ممدوح رزق
لم تمر أيام قليلة على وصولي إلى هذه القرية الصغيرة التي يكاد البحر أن يخبئها حتى بدأ شبح المرأة الغامضة في مطاردتي. ظلال متناثرة، بالغة الشحوب، رسمتها كلمات الأهالي في الطرقات والمقاهي والمطاعم لتلك العجوز المجهولة، التي قدمت منذ شهور إلى قريتهم، كي تسكن وحدها في بيت قديم من طابقين، يكاد يكون معزولًا.. بحسب الإشارات القاصرة، والحذرة دون سبب مؤكد؛ عرفت أن هذه المرأة لم تتحدث مع أحد من أبناء القرية طوال تلك الشهور إلا في المرات المتباعدة التي تقصد خلالها المتاجر لشراء احتياجاتها الأساسية، وبحرص على ألا تترك مساحة كلامية مهما كانت ضآلتها لما يتجاوز ذلك الغرض.. مع هذا لم يكن في سلوكها ما يثير النفور أو الارتياب، بل كانت تتسم في ظهورها النادر بما يتلائم عادة مع امرأة في عمرها، ومع الاقتضاب المعهود لحديثها مع البائعين؛ كان يستقر في صوتها نبرة لطفٍ رصينة، تغري أيضًا بتفسيرها كاعتياد متزن على منح الاحترام لمن تخاطبه.. لكن ما كان عدائيًا حقًا، بل ومخيفًا عند البعض هو عدم إدراك التاريخ الذي قاد خطوات تلك العجوز إليهم: عائلتها.. المكان الذي عاشت فيه من قبل، ولماذا غادرته.. الدافع لاختيار قريتهم تحديدًا كي تأتي إليها.. كان العجز الشامل أمام وجودها الملتبس أشبه بظلام يزداد هيمنة وحلكة داخل أرواحهم مع تعاقب الأيام، الأمر الذي خلق احتياجًا عفويًا للصمت.. لإجبار النفس على عدم استدعاء معلن لسيرة تلك المرأة، ولو بأقل الكلمات وأبسطها.. كأن ذلك فقط ما أتيح لهم من المحاولات الجماعية الممكنة لقبول وجودها في قريتهم دون استفزاز الهواجس.. لكن الصمت إذا ما تم خدشه على نحو مفاجئ ـ وهو ما كان يحدث بالطبع ـ فإنه حينئذ ينفجر بالتخيلات المختزنة التي لم يخمد مطلقًا نشاطها المكتوم: زوجة رجل سياسي، يشغل منصبًا مرموقًا في مدينة بعيدة، جاءت إلى هنا هربًا من ملاحقة أذرعه الباطشة.. متهمة بجريمة قتل، لجأت إلى الاختباء داخل بقعة منزوية كهذه، لن تخطر في ذهن أحد من مطارديها.. ساحرة شيطانية، متمرّسة في الأعمال السفلية، قررت الاحتماء داخل هذه القرية من المنذورين للانتقام من لعنة سوداء غرستها في بلد آخر.. التخيلات التي تكافح للحصول على حقيقة عجزت عن الوصول إليها مفردات الواقع، وكان في توالدها نوع من التعويض لبطولة مرجأة.
ضرورة ملغزة، تتخطى الفضول المنطقي، تلك التي ذهبت بي إلى بيت العجوز.. كنت أشعر بأن العلة الخفية وراء حضورها إلى القرية هي نفسها التي جذبتني إلى حيث تسكن في تلك المنطقة النائية، غير البعيدة عن الشاطئ.. اكتشفت أن للبيت حديقة صغيرة، يحاوطها سور غير مرتفع، وبينما كنت أبطئ من خطواتي أثناء المرور أمام بابها المفتوح؛ وجدت المرأة جالسة تحت أغصان شجرة كثيفة، وأمامها طاولة خشبية، وكرسي آخر يماثل ذلك الذي تجلس عليه، كما كان بين يديها فنجان شاي من النمط الكلاسيكي.. ليست الابتسامة المباغتة التي أضاءت وجهها الخمري هي التي أوقفت خطواتي.. شيء لا أفهمه، مناقضًا لإرادتي المسبقة هو من فعل ذلك.. ابتسامة العجوز بدت كرد فعل مجهّز لوقوفي أمام باب حديقتها…
