتريه هم بما يحدث للآخرين، ولا يقدم مساعداته بلا مقابل، وليجتمع الكل داخل بيت الرب لتبدأ رحلة شيقة بين ثلاث مجتمعات تختلف كليا فى ظاهرها، أوحتى فى باطنها إلى الآن !

ربما كانت الرواية عظيمة فى خلق فرصة لتواجد ثلاثة عوالم بشرية مختلفة، وربما كان السيناريو ناجحا بشكل كبير فى حبكاته وسرده، لخلق عالم مثير ومدهش للرحلة، إلا أن الأكثر دهشة، هوالحالة الفيلمية التى خلقها زانج ييمو بلغته السينيمائية البديعة، منذ لحظات الفيلم الأولى، والتى يبدو أنه لم يبخل بها على فيلمه إطلاقا، فقد برع فى مشاهد الحرب بشكل يجعل فيلمه من الوهلة الأولى محط لأنظار منجذبة تجاه فيلم مثير، وليأخذنا بعده – وبمنتهى السلاسة –لحالة من الشاعرية والتدفق الإنسانى من خلال شخصيات الفيلم، يغلفها بموسيقى تعكس دراما الفيلم بمنتهى الدفء، ويشرع فى صناعة ألوان بديعة من خلال الأزياء المبهجة والديكور القاتم أحيانا، لتتناقض الألوان فى بهجتها مع الحالة التراجيدية للأحداث، وتتناغم فى آن واحد مع مبتغاه من دراما الفيلم، لنجد أنفسنا أمام حالة بصرية شديدة الإتقان، تتحكم فيها لغة سينيمائية لمخرج يعى ما يُقدم على سرده، على لسان طفلة من طفلات الكنيسة

من الطبيعى أن تختلف الثلاثة عوالم، فتيات عذارى فى مقتبل العمر تملأهن البراءة، يعشن فى مدرسة الكنيسة الداخلية، وفتيات ليل يمارسن الجنس بأجور من أجل متعة الآخرين، ورجل لا يهوى من الحياة إلا كأسا من النبيذ، ومالا ينفقه، وامرأة يداعبها فى لحظات احتياجه

فكيف لهؤلاء أن يتناغموا! كيف أن يتحابوا! هل من المعقول أن يتساووا فى أفعالهم النبيلة!… هذا ما فعله زهرات الحرب عندما ابتعد عن السرد المعهود لأفلام الحرب، وابتعد عن الصورة التقليدية لأفلام التشويق والإثارة، وجعل من فيلم عن الحرب، شاعرية دافئة، ووصفا حقيقيا للنفس البشرية وماتحمله بداخلها من عنف أو لامبالاة، تتحول إلى إنسانية منشودة، لا يصل إليها غالب البشر

الأزمات يا عزيزى، الأزمات تصنع الحقائق وتضعها أمامنا لنرى أنفسنا وفطرتها النقية، لنتخلى عن كل ما قامت بفعله الحياة أجل بهتان نفوسنا، بل تجعلنا نستعيد ما فقدناه من إنسانيتنا بعد أن ظننا أنها لن تعود مرة أخرى.

عادة ما تنظر المجتمعات – متمثلة فى أفرادها – إلى الآخرين، كما يُروا من ظاهرهم، فالرجل العسكرى هو من يحمل شرفا وأمانة يحافظ بها على وطنه، فهو شريف، والسكير وفتاة الليل هما الملوثان، غير شرفاء، آثرا اللهو على الجد، وأهانا جسديهما وروحيهما بلا تأنيب للضمير…

إلا أن جيلينج يان “الكاتب” وهينج لو “السيناريست” وزانج ييمو”المخرج”، لم يروا البشر هكذا، بذلوا جهدا حقيقيا. ليبتعدوا عن ظاهر البشر، وليسبحوا فى رحلة داخلية، تصل لعمق النفس البشرية، لتظهر ما بها من حقائق تستحق الإجلال.

ولتتفاقم أزمة الفيلم، يُقتل من يقتل من الفتيات على يد جنود الإحتلال، تنتهك أعراض الطالبات، يتهاوى جنود الحماية ولا يتبقى إلا الضابط الذى مازال مصرا على شرف رسالته، حماية لأهل بيت الرب، وأهل وطنه، وليتحول الحانوتى السكير لمتنكر فى زى القسيس، مدافعا عن الطالبات من هجوم الاحتلال عليهن بلا شفقة أورحمة.

