محمد مصطفى الخياط
كبرت وشخت يا غريب، شخت وتخلى عنك الجميع. لا، خذلوك وخانوك. ذاكرتك أول من خان. أول من ألقى بخبيئة العمر في بئر النسيان. أول من طوح كنز الأيام وحصيلة السنين في سلة المهملات. أول من دفن تفاصيل العمر في مكب النفايات. لا. ليست الذاكرة وحدها. خانك اللسان، وخانك اليمين والشمال.
قضيت عمرى مرشدًا سياحيًا حرًا، بعد سنوات من التنقل والتنطيط بين آثار المحروسة، الظاهر منها والباطن، المبثوثة في أبعادها الأربعة، استقرت نفسي بعد الشقا في حرم مسجدى السلطان حسن والرفاعى. حفظت تفاصيلهما؛ منمنمات الأسقف والجدران، القباب والمحاريب، الممرات والباحات، المشكاوات والقناديل، حتى البهو الرخامى الخارجى الفاصل بين المسجدين أعرف ملامح وقسمات كل قطعة فيه.
يتفلطح البهو فسيحًا محيطًا بالمسجدين من الخلف ويتلاشى مع مقدمتيهما المشرفتين على القلعة راسمًا هلالاً خرافيًا، ومن علٍ تُطل القلعة بعينى صقر حارس متحفز. صنع الجداران المتقابلان للمسجدين من الممر الفاصل بئرًا سحيقًا يضيف إلى رهبتهما المقدسة جلالاً وهيبة يسحقان المتأمل في نقوشهما، كم أشعر بضآلتى وتفاهتى وسط هذه الأبنية العتيقة الشامخة، أرادها شادِ العمائر تعبيرًا عن خلود العمارة أمام فناء الإنسان.
تعلمت النظر في وجوه السائحين، من يدفع ومن لا يدفع، الشطارة ليست في غزارة المعلومات فقط، بل وفي اختيار الزبائن، تُحنط المعلومات في الكتب، المرشد هو من ينفخ فيها من خبرته، يعيد إليها الحياة، يبعثها من جديد، يُشعل شغف المستمع، يُسبِكها بحواديت تعطيها نكهات مختلفة وطعوم.
يجمع المرشدين السياحيين قوانين ومبادئ متوارثة. لا نقترب من سائح يتكلم مع واحد منا. من يستفتح ولو بزبون لا يزاحم زملاءه حتى يستفتحوا. ويعزم صاحب أكبر فوج سياحى زملاءه ولو على ساندوتش فول أو كوب شاى. خلاف ذلك، لدينا مفردات ومصطلحات خاصة نستخدمها فيما بيننا، فلا يعرف زبائننا أسرارنا.
تنعكس الأحوال على تصرفاتنا، في الرخاء نبدو أكثر تفاؤلاً وتسامحًا، وفي الأزمات يعترينا التوتر والقلق، نترقب ظهور السياح في ضجر، نقف على النواصى كالعصافير القلقة على أسلاك الكهرباء تمسح الأرض بعينيها بحثًا عن فتات العابرين، اصطحاب فوج ليوم واحد يكفى للإنفاق على البيت أسبوعًا كاملاً.
منذ ضربت كورونا العالم ونحن بلا عمل، توقفت الطائرات وغطى أرضية المطارات الغبار، أراجع شريط الذكريات، أكاد لا أصدق نفسي، شهور خلف شهور لم يدخل جيبى جنيه من سائح، تبخر ما أدخرناه من عصير عذابات السنين.
اتمشى حائرًا ذاهلاً بين المسجدين فيصدمنى الفراغ الفسيح، اتساءل، أين ذهب السياح الملاعين، أين اختبأوا، هل يمكن أن يكونوا تحت البلاط الرخامى، أو تحت السجاد، أوشكت أن أُجن. أخبرنى صابر بعمله في محل ألبان، وطلق مرعى زوجته بعد ما تركت البيت غضبًا لعمله مع سيد الأوانطة، سايس السيارات، ويقتات إبراهيم من الترجمة، وافترس آخر الاكتئاب.