ـ تفضّل…
صوتها أيضًا كان يمرر إيحاءً غريبًا بأنها كانت تتوقع وصولي إليها.. كان صوتًا خفيضًا، لكنه غير مهتز، بل بدا كأن خفوته الناعم مكللًا بذكرى ما كان يتصف به من خليط أخّاذ بين الصلابة الدافئة والرقة المتيقظة.. وجدت نفسي جالسًا أمامها، أتأمل ملامحها مقارنًا بين الوداعة المرحّبة التي تكسو تجاعيدها غير المترهلة كليًا، وما نسجته كلمات الأهالي وتخيلاتهم عن غموضها.. كانت تغطي شعرها بإيشارب أحمر، مطرّزًا بزهور صفراء ضئيلة، يلتف حول رأسها دون أن يتدلى طرف له، سامحًا للقليل من الشعيرات البيضاء أن تتجاوز حافته أعلى أذنيها الصغيرتين الخاليتين من الأقراط.. لم أتمكن من الاعتماد على غضونها المتورّدة في تحديد عمرها ولو بشكل تقريبي، ومع ذلك ثمة حيوية شابة كانت تشع بكيفية مبهمة من عمق عينيها السوداوين، المخططتين بكحل خفيف، تحت حاجبين رفيعين للغاية، يكادا يكونان نقيين من الشيب، وكذلك من أغوار ملامحها، خاصة شفتيها الممتلئتين، القانيتين من دون طلاء.. كانت الطريقة التي يلتف بها الإيشارب حول شعرها قد أعطتني انطباعًا ما بأنه طويل، فضلًا عن نعومته التي أظهرتها الشعيرات القليلة…
ـ أعرف جيدًا أنني أسبب قلقًا كبيرًا لسكان القرية منذ وصولي إليها، كل هذا لمجرد أنني أردت الحفاظ على عزلتي.. ألا ترى أن معي حق في ذلك؟
ـ بالطبع…
ـ لم أرغب في أن يعرف الآخرون عني شيئًا؛ فحياتي السابقة مهما كانت خالية من الأحداث الجديرة بالاهتمام، فإن هذا لن ينجح في إيقاف الغرباء عن التوغل إليها.
ـ لماذا قمت بدعوتي إذن للجلوس معكِ؟
ـ لأنني أعرفك.. أقصد أنه بالرغم من البقاء وحدي طوال الوقت في هذا البيت إلا أنني تأكدت منذ قدومك إلى القرية أنك شخص يمكن الاعتماد عليه في تبديد الانزعاج العام من وجودي.
ـ هل تقصدين أن أنقل رسالة طمأنينة معينة إلى الناس بشأنك؟
ـ ولم لا؟.. لكنها ليست رسالة بالمعنى المباشر.. يمكنك مثلا أن تحكي لكل من تعرفه أنك قابلتني وتحدثت معي في أمور عادية، وأنك وجدتني امرأة طبيعية للغاية، لا تريد سوى أن تقضي أيامها الأخيرة في هدوء، ودون تطفل من أحد.
ـ ليس عندي مانع.. لكن هذا يستدعي أن أعرفك أولًا.. أن أحصل على مبرر للثقة فيما قلتيه عن نفسك.. أريد أن أكون صادقًا عندما أخبر الناس بذلك.
ـ ماذا تريد أن تعرف؟
ـ لا شيء أكثر مما ترغبين الآن في أن تخبريني به.
ـ حسنًا.. لكن عليك أن تعدني بأن كل ما سأقوله لك سيبقى سرًا بيننا.
ـ بالتأكيد…
ـ منذ خمسة عشر عامًا كنت أعيش وحدي مثلما هو الحال الآن، ولكن في مدينة كبيرة، وكنت أعمل أستاذة للنقد الأدبي.. لم أتزوج، ولكنني كنت أحب روائيًا يصغرني بأكثر من عشرين سنة.. لم يكن بالنسبة لي الحياة نفسها فقط بل كان ذاكرتي وما قبلها أيضًا.. العالم الذي يسبق حضوري، والزمن الذي سيمتد بعد موت الجميع.. كان بالنسبة لي هو الغيب ذاته.. وبالرغم من أننا لم نتمكن من الزواج إلا أننا عشنا سنوات طويلة كزوجين أو كحبيبين لا يذاع لهما سر.
ـ ولكن…
ـ ولكن للأسف الشديد حدث ذات يوم ما تسبب في انهيار كل شيء.. أقامت الجامعة التي أعمل بها مؤتمرًا حول الرواية، وكان مخصصًا لي إدارة مائدة مستديرة عن الفانتازيا.. كان حبيبي الروائي من ضمن الكتّاب والنقاد المدعوين للنقاش، وبينما كنت أخاطب الجالسين حول المائدة فوجئت به يقاطعني بملاحظة أجبرتني على التوقف عن الكلام.. كانت ملاحظة عادية، خاطفة، لا تستهدف سوءًا تجاهي على الإطلاق، بالعكس؛ كانت تقصد المساهمة بإضافة صغيرة تدعم ما أقوله.. مع ذلك شعرت بألم مجهول، لم أعهده أبدًا من قبل، راح ينمو كلعنة غير مفهومة ملتهمًا نفسي لحظة بعد أخرى طوال ما تبقى من وقت المناقشة، وعلى مدار الثواني والدقائق والساعات والأيام التالية.. كان الأمر أشبه بطغيان غير مرئي لنار سوداء، ظلت تتمطى داخل جروحي الخفية.. ندوب قديمة كشف الاحتراق بصورة مفاجئة عن وجودها دون انقطاع، لكنه لم يفسرها، بل أظهرها فحسب، كأثر غير متوقع للهب ضئيل، لم يكن ليخدش جسدي في حياة أخرى.. رغمًا عني؛ أصبح تاريخنا حلمًا يُعاد عكسيًا بدءًا من لحظته الأخيرة بشكل مناقض لما كان عليه، وبالتالي لم يعد هناك ما يسمح باستمراره.. صدقني؛ حاولت بقدر ما أستطيع أن أتحرر من ذلك الألم الذي نتج عن تلك الواقعة الهيّنة، التي لا تضمر أدنى نوايا الشر، لكنني لم أنجح في ذلك، وبالفعل استطاعت هذه اللعنة أن تجبرني على الابتعاد بتدرّج متسارع كالذبح عن حبيبي الروائي.. هل يمكنك أن تتصوّر أن يؤدي تعليق مساند، تخلل حديثي في نقاش عام بطريقة مباغتة إلى نهاية ما كنت اعتبره نصًا مقدسًا، أو تعهدًا إلهيًا لن نتوقف عن كتابته، حتى ونحن متناثرين في الفناء؟
ـ كل شيء يمكن أن يحدث، ولأي سبب.. ماذا فعلتِ بعد انفصالكما؟
ـ كان حتميًا أن أودع كل شيء: بيتي.. وظيفتي.. أصدقائي… كل ملامح الحياة التي لم يكن بوسعها أن تُشكّل وجهًا حقيقيًا إلا بتلك البراعة الشهوانية الناجمة عن توحدنا.. سنوات كثيرة، تنقلت خلالها بين مدن عديدة بحثًا عن مواساة مستحيلة، أو فقدان انتقائي للذاكرة، أو إفاقة خارقة مما أردت أن يكون مجرّد كابوس مروّع، طارئ رغم صلابته الدنيئة، ولكن هذا كان أشبه بالمعجزة التي يُستبعد أن تتوّج حياة الأنبياء حتى في خيال أكثر البشر إيمانًا.
ـ وماذا عن هذه القرية؟
ـ صدقًا لا أعرف.. مازلت مريضة بكل ما حكيته لك، ومازال المشهد الذي وضع حدًا قاصمًا لعلاقتي مع حبيبي الروائي يضمن احتضاري بالتباسه المذل؛ ومع ذلك شيء لم أفهمه جعلني أقرر البقاء هنا.. شيء لا علاقة له بالمكان أو بسكانه، لكنه أعلن عن رسوخه داخل روحي فور مجيئي إلى هنا، وبمصارحة أكبر، فإنني لم أعد أرغب في تفسير هذا الشيء.
ـ ربما له علاقة بهذا البيت.. أعني طبيعة انعزاله، التي تجعله مختلفًا عن منازل منطوية على نفسها في مدن أخرى.
ـ هل تريد أن تشاهده من الداخل؟
ـ ليس عندي مانع.
تحركت وراء المرأة بتمهل عبر الممر الفاصل بين الحديقة وباب البيت الموارب.. كانت قامتها تميل إلى الطول والنحافة، وإن كان الروب السماوي السميك المغلق الذي ترتديه فوق جلباب أبيض قد صعّب من مهمة التعرّف على السمات المؤكدة لتفاصيلها الأنثوية.. كان عندي استعداد لقبول كل ما حكته لي، ولكنني لم أكن أريد تصديقها.. أعرف أحداثًا عجيبة، ترتب عليها نتائج أكثر عجبًا، وهذا ما لا يجعلني أستبعد أن يكون حديثها حقيقيًا، ورغم ذلك كان نتوء ما في أعماقي يريدها أن تكون كاذبة، وأن يكون كل ما قالته ستارًا لواقعة منطقية.. إلحاح ملغّز ـ رغم عدم رفض الواقعية المحتملة لما ذكرته ـ يريد أن يحوّله إلى مجاز لحدث آخر يمكن إدراكه تلقائيًا، حتى ولو بالنسبة للعجوز نفسها إذا كان قد حصل بالفعل.
كان الطابق الأول من البيت خاليًا مما يلفت الانتباه: قاعة استقبال ذات أثاث بسيط، قديم إلى حد ما، ومنظم، وثمة ردهة في نهايتها يبدو أنها تقود لحجرة نوم أو أكثر، وربما مطبخ وحمام كذلك، لكن ما كان جديرًا بالملاحظة هو فراغ الحوائط؛ إذ لم تكن هناك أي صور أو لوحات أو حتى نوع من الزخارف الشائعة في البيوت التقليدية.. بدأت المرأة في صعود السلالم الخشبية المؤدية إلى الطابق الثاني دون أن تتكلم، ورغم ترددي العابر؛ اعتبرت هذا الصمت دعوة ضمنية لاتباعها من أجل استكمال المشاهدة، وكأنما كان في عدم بقائها طويلًا داخل الطابق الأرضي، وصعودها لأعلى بعد لحظات قليلة إقرارًا ضمنيًا آخر بأنه لا يوجد بالفعل في هذا الطابق ما يسترعي التوقف.. صعدت السلالم وراءها، والتي أفضت إلى ممر مفروش بسجادة زرقاء خفيفة ذات نقوش من الدوائر والمربعات الحمراء الداكنة، توجد في بدايته حجرة مفتوحة، دخلتها المرأة قائلة دون تلتفت لي:
ـ تفضل.. هذا مكاني المفضل في البيت.
كانت الحجرة فسيحة، ذات سقف عال، وبلاط أسود، ونافذة مفتوحة تغطيها ستارة من الحرير الأخضر، وعلى عكس الطابق الأول فقد كانت مزدحمة بأعداد كبيرة من الكتب، تحتويها مكتبة هائلة ممتدة بعرض ثلاثة جدران كاملة.. إلى جانب ذلك؛ كان هناك مكتب عريض تتكدس فوقه أوراق وملفات وحاويات أقلام بالإضافة إلى أباجورة متوسطة الحجم، وبعض الكتب أيضًا بجوار برواز صغير، يستند على حامل، ويحدق من داخله “جي دي موباسان” إلينا.. على الحائط الأبيض الواسع المقابل لهذا المكتب، والوحيد الذي لم تمتد إليه رفوف المكتبة الهائلة؛ لم يكن هناك سوى برواز ذهبي معلق في المنتصف تقريبًا، ولكنه ليس مغلقًا بلوح زجاجي يُظهر صورة أو لوحة كما هو معتاد، وإنما كان بروازًا فارغًا تتدلى من ضلعه العلوي ما يشبه سلسلة مفاتيح، مثبّت في حلقتها شيء صغير لم أتبينه من مكاني في مدخل الحجرة.. دون دعوة منها وجدت خطواتي تتحرّك لتبين هذا الشيء الصغير، وحينما أدركت ما هو شعرت بفوران محتدم لأنصال مسنونة تفجّر فجأة في دمائي.. فوران امتد من دوار رأسي، مرورًا بدقات قلبي القوية والمتلاحقة، وعبر أنفاسي الثقيلة التي كاد تحجّرها يمزق صدري، وحتى النغزة الحادة بين فخذيّ.. رأيت عضوًا ذكريًا مقطوعًا معلقًا في البرواز.. سمعت المرأة من ورائي تضحك.. لم تكن ضحكة وحشية متوقعة كالتي تطلقها الساحرات الشريرات في الدراما، وإنما كانت ضحكة خافتة أشبه بتلك التي تترقرق بين شفتي أم حنون متحسرة، لم تعد تتمتع بالطاقة الكافية لتجسيد عاطفتها المتقدة تجاه ابنها.. مع ذلك التفت إليها بهلع كأنني أعيش اللحظة الأخيرة التي تمررني للموت:
ـ هذا ما تبقى من حبيبي الروائي.. لم يكن يجب أن أتركه بلا شك.. ما رأيك؟
ـ أعتقد أنه يجب أن أغادر الآن…
ـ كما تحب.. لكن لا تنسى الوعد.
