المصطفى السهلي
[هل ستظل لعنة الصفر تطاردني طول حياتي؟ أما يَكفيها مني ضياعُ سنة من عمري في الجامعة، بسبب الصفر الذي منحني إياه الأستاذ المتشدِّد للأدب العربي في الامتحان النهائي؟ ذلك الأستاذ المعروف بين الطلاب بتعصبه لآرائه، ورفضه للرأي الآخر، فلا يجرؤ الكثيرون على معارضته، أو انتقاد طريقته في التحليل والنقاش. ولو حاول طالبٌ التعبير عن رأي مختلف عن رأيه، لرفع عقيرتَه، وتهدّجَ صوتُه، وأرغى وأزبد حتى ترتَعِشَ لحيتُه المدلاة من ذقنه كمِخْلاةِ بَغْل. لا يحترم الرأي الآخر، ولا يؤْمن بالاختلاف، لذلك صادر رأيي حين فسّرتُ في تحليلي الأدبي أوضاعَ المومس في قصيدة “المومس العمياء” لبدر شاكر السياب، بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية، بينما أصَرّ الأستاذ على تعليلها بأسباب أخلاقية، يَعزوها إلى غياب الوازع الديني بالدرجة الأولى. فمنَحَني صفرًا، والصفرُ في الامتحان النهائي موجِبٌ للرسوب.]
عاوَدَتْه ذكرى هذا الصفر بعد التحاقه بالعمل صِحافيًّا في إحدى الجرائد الوطنية. فكان نذيرَ شؤم عليه. أبدى حماسا كبيرا في تنفيذ المَهَمَّة الأولى التي كلفه بها رئيسُ التحرير. عاد إلى مكتبه يستعجل الوقتَ ليحرِّرَ التقريرَ المطلوبَ منه، عقِب حضوره نشاطَ السيدِ الوزير. جلس أمام حاسوبه يُسابق الزمنَ ليُسَلِّم التقرير إلى رئيسه قبل وقت إغلاق العدد.
وضع نقطة النهاية، وأحسَّ بنشوة تَسـري عبر مسامّه وتغمُرُ جسدَه كافة. شبَكَ يديه خلف رأسه، وتمطّى قليلا نحو الخلف. تأمَّل شاشةَ حاسوبه، وابتسامةُ الرضا ترتسم فوق مُحيّاه. أعاد قراءة تقريره ليَطْمئِنَّ على سلامته من الأخطاء. ثم سحب أوراقا من الآلة الطابعة ومضى يعدو بها مسرعًا نحو مكتب رئيس التحرير. أمره بالجلوس وهو يتصفَّح الأوراق بسرعة فائقة. كان يتابع حركات عينيه وهما تتنقلان بين الأسطر مثل كاسِحَتيْ ألغام. ثم رآه يتوقف لحظة، ويُصحِّح شيئا لم يَتَبَيَّنْهُ بالضبط. أحس بغصَّة في حلقه لأنه كان حريصا على ألا يتسرب أيُّ خطأ إلى تقريره الأول، ليكسب ثقة رئيسه، ويجعله مطْمَئِنًّا على قدراته اللغوية العالية.
أنهى رئيسُ التحرير قراءةَ الأوراق، ورفع إليه عينين جاحظتين تُطِلان من فوق نظارتيه السميكتين كأنهما قعرُ كأسٍ زجاجية من النوع الرديء. قال بصوتِ مَن يُسدي نصيحةً إلى أحد أبنائه: “اسمع يا بني… ثمَّة أمور ينبغي أن تُدركها جيدا في مهنة المتاعب هذه. لا تجعلْ قلمَك مثل آلة التصوير تلتقط الوقائعَ كما هي. بمعنى آخر، لا تكنْ عبدًا للواقع يفرض عليك سلطتَه، ويُصادِر منك شخصيتَك. ابعث الدفء والحيوية في ما تنقله، لِتجعلَ القارئَ يُنصِت إليك بشغف كبير، وإلا انصرف عنك إلى غيرك.” تساءل بينه وبين نفسه عن الداعي إلى هذه المقدمة، وودّ لو يختصر كلامه، ويصل إلى المفيد منه مباشرة.
دفع رئيسُ التحرير نظارتيه بسبابته إلى أعلى، وتحرك بكرسيه الدوّار يمينا وشمالا، وعندما أصبح في مواجهة الصِّحافي الشاب قال: “دعك من التنظيرات وفلسفة المبادئ والمُثل التي حَشَوا بها أذهانكم في معهد الصحافة. الواقع يلقنك أشياء أخرى، لا يعرفها منظرو المعهد.”
