حاتم عبد الله
أتحسس جلبابي الأبيض الجديد، ألبستنيه أمي عقب الاستحمام.. أنظر في المرآة فرحًا بمشهد الحلاقة؛ وقد توسط شعري مربع ينقسم داخليًا إلى مربعات صغيرة؛ شبيهة بلعبة “السيجة”، طالما رأيتها في رؤوس باقي الأطفال يوم طهورهم.
ملأت جيبي و”سِيَّالتي” بكل الحلوى التي جُلِبَت لي، بينما أجتر حكايات سمعتها من بعض الرفاق عن آخرين؛ ختنتهم الملائكة خلال نومهم، ثم ملأت جيوبهم بحلوى مثل حلوى المولد.
يدوي مكبر الصوت بأغنيات للأطفال طالما سمعتها من الراديو، مشيت مزهوًا باهتمام المحيطين؛ الأقارب والمعازيم، فيما تتوالى في ذاكرتي مشاهد الأعمام بجلابيبهم البيض لحظات زفافهم، وسط الزغاريد وطلقات رصاص تنطلق من بنادق مصوبة نحو السماء.
غمرتني فرحة مضاعفة، حين احتضنتني زميلة أختي واقتربت بوجهها الصافي وملامحها الأخّاذة، قبلتني صائحة بضحكتها الرائقة وصوتها الحلو: “مبروك يا عريس”.
لبنى التي تكبرني بعشر سنوات، لا تأتيني في بيتنا إلا بأحب الحلوى واللعب، حكاياتها عن “تان تان” وأشباهه تستوعبني كاملًا وتحملني إلى عوالم مزركشة وجميلة؛ أحلم بزيارتها.. تعلقت بها وكرهت ذهابها؛ وقلت لها مرة: “عايز أتجوزك”، فانفجرت ضاحكة، وصرت بين زميلات أختي “جوز لبنى”.
تركت الجمع ودخلت إلى سريري، دسست تحت الوسادة، “المشوهرة” وهي سعفة مأخوذة من قلب نخلة، مضفرة، تعلق في الرقبة لمنع الحسد عن المختون حديثا.. مكثت في السرير انتظارا للنوم وحلوى المولد، لكن أمي احتضنتني وحملتني للخارج، فقلت لها برجاء ممزوج بالصرامة: “مش هايطاهرني الراجل العجوز اللي طاهر اخواتي.. أنا هاتطاهرني الملايكة”، ردت بقبلة و”ماتخافش”.
سلمتني لجدي، اطمأننت بين يدين استثنتني دائما من الضرب من بين أخوتي كلهم، ذرفت منه دمعة فخفت، لكن عيني وقعت على لبنى ووجدتها تبتسم فاستأنست واستعدت طمأنينتي.
فجأة دخل الحلاق العجوز وابنه، رأيت في عينيه استهدافًا وترصدًا، فعلمت أنني في الفخ، انتزعني الحلاق “الصغير” فدفعته بلا جدوى، وحاولت ضربه بكلتا يدي، لكنه أجلسني عنوة على “الماجور”، وبسرعة المتمرس، قيد ذراعيَّ وساقاي معًا بيديه؛ لكن حركة جذعي أتعبته؛ ففوجئت بأيدي أبي وأعمامي يساعدون “العدو” في تثبيتي؟!!!!.. أيشاركون في ذبحي كما فعلوا مع الجزار في ذبح الشاتين صباحًا؟!.
بيديه المرتعشتين، أخرج العجوز “القبيح” شفرة موسى من جيبه، فغمرني الرعب.. ماذا أفعل؟.. سيقتلني!.. عيناه شبه مغلقة، منتفخة وحمراء لا تكاد تبين.. كرهي الأكبر انصب على ابنه الذي كبل حركتي تمامًا.. كيف أفك القيد؟.. كيف أبعِدُه؟.
تذكرت حين كنت ورفاقي نتسابق فيمن يدفع بوله لأبعد مسافة.. نعم.. وجدتها.. سأبول على العجوز، سأطلق “نافورة بول” نحو وجهه، سأغرقه.. سأقتله قبل أن يقتلني.
الخوف شل قدرتي على الفعل.. شربت شرباتًا وماءً كثيرًا منذ الصباح.. مالها تستعصي على الخروج؟.
شفرة العجوز اقتربت من جسدي.. شعرت أنها تعكس أضواء الشمس وكل المصابيح على عينيّ.. هربت إلى وجه لبنى، كان مازال باسمًا؛ استنكرت وصرخت مستنجدًا: لبنى؟.
هاقد استجمعت بعض الماء، سأطلق النافورة.. ودت أن أبول على الجميع؛ أبي وأمي وجدي، حتى لبنى المبتسمة.. سأضرب ضربتي بلا خجل ولا خوف.. سأبول على وجوههم؛ سأأأأ.. النافورة.. نافورة دم تنطلق بدلًا من البول.. ارتعدت وانتفض جسدي كله.. قلبي يقفز.. يكاد يخرج من صدري.. أصرخ بقوة.. ضوضاء تصم أُذنيّ.. ألم ألم ألم.. ثم خِدرٌ كامل، ونسيمٌ لطيفٌ يلامس وجهي، وملائكةٌ أكاد أراها، تحمل إليّ حلوى المولد.