ـ بالطبع…
لا أعرف كيف انبعثت الكلمات من فمي.. لا أعرف كيف تحركت قدميّ خروجًا من الحجرة، ونزولًا للسلالم ثم عبورًا لباب البيت واجتيازًا للحديقة وصولًا إلى الطريق المؤدي نحو الشاطئ.. ظل جسدي يرتعش منتفضًا كأنما الأنصال المسنونة قد حوّلت دمائي لكهرباء سائلة تتدفق مسعورة وراء جلدي.. مع ذلك كان ثمة إحساس بعدم الندم تجاه هذه الزيارة محتفظًا بصموده.. رسالة طمأنينة؟.. لم أستغرق وقتًا في حسم الأمر: لن أكشف لأحد عما رأيته في بيت هذه المرأة؛ ليس بسبب وعدي لها، وإنما لأنني سأجعل ذهابي إليها من الأصل في طي الكتمان.. ما اكتشفته اليوم لم يذهب إليه أكثر الخيالات تطرفًا في القرية.. كانت الاستفهامات تمعن في الاهتياج داخل رأسي: هل قتلت حبيبها الروائي قبل أن تقطع عضوه؟.. هل كانت تقصد بأن هذا العضو هو آخر ما تبقى منه بالنسبة لها فحسب، وليس بالنسبة للحياة نفسها، أي أنه لا يزال حيًا حتى الآن، ولكن بنقص فادح؟.. أين حدث كل هذا؟.. كيف حدث؟.. هل يمكن أن تكون كاذبة حقًا؟.. تريد هذه العجوز أن تقضي أيامها الأخيرة في هدوء برفقة العضو المقطوع لحبيبها الروائي الذي قاطع حديثها فوق مائدة مستديرة عن الفانتازيا.. لكنني مع ذلك لم أشعر مطلقًا بالغرابة تجاه نفسي حينما بدد تساؤل واحد كل هذه الاستفهامات قبل أن أتوسل للنوم في تلك الليلة: هل استعملت المرأة ذلك العضو المقطوع من قبل؟.. تساؤل واحد استقر في عقلي كغيمة رمادية ضخمة، أخفى ظلها القاتم كل عماء آخر.
في الصباح التالي أخرجني من اليقظة الهزيلة، التي لم تبلغ حد النوم، ولم تحتفظ بوعي كامل اتصالًا من أحد أصدقائي ويعمل محققًا في شرطة القرية ليخبرني بأن شخصًا ما قد أبلغ عن صرخات عاتية انبعثت من بيت العجوز أثناء مروره بالقرب من بوابته؛ فأسرع بإبلاغ الشرطة، وعند وصول رجال الأمن إلى هناك اكتشفوا مقتلها.. كان يعلم من أحاديث سابقة بيننا اهتمامي بأمر هذه المرأة، ولهذا عرض عليّ مرافقته إلى بيتها وحضور المعاينة.. لم أستغرق وقتًا طويلًا حتى كنت أعبر بصحبته والطبيب الشرعي نفس العتبة التي قطعتها أمس.. شعرت بالجحيم الباطني ذاته، ولكن على نحو يسمح بانضباط عصبي أكبر.. كأن قتل العجوز كان أخف بدرجة ما من رؤية عضو ذكري مقطوع في حجرة مكتبها.. كانت جثة العجوز عارية تمامًا وممددة على ظهرها في منتصف حجرة الطابق الثاني وسط بحيرة من الدماء.. كان ثدياها مبهرين إلى حد معجز، بحجميهما الكبيرين، وبهالتيهما الواسعتين، وحلمتيهما البارزتين، وامتلائهما اللامع والمتماسك، بالغ النعومة، في تنافر وحشي مع شعرها الطويل الأبيض المبعثر حول رأسها فوق البلاط الأسود، وتجاعيدها المشوّبة بالذبول، وبطنها الضامر، وفخذيها النحيلتين المتباعدتين بعظامهما الناتئة، اللتين انهمر الدم من بينهما، وأيضًا الكرمشة الكالحة لظهر كفيها، التي تكاد العروق النافرة أن تخترقها.. بدا كأن ثدييها اللذين تتناثر قطرات الدماء فوقهما قد عاشا في خصومة زمنية مع جسدها.. كان في عينيها المفتوحتين، ومسارات خطوط وجهها، والانفراجة الواهية، المضاءة بالدم لشفتيها السمينتين شعور متجمّد على متعة خارقة سرعان ما تقلّصت، وتحولت إلى رعب تصاعد إلى أوج اليأس.. كان الطبيب قد انتهى من فحصها، وعندما سأله المحقق عن سبب وفاتها أخبره بأنها حالة غريبة للغاية لم يقابلها أبدًا من قبل:
ـ يبدو الأمر كما لو أن شيئًا يشبه هراوة ضخمة قد اخترق مهبلها، وواصل شق طريقه ليمزق الأعضاء الداخلية حتى وصل إلى سقف حلقها ثم تم انتزاعه ثانية بقوة.
كنت خلال حديث الطبيب أتأمل البرواز الذهبي المعلق على الحائط.. لم يكن العضو الذكري موجودًا هناك.