لم يدرك علاقة كل هذا الكلام بما جاء في تقريره. هو مجرد تغطية لنشاط اجتماعي قام به وزير الدولة، أشرف خلاله على حفل خِتانِ أطفالٍ مُعوِزين. فهل أساءَ الأدب من حيث لم يَشْعُرْ؟ أم خالف الأعرافَ والتقاليدَ المتبَعة في مثل هذه الحالات؟
همَّ أن يسأل رئيسَه عن مَكْمَن الخلل في تقريره عندما سمعه يواصل حديثه بثقةِ العارف المجرّب، وبلهجةٍ لا تخلو من تقريع وتوبيخ: “أنت في تقريرك هذا لم تُراعِ هيبةَ وزير الدولة. ألا تلاحظُ أنك جعلتَه مثارَ سخريةٍ لدى الرأي العام؟ كيف يُشْرِف وزيرُ الدولة على نشاط اجتماعي لم يستفِدْ منه سوى عشرةِ أطفال؟ إنها مَهزَلة. الوفدُ المرافقُ لمعاليه كان، بالتأكيد، أكبرَ بكثير من عدد المستفيدين؟ هذه نكتةٌ سمجة.”
تمَلْمَلَ الصِّحافيُّ الشابُّ فوق مقعده، وأقسم بأغلظ الأيْمان أنه ما نقل إلا ما رأى بأمِّ عينيه، وأنَّ سكانَ هذه المناطق بالذات معروفون بعزَّة النفس والإباء، ويُفضِّلون أن تَبْقى حشفاتُ أبنائهم مغلّفة، على أن تَمُنّ عليهم الدولة بأيِّ عمل خيري. سوَّى رئيسُ التحرير نظارتيه فوق أنفه، وبدا من حركاته بعضُ التوتر. ثم التفَتَ نحو الباب، وقال بصوتٍ أشبه ما يكون بالهمس: “اسمعْ يا بنيّ! نحن نعلم أنَّ سمعةَ السيد الوزير ساءتْ كثيرا هذه الأيام، بفعل الوعودِ التي لم يَفِ بها. ولكنه ليس الوحيد. كل المسؤولين يَعِدون ولا يَفون بوعودهم. ثم لا تنْسَ أن الرجلَ مُساهِمٌ في المؤسَّسة التي تتولّى إصدارَ هذه الجريدة. لذلك فموقفُنا حَرِجٌ للغاية. نحن الآنَ بين المِطرقة والسِّنْدان. لذلك فقد تصرَّفتُ في تقريرك، وأضَفتُ صفرًا إلى العدد الذي كتبتـَه. على الأقلِّ رقمُ مائةٍ لن يُغضِبَ معاليَه، ولن يُثيرَ سُخرية أحد.”
[ها هو الصفرُ الملعونُ يعودُ منتصبًا أمامي من جديد، وأنا ما أزالُ أخطو خطواتي الأولى في ميدان العمل. قدَري أن يُلاحقَني الصفرُ حيثما حللْتُ، وارتحلت. هذا الرقمُ العجيبُ الذي يَرمُز إلى “اللاشيء”، لكنه يَحُطّ قوما، ويرفع آخرين… ها هو الآنَ يُرادُ منه أن يُعليَ شأنَ الوزير، ويُجَوِّدَ النشاطَ الذي قام به.]
سمع رئيسَ التحرير يقول وهو يمدّ إليه الأوراق: “سلِّمْها للمكلف بالطبع. مكانُها بالتأكيد هو الصفحة الأولى، مع صور مناسبة لمعاليه. وتأكَّدْ من إضافة الصفر إلى العدد الذي كتبتـَه.” لم يشعر إلا ويداه تمزقان الأوراق. ألقى بها فوق مكتب الرئيس، وقال ببرودة أعصاب، استغرب هو نفسُه كيف حافَظَ عليها: “لا، لن أبدأ عملي بافتراءٍ على القراء. إذا زوَّرتُ اليومَ رقمًا بسيطا، فإنني غدًا لن أجِدَ غَضاضَةً في تزوير حقيقةٍ ناصعةِ البياض. كلا. لن أنقُلَ للقارئ إلا ما رأيتُ وما عايَنْت. ولن أخشى في الحق لوْمَةَ وزير الدولة، ولا زبانية الوزير. أما أنت، فاحرِصْ على منصبك – إنْ شئت – ذليلا مُهانا. اعتبِرْني مُستقيلا مِن عملٍ لا يُشَرِّفُني.”
وقبل أن يسمع ردَّ الرئيس عليه، صكّ البابَ خلفه بقوة، وانصرف.
_كاتب من المغرب