الفصول تذهب وراء بعضها

أمل السعيدي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أمل السعيدي

بينما كنتُ أنقل الأرز المغلي من على موقد النار، سكبتُ بالخطأ ماءَه الحار، وكان قد لامس بطني المنتفخ آنذاك، تخيلتُ أنني شممتُ رائحة اللحم المحروق، لكنني كنتُ مذعورة، لم تفد أكياس الخضار المثلجة، ولا ملاعق العسل، التي دهنتُ بها بطني أملاً في أن يذهب الألم، مع مرور الوقت صرت أتخيل أشياءً عن تلك العلامة، التي تركتها لي فترةُ أمومتي المبكرة، بينما تقضي “إماه” أسابيع طويلة في مستشفى العاصمة، لإنجاب أختي سارة. تخيلتُ لو أنني أحببت ذات يوم، رجلاً سيضع يده هناك بحذر بالغ، وأن أطراف أصابعه لن تضيع الطريق إلى شيء فريد كهذا، أستطيع أن أحكي عن ذلك اليوم، شيء يمكن أن يخبط قلبي لأجله، بينما تكبرُ سارة، وأنا لستُ في مكاني نفسه خلف الموقد.

بعدها بثمان سنوات سأكون في سنتي الجامعية الثالثة، أحاول أن أسخن سمنًا طبخته لي أمي، في ليلة شتوية، وستترك قنينة السمن الزجاجية الساخنة علامة على كفي، ستقودني على الفور لاختبار أول مرة حرقتُ فيها جلدي، سأود لو أنني أستطيع أن أدفع رأسي خارج النافذة، وأن يتحول العالم لمكان آمن، لكن العالم ظل فارغًا ولا يستجيب. بدا أنني أحاول استمالة إحساسٍ ما، شيءٌ يولدُ للتو عندما نحاول أن نمعن النظر في حدث تافه، شيءٌ أقرب للتعاطف، لكن الناس اليوم، يحبُون البلادة، أو العبور السريع على ما يقتضي قدرًا من التأسي، ربما لأن في الطفولة، شيئًا غير إنساني، بدائي، وحشي، يرفع الناس راية التقويض، نتقهقر في جحر صغير، وندعي أن لا شيء، لا شيء، لا شيء، ولا نقولها إلا همسًا، ما الذي جاء بي إلى هنا؟ الحرق؟ الخريطة الجديدة على ظاهر كفي، تحت أصابعي، حيث العلامة الوافدة، في المكان الذي فيه أمي، والشتاء، والطفلة، وأصابعُ الرجل الذي لم يجئ بعد، والقصص التي تتهيأُ لأن تروى، ولا تقال، أريد أن أخرج رأسي مجدداً، لكن العالم في الخارج ترسانة، ولديّ ضحكةٌ ليست خرقاء، بل ضحكٌ مذنب.

قبل أن أغادر مطبخ السكن الجامعي، وفي الأيام الأخيرة قبل قرار تعطيل كل الأفران لضغط على المجمع الكهربائي واحتمالية نشوب حرائق، يمضي الشتاءُ بطيئًا، تطفأ وحدة أجهزة التكييف، أتركُ النافذة مفتوحة طوال الليل، أتعرقُ إذا نمتُ بدون مكيف، أتودد لمشرفة السكن ككلب صغير، لأقدم طلبًا لإحضار مروحة صغيرة، أكون واضحة بشأن ذلك، لا أرتدي معطفًا عندما أقابلها، هنالك حر خانق هذا ما ينبغي أن تشعر به فقط، أهز رأسي ولا أنشغل سوى بالنظر إليها، ثمة على مكتبها باقة لافندر ذابلة، أمدُّ يدي لألمس أطراف ورقة صغيرة، بينما تتحدث على الهاتف، يملأُ الجو شعورٌ باقتراب كارثة، جُهدتْ كثيراً وهي تحاول أن تصرفني، وأنا أحاول أن أحميها من مشقة إيذائي، تقول لي، كفك محروقة، كانت العلامة قد جثمت هناك، والصيفُ سيحل خلال أيام.

……………

*قاصة وشاعرة عُمانية.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال