محمد مصطفى الخياط
ها أنت، وكما بدأت، تعود وحيدًا يا عبد الله، تزوج الأولاد وتفرقوا في بلاد الله الواسعة، هَدَكَ الزمن وتركك وحيدًا بين الجدران الباردة، تشاغل خيالاتك، أو تشاغلك هي، فلا تدري أفي الحاضر تعيش أم في الماضي.
أتمشى في الردهة بخطوات طفل يتعلم المشي، أجر ساقان كانتا تسابقان الريح، اتسند على الجداران حذر السقوط، ما زالت آثار كسر ساقي تؤلمني رغم مرور عامين على فك الجبس وبدء رحلة العلاج الطبيعي، انتهت بعصا اتوكأ عليها؛ حولت الهشاشة عظامي إلى زجاج لمبة جاز؛ قابلة للكسر.
صار سيري أقرب للزحف، أمشي فيصاحبني صوت شخشخة مفاصلي وخشخشة احتكاك الشبشب بالأرضية، أو ما يُطلق عليه في العامية المصرية (يشحطط رجليه)، كم كانت حسنية تكره هذا الصوت.. “ميت مرة قلتلك ارفع رجليك وأنت ماشي.. انت قاصد تضايقني”، يرن صوتها في أذني التي ثَقُلَ سمعها.
ابتسمت نصف ابتسامة وأنا أتذكر ملامحها وقت كنت اتعمد إغاظتها من باب المناغشة، بسبب أو من دون سبب، المهم أن تظل جمرة مناكفة المحبة متوقدة، كنت أعلم أن صوت خشخشة قدمي بالسجادة تصيبها بقشعريرة تفقد معها أعصابها.
اختلس النظر نحوها بعينين مشاغبتين متنمرتين، تلمعان بوهج المزاح وأتصنع الحديث بصوت بادي الإجهاد خلافًا للواقع؛ “مش قادر.. تعبان”، فترد بنبرة كلها غيظ وملامح كلها تهكم،
– والله ولا تعبان ولا حاجة.. رخامة وعكننة مش أكثر
– حرام عليك.. بدل ما تقولي لي ارتاح وأنا أعملك.. غيرك يولع لي صوابعه العشرة شمع
– يا خويا روح لهم إن شاء الله يولعوا في نفسهم.. مين دي اللي تتحملك انت وعيالك
– عيالي لوحدي؟
– آه عيالك.. كلهم شبهك.. نفس الطباع
– مؤدبين قصدك؟
– ولا يعرفوه.. كل واحد عايز حاجة ينادي الخدامة؛ الأكل يا ماما، المكوة يا ماما، عايز أشرب يا ماما، هاتـ..
– (أقاطعها وأنا اقترب منها) فشر قال خدامة قال.. قولي برنسيسة.. ملكة..
– (تشوح بيدها وترد بعصبية) قصدك جارية وأنت الصادق
– فشر.. طب هاتي راسك أبوسها
– ………..
تتفلت مني ولا تسمح لي بتقبيلها إلا بعد أن أقبض على رأسها بكفاي وأضغط على خديها، فتثور ثائرتها، فأتركها ضاحكًا، فتتناول أقرب شيء لها وتقذفني به، فلا أملك نفسي من الانفجار ضحكًا أمام نظراتها اللاعنة.. الغريب أنها بعد أقل من دقيقة تتصرف وكأن شيئًا لم يكن.
……………………..
ما زالت غرفة الأولاد تحتفظ بصخبهم وضحكاتهم وآثار شقاوتهم، وما زالت أَسِرَتهم ومكاتبهم ولعبهم كما تركها أولادهم آخر مرة، لمحت الكرة الشراب بلونها السماوي إلى جوار الدولاب؛
– بص يا أسطى.. أبوك مش ها يشتري كور وإحنا مفلسين.. عايزين حل يا عبقري؟
– أبوك ده أكبر ديكتاتور في التاريخ!!
– يا عم بقولك حل!.. مش شعارات سياسية
– ما إحنا عشان نلاقي حل، لازم نعرف بنتعامل مع مين
– أما هفأ صحيح.. بعد ستاشر سنة في بيته؛ آكل، شارب، نايم، غير التعليم والدوا، وجاي تقول عليه ديكتاتور.. أما حمار صحيح، أمال اما تدخل ثانوي ها تقول إيه
– على رأيك.. نشوف صفة سياسية ثانية (يهرش رأسه كمن يفكر، ثم يقول مندفعًا)، برجوازي!!.. إيه رأيك؟
– يا أسطى انت لا فاهم دي ولا دي، بس بق وخلاص، حُنجُورِي يعني
– فعلاً أمثالك من الغوغاء مش ها يقدروا يفهموا الكلام ده..
– (بتهكم) العفو يا شحات.. يا عم إحمد ربنا ع اللي انت فيه
– ماشي يا عم بضحك معاك.. نقول عليه ولي نعمتنا
– هههه
– …
أيقظتني ليلتها الحاجة إلى دخول الحمام، كان السكون يعم الشقة فبدا صوتهما أعلى من المعتاد، ابتسمت في نفسي وعدت إلى سريري دون أن يشعرا بي، وفي صباح اليوم التالي وجدتهما وقد صنعا كرة شراب في حجم قبضة اليد؛ جمعا كل الجوارب القديمة، وعندما وجدا حجمها دون المطلوب لم يترددا في الاستعانة بالجوارب الجديدة، هاجت حسنية وتوعدتهما، وعندما أغلقت عليهما الباب وحاولت معاقبتهما حاوراها وظلا يتقافزان من حولها حتى تعبت ويئست وانصرفت غاضبة وسط ضحكهما، وكعادتها نسيت الموضوع بعد دقيقة واحدة.
ضَربتُ الكرة بالعكاز فراوحت مكانها وخرجت أجر ساقاي صوب غرفة المعيشة، بدت طاولة الطعام بزحام ذكرياتها خليط بين دورات موائد الغداء، وفطور رمضان، والولائم في المناسبات..
كنا نتناول طعام الغداء، والذي عادة ما يكون في حدود الساعة الخامسة عصرًا، عندما قلت لحسنية والأولاد أنني قدمت على إجازة لمدة أسبوع، وعندما رأيتهم يواصلون تناول طعامهم دون تعليق، ظننت أنهم لم ينتبهوا لكلامي، فأعدت ما قلت، نظرت حسنية نحوي بشيء من ريبة، ثم اتكأت بذراعها اليسرى على الطاولة برهة من الزمن وهي تنظر نحوي بعينين ساهمتين تتصنعان التهكم أكثر من الاهتمام، ثم بادرتني وهي تجمع ما يصل إليه ذراعها من أطباق فارغة، (أنا ما حدش يسألني عن بعد حاجة إلا بعد ثلاث أيام)، ثم نهضت وولت وجهها شطر المطبخ وهي تبرطم بلهجة ساخرة يخالطها تعجب (من إمتى؟).
“اشمعنى ثلاث أيام؟”، سألتها ونحن نحتسي الشاي أمام التلفاز، فجاءتني إجابتها محملة بتعب السنين وإرهاق العمر، وألا أحد في هذا البيت يقدر ما تقوم به من خدمة للصغير والكبير، حتى إذا ما أنهكتها الشكوى تنهدت وأخبرتني بلسان التهكم، أن الخادم أخيرًا تكرمت ووافقت أن تحضر لتنظيف البيت هي ومرافقة لها خلال اليومين القادمين، وأنها -حسنية – لن تساوم على هذا الأمر بأي شيء، بعد ما سمعت من كلام الخادم الكثير، فابتلعت زلط حديثها واحدة تلو أخرى في صمت.
وانقضت الإجازة كغيرها، كل في شأن، لكن الأمر الذي أطار برجًا من أبراج عقل حسنية أن الخادم لم تحضر كما وعدت، وعندما اتصلت عليها ردت بصوت بارد أنها نسيت، فما كان من حسنية إلا أن استدعت بركان الغضب في ثورتها عليها وألقت بكل ما لديها من حمم حتى بردت نارها قليلاً، وأغلقت الهاتف..
نظرت نحوها بعينين متخابثتين قاصدًا مناكفتها تلك المناكفة المحمودة، وخاطبتها قائلاً؛
– السعد وعد؟ كان فاتنا في الساحل دلوقتي
– بقولك إيه ما تجننيش.. بلا ساحل بلا عفريت أزرق.. وميت يمين ما ها أمد إيدي في البيت.. خليكوا قاعدين في الكركبة دي.. كل واحد ينضف ويروق مكانه
– …
يومها ضحكت كما لم أضحك من قبل، كانت تعيش بلسان شيطان وقلب ملاك..
…………..
في اليوم التالي، استيقظ عبد الله كعادته مبكرًا، وعلى غير عادته منذ زمن طويل ارتدى ملابسه وخرج، كانت المدينة تتثاءب؛ وفيها من آثار النوم أكثر مما دب فيها من إشارات اليقظة، كانت السيارة التي طلبها تنتظر، تحامل على نفسه حتى جلس في المقعد إلى جوار السائق، اكتشف أنه لم يخرج منذ أسابيع طويلة، فتح زجاج النافذة فلفحه نسيم فجر القاهرة، استأذن السائق وأدار المذياع، فسرى صوت مقرئ مسجد الإمام الحسين نقيًا شجيًا، ثم راح يخفُت شيئًا فشيئا ليعاود الانطلاق بصوت صاف معلنًا أذان الفجر، خلع نعليه، وخطا عتبة الضوء لتغمره أنوار فيض لا يُعرف مبتدأها من خبرها، وتزكم أنفه رائحة خليط من عطور معتقة وأخرى حديثة، شق صوت يعرفه المريدون جدار الصمت مرددًا “يا ولي النعم يا كل النعم”، وجاوبه آخر لا يقل جمالاً “مدد يا سيدنا يا حسين”، استجمع نفسه وصلى ركعتي الفجر جالسًا، وعندما هدأت الحركة قليلاً مشى بخطى مضطربة، تصحبه شخشخة مفاصلة وخشخشة زحف قدمه على السجاد، قاصدًا المقام، عاودته ذكرى قديمة فابتسم وترحم، وما أن لامس المقام الفضي البارد حتى راح يسكب دعوات خالصة لأصحاب الغرف المزدحمة بالذكريات، وهو لا يعرف أيدركها أم لا.
تمت