كل ذلك جعل للعوالم الثلاث قربا، وألفة واضحة، حتى وإن إعتبرنا أن ضابط الجيش يحمل عالماً منفصلا عنهم، يراقبهم من بعيد دون أن يعرفونه ويعرفهم، فهم – جميعا – إن شاءوا أو لم يشاءوا فى رحلة واحدة، ولمصير واحد، تآلفوا بعد أن كانت الطالبات يرفضن حتى دخول فتيات الليل لاستخدام الحمام، وصفا منهن بأنهن نجسات كما قلن… تآلفوا بعد أن رأين القتل أمام أعينهن، ورأت الطالبات فعل قائدة العاهرات – مع المواقف – بإنسانية تتنافى مع ظاهرها، والذي لعبته “نى نى” الممثلة الصينية بمنتهى الجدية والإحساس… تآلفوا بعد أن ظهرت بواطن الشخصيات، واحتياجاتها الفطرية للبقاء والإنسانية التى لا تفرق بين عذراء بريئة أوعاهرة أوسكير، تآلفوا بعد أن ذهبت أحد العاهرات- بكل رومانسية متبقية بداخلها بالرغم من مهنتها القبيحة – بحثا عن أوتار للآلة الموسيقية التى لن تعزف بوتر واحد، لكى تعزف لجندى يحتضر، ساقه قائد جيش الصين، ليحتمى معهم فى مخبأهم، وليلقى حتفها بعد اغتصابها الوحشى من جنود الإحتلال.

مع كل هذه الأحداث لم ينسى “ييمو” أبدا أن يتقن حرفيته الإخراجية، ومع كل المشاهد المأساوية، لم يجد إلا التعبير عنها بصورة وموسيقى تأخذ الألباب، لن أنسى مشهد إسالة الدماء على الأوتار التى تتقطع واحدا تلو الآخر، بصوت موسيقى وترية تداعب الصورة بمنتهى الشاعرية، لتعلن عن اقتحام إحدى العاهرات واغتصابها وموتها، ولتأتى اللحظة الفارقة، عندما تُطلب الفتيات الصغيرات للغناء والبهجة بأمر من قادة جيش الإحتلال.

الأزمة مرة أخرى يا عزيزى، من سوف يساعد من !، من سوف يعلن تضحيته بلا مقابل ! من منا سينعكس باطنه عن ظاهره !

وفى لوحة بصرية بديعة، ينسجها زانج ييمو، تقرر الباغيات التنكر فى زى الطالبات، بمساعدة الأمريكى الذى يتقن فن التنكر، يقررن بكامل إرادتهن أن يضحين من أجل عذارى ماز الت الحياة أمامهن..

وقد صاغها “زانج ييمو” بصريا بإضاءة دافئة، وبإستخدام قطع القماش البيضاء التى تلتف حول خصر كل فتاة من فتيات الليل تأهبا للتنكر فى زى الطالبات، وكأنها رقصة إستعراضية هادئة ودافئة، تغلفها موسيقى أكثر دفئا، كل هذا الدفء لحظة قرار بالتضحية، كل هذا الدفء فى لحظات لا يًنتظر منها إلا الموت أوالإغتصاب

ليس رجل الجيش هومن ضحى بنفسه فقط وآثر حماية الفتيات طوال تواجدهن بالكنيسة، وليس هو فقط من ظل وحيدا بعد قتل كل جنوده، وليس هو فقط من أصر أن يُفجر المكان الذى يتواجد به – حتى – أثناء لحظة اغتياله، بل أيضا الباغيات قررن الحفاظ على الطالبات البريئات، ومعهن السكير الذى هرب بهن.

عرفوا جميعا الحب من جديد، عرفوا الألفة والتضحية، ولتمنحهم أزمة الحياة، وفطرة أنفسهم، فرصة أخرى لإظهار شرفهم الحقيقى

وليتساوى من تم نعتهن بالعاهرات النجسات – فى تضحيتهن وشرفهن – مع قائد الكتيبة الذى ضحى هوالآخر – وبمنتهى الشرف – للحفاظ على غيره.

جوانب إنسانية متعددة طرحها زهرات الحرب بمنتهى السلاسة، تناقض بشرى جلى، بين الشخص والآخر، وبين الشخص ونفسه، يتنصر فى منتهاها الجانب الإنسانى المنير فى كل فرد منهم، ولتبقى الإنسانية وحب التضحية، والشرف، هم المعنى الحقيقى لقيمة الإنسان، مهما بلغ قبح، أوعذوبة ظاهره.

…………….

إنتاج 2011

عن روايةرواية لـ جيلينج يان

سيناريو: هينج لو

إخراج: زانج ييمو

 

مقالات من نفس القسم