رغم وقف الحال، داومت على المجيء، ليس لى من عمل أو مهارات أخرى، يبطئ الحاج سعيد سرعة الأتوبيس أمام المسجد، يضعط زر الباب فينفتح مصطكًا في عصبية، عِشرة عمر بحكم العمل، نتبادل الأحاديث وساندوتشات الفول في أيام الضنك، والجمبرى في الرخاء، مضى زمن الرخاء وولى يا سعيد.
يلفحنا الفراغ أنا وصالح بائع الكروت التذكارية، بهتت في كفه الكروت وما من مشترى، ويتململ الأومباشى فرج في ورديته، يتمطع بصوت ممطوط مسموع في ضجر، نسيت عيناه وجوه الغرباء، (أول مرة أشوف ناس بالألوان يا استاذ!!)، قال لى مُعلقًا -أول أيام عمله بعد انضمامه لوحدة الحراسة- على فوج ضم سائحات روسيات شقراوات بعيون ملونة.
لا أجد ما أفعله من الصباح حتى عودتى للمنزل، انتظر صلاة الظهر ثم أرحل متكاسلاً، أقف على الناصية مترقبًا مرور الحاج سعيد بالأتوبيس في الاتجاه المعاكس، قبل تبديل ورديته، حتى لا أدفع ثمن التذكرة. لمجاهد وجه جاف كالح، يكره كل من يعمل بالسياحة، ما إن يفتح لى الباب لأركب حتى يرفع صوته للكمسارى، تذاكر قدام، أُخرج خمسة جنيهات صاغرًا وأرسلها عبر الأيدى الممدودة إلى الكمسارى فتعود بالتذكرة، أُريه إياها، فينظر بطرف عينه ويكمل قيادته متجهمًا.
ما الذى حدث اليوم، كيف اختلط الأمر على، ألهذه الدرجة شِخت وكبرت. خرجت من المسجد بعد الصلاة فرأيت سياحًا يدلفون من البوابة الإليكترونية، وفرج واجم كأنما يشاهد مخلوقات غريبة، صار مشاهدة سياح أمرًا غير عادى.
كانوا ثلاثة إماراتيين؛ رجل وزوجته وابنته، عرفتهم من ملامحهم، قراءة الوجوه أول ما نتعلمه في مهنتنا، كان منظرهم مُلفِتًا وسط الفراغ، يمشون ويتوقفون لتأمل الجدران والمآذن، يشيرون بأيديهم ويتكلمون أو يلتقطوا بعض الصور. (افرجها يا رب)، تمتم صالح في سره وأعاد ترتيب الكروت من دون تحويل عينيه عنهم. لا إراديًا سرت نحوهم، رسمت ابتسامة نسيتها عضلات وجهى منذ شهور طويلة. تعثرت الكلمات على شفتاى ولم أصدق أذناى عندما وافق الرجل أن أصحبهم للشرح، بدت هيئتى بائسة إلى جوارهم، كانوا أقرب لمن خرج لتوه من حمام دافئ بوجه مشرق وشعر يلمع وعطر فواح.
وقفت أمامهم أشرح، اكتشفت جفاف حلقى، لكزت ذاكرة لم تعمل منذ قرابة عام، تململت بكسل، قلبتها رأسًا على عقب حتى عثرت على البداية، لكننى سرعان ما توقفت، وجدتني أتوه بعد جملة أو جملتين، زاد جفاف حلقى، توترت وعلت ضربات قلبى فخفت أن يسمعوها، بدا كلامى غير مترابط، مضيت بهم نحو الرفاعى، ثم عَدلت إلى السلطان حسن، وقفت في الباحة الرخامية، أشرت يمينًا وشمالا، تداخلت الجدران في عينيي، بدت اجاباتى على استفساراتهم خليطًا مضطربا، قَرَضَت قلة العمل معلوماتى، فقدت لياقتى الذهنية، تداخل تاريخ المسجدين بتاريخ القلعة، مرت الساعة ببطيء قاتل، رأيت الشفقة في عيني الرجل وهو يمد يده طاويًا بعض النقود، كدت اعتذر عن قبولها، كانت أقرب لصدقة منها لأجر، نكست رأسى ومضيت منصرفًا، لم انتبه لنداءات صالح ولا صفير فرج ولا توقفت عند الناصية لأنتظر الأتوبيس ولا لقرص الشمس الذى لملم عباءته الذهبية موليًا وجهه شطر الضفة الغربية.