كان يبلغ الخامسة والستين، طويل القامة، ينبئ ترهل جسده عن بدانة سابقة. كان معروفًا عنه أن شفتيه لا تجودان بالابتسام إلا في أوقات نادرة، ولكنه اليوم يفتر عن ابتسامة رائقة كأنها ستدوم إلى الأبد. ومع كبر سنه وماضيه المتخم بالإسراف والتهالك على الملذات، فإن جسده كان يفيض بنشاط وخفة يحسد عليهما، مما جعلهم يرمقونه بإعجاب.
كبار السن من أهل البلدة كانوا مطلعين على سيرته وسيرة عائلته الميسورة التي استأصل العقم والموت فروعها حتى تجمعت الثروة في يده، الذي بدوره بددها بالجري وراء هفوات بلا جدوى أشعلت الجنون بداخله كما لو كان يغترف من بئر لا تنضب إلى أن لطمه الفقر بقبضة قوية أفاق على أثرها فرأت عيناه ما لم يحتسب؛ حيث صدقت نبوءات زوجته التي طالما حذرته. كان نتيجة ذلك أن تغرب ابنه الوحيد هربًا من الفقر إلى بلاد بعيدة بحثًا عن الرزق. لا أحد يكره مرزوق، حتى المتشددون أصبحوا يرثون لحاله الذي آل إليه الذين لا يفتأون يذكرون الناس بحكايته ليتعظوا. ولا أحد يلومه بعدما عرفوا أنه دائمًا ما يلوم نفسه ويعنفها. كانت عيون زوجته صباح كمرآة يرى فيها وجه الحسرة بأقنعة مختلفة. كان قد مضى وقت الأصيل حيث رويدًا رويدًا بدأت الشمس تسحب خيوط الغسق الواهنة نحو الغروب، فازداد الهواء برودة. عندها تفرق الجميع بعد أن رحبوا بعاطف وصديقه، فقد رفض أن يترك صديقه حسان يواصل السفر إلى بلدته الكائنة بأقصى الجنوب لما بدا عليه التعب، الذي طلب منه بإلحاح أن يستريح الليلة معه ثم يواصل السفر في صباح الغد.
ها هم جالسون تكتنفهم مودة صافية داخل «المندرة» التي يتألف أثاثها البسيط من ثلاث كنبات متهالكة، مفروشة بحصر «الحلف»، بلاطها مغطى بكليم أحمر متسخ. وكان ضوء ضعيف ينبعث من لمبة معلقة بالسقف. كان عاطف يسدد نظرات مليئة بالشوق نحو وجه أمه الوديع، فنظر إلى كل جزء فيه لعله يستعيد كنه تلك الرجفة الشجية التي ألمت بقلبه عندما دخل إلى الدار ورأى دموع الفرح الصادق تنهمر من عيونها. وكم كان يشتاق إلى أبيه على الرغم من عقبات الماضي، ولكنه قد اغتم عندما أحس بأن روحًا قلقة امتزجت بدمائه، كما لاحظ عليه نظراته العبثية المليئة بالغموض تطغى على فرحه بعودة ابنه.
أخذوا يتسامرون ويضحكون ويتذكرون حتى جاءت لحظة شعر فيها أبواه بأن عليهما مغادرة «المندرة» كي يرتاح عاطف وصديقه من عناء السفر، فجاءت أمه بأغطية لكي تحميهم من برودة منتصف الليل. أطفأت أمه اللمبة فساد الظلام الذي ألفته عيونهما بعد لحظات قليلة. كان كل منهما قد طرح جسده وأراح رأسه، بينما ما زال النوم يتردد في اقتحام عينيهما.
تجاذبا أطراف الكلام وهما موقنان أن ذلك لن يدوم طويلاً. كان الكلام يدور مقتضبًا وبصوت خافت، متضمنًا ذكريات الغربة والعودة والعودة إلى الأهل والقلوب التي أضناها الشوق. وعلى الفور تذكر حسان أمه العجوز حينما كان يتململ بضيق تحت الغطاء حيث هاجمته البراغيث والبق إلى أن أصابه السأم. شعر عاطف بحال صديقه وخمن ما أصابه فاقترح عليه أن يأتي لينام مكانه. وافق حسان من دون أدنى خجل.
عندما مضى نصف الليل كان النوم قد غمر العيون فأسدلت جفونها إلا عيني مرزوق اللتان ظلتا ساهرتين متقدتين لا تطفئهما موجات الظلام الثقيلة التي تكتنف الحجرة. لا شيء كان يعوق اجتراره خواطره سوى أنفاس زوجته المرتفعة والمتحشرجة. ولم يكن بوسعه فعل شيء إلا أن يرمقها بنظرات المقت والازدراء ثم اجترار خواطرة التي تمر على مخيلته فترسم صورًا لا تلبث أن تتحرك بإيقاع منتظم على أنغام الماضي فتبعث بداخله أحاسيس قديمة، جعلت التعب يذهب عن جسده ويحلق في نشوة الحلم.
كانت أحاسيس متباينة يتذكرها جيدًا. يتذكر رائحتها اللزجة التي تزكم أنفه الآن، حيث تلاشت تحت وطأتها رائحة الرطوبة المتغلغلة بجدران الحجرة. هو الآن لا يرى الظلام، ولا يسمع أنفاس زوجته، تاركًا مشاهد حياته الماضية تتوالى بسرعة حتى تتراكم مكونة ندمًا محرقًا داخل روحه، تعقبه حسرة تجعله يحس بسكين ساكن بصدره فيكز على صدغيه. وببطء أخذت أنفاسه ترتاح إلى حد ما بعد أن بدء ذهنه في تقدير ما جاء به ابنه من مال، فعند ذلك تخلقت أحلام مسربلة في شكل جديد، ويزداد زهوه حين تقتبس تