مبارك وساط
العاصفة التي…
العاصفة التي طوّحَتْ بأفكاره
لم تُبق في ذهنه سوى كومات ثلج
عشبُ حديقته
انقلب إلى قطن
أصداء نُباح نفذتْ عبر نافذته
لكنْ ليس في الخارج شَبَحُ كَلب
هنالك أعمدة كهربائيّة فحسب
وهو يراها بيضاء
لا يَدري هل هي التي أصبحتْ شموعاً طويلة
أمْ أنّه يراها
مِن خلال عقله الذي غزاه الثّلج
في الصّباح شَعَر بِقلق وَخَرَج
فكّر : “عليّ أنْ أسحب ما لديّ في البنك
قبل أن تُصبح الأوراق النّقديّة التي في حِسابي
مجرّد أوراق فارغة ورهيفة
تصلح فحسب لِلَفّ الحَشيش“
في طريقه إلى البنك تذكّر
أنّ رَصيده هو تحت الصِّفر
فتوقّف عن السّير
وتنفّس الصُّعَداء
*
في مستشفى كبير
هذا المسلك الذي يتمشّى فيه كلّ يوم
يُبادلُه ولا شكّ الشّعورَ بالألفة
حين يخطو فوقه يَطمئنّ
تَخِفّ عنه مخاوفه
هذا المسلك هو في حديقة
والحديقة في مستشفى كبير
حيثُ يرقد ذلك الرّجل منذ وقت
ها هو يجلس على مَصطبة
تحت شجرة
تنزل غيمتان
تتمسّحان بِيديه
بُرودتهما تُنعشه
مَلمسهما مخمليّ
ينزل طائران
يتحرّكان حول قدميه
ثمّ يُحلّقان ويبتعدان
الرّجل بلا عائلة
كان يعيش في منزل بعيد
وسيعود إليه
قالوا له : لقد شُفيتَ تقريباً
وغد اًستغادر المستشفى
لا يُحِبّ رائحة الأدوية ها هنا
ولا زمجراتِ بعض المُمَرّضات
لكنّه سيعود إلى هذا المكان
كلّما أمكنه ذلك
ليتمشّى في هذا المسلك
في هذي الحديقة
ويجلس على هذي المصطبة
تحت هذي الشَّجرة
ليرى الغيمتين والطّائرين
فالمسلك والغيمتان
والمصطبة والحديقة والشّجرة
والطّائران
هي الآن عائلتُه
*
يَقفز عازفون
لا تُعجبكَ الأغنية المنبثّة من المسجّلة
وعلى غير انتظار
يقفز عازفون من بيوتهم
ويصطفّون أمامك
تقفز آلات موسيقية مِن غُرَف بعيدة
وتستقرّ في أيديهم
تقفز راقصة مِن سريرها
في غُرفة بعيدة
ثمّ تبدأ وصلةَ رقص قبالتك
إنّه صباح آسِر
صباحُ قفزات
ومُعجزات
تفتقد صديقة قديمة
كانت قد ماتت غَرَقاً
فتقفز من أعماق البحر
وتنزل إلى جانبك
مبتسمةً
لكنْ بعد لحظاتٍ تقول :
أنا عائدة إلى مسكني تحت المياه
ثمّ تختفي من غرفتك
وكذلك تفعل الرّاقصة والعازفون
تتأمّل وجهاً يتشكّل
من دخان سيجـارتك
لكنّه سرعان ما يتبدّد
من النّافذة تُطِلّ على الشّارع
لا قفزات ولا معجزات
بائع التّبغ يُغلِق دُكّانه
بعد دقائق سيرحل هذا الصّباح
حاملاً حقيبته الوحيدة على ظهره
إن كان راجِلاً
أو جاعِلاً إيّاها على المقعد الخَلفيّ
لِدَرّاجته الهوائيّة
*
راقِصات
أمام باب حديقة مهجورة
رأيتُ مناديل رهيفة ذات ألوان
منسيَّةً في أيدي راقصات
مِن عصر سالف
الأيدي من دون أجساد
مع هذا يُمكنك تخيّلُ صاحباتها
والبرد اللطيف
سيتكفّل بأنْ ينقل أسماءهن
إلى أذنيك اللتين أدماهما الانتظار
إثر ذلك ستسمع طقطقات أحذيتهنّ
وتنهيداتهنّ أيضاً
فهنّ لم يتعوَّدن على الموت بَعد
*
امرأة
امرأة تَمسح حُزن البارحة
عن طاولة فوقها كتاب
هي تعرف الكثير من أسماء الجبال
والمطرُ الأخير
قاسمها أسراره
“أنا في سِنّ البَرق“
هذا ما تقوله وتبتسم
تعرَّفتُ عليها يوماً وعلى الفور
شاركتني البحث عن قدّاحة
كنتُ أضعتُها وسط أحجار وحَصًى كثير
تلك كانت قدّاحتي الحمراء
كم مرّةٍ وضعتُ يدي في جيب بنطالي
فوجدتها رقيقة وهادئة ولطيفة
لقد كانت ملِكةً على شرارات
وتشرّبتْ ضحكاتي في حانات
وكثيراً ما سافرتْ حتّى الأفق
وأصبحتْ نجمة جميلة تلمع من بعيد
المرأة تمسح حزن البارحة
عن طاولة فوقها كتاب
إنّها في عُمر البروق
سأجلس قبالتها
ونلعب مباراة شطرنج
*
يَنفث الصّباح أنفاسَه
ينفث الصّباح أنفاسه اليائسة
في كأس قهوة أمامي
نافذةُ غرفتي تُحيّي صديقة عابرة
من التّلفاز يسيل دم غزير
في مُخيّلتي تركض ظلال
مُنكِّسةً هاماتها
أَخرج لأتمشّى
لكنّ الطّريق تتشنّج
وتختضّ تحت قدميّ
أتابع طريقي
متقافزاً
*
نِداءُ موجات
أسمعُ نداءَ موجاتٍ بعيدات
هل الشّاطئ يفتقدني ؟
البارحة كان هنالك حَفل على الكورنيش
ووُزّعت الشّامبانيا
ورقصت جميلات
وحتّى بنات آوى
قدّمن عروضاً مُسَلّية
كانت الموسيقى الشّعبيّة
تنفذ إلى أذني اليُمنى فحسب
اليسرى أرستقراطيّة وسأتبرّأ منها
أنا ماض مجدّداً إلى الكورنيش
لديّ في أحد مقاهيه موعد
مع صديق مُفَكّر
سأساعده في تنقيح الجزء الثّالث
من غَرابة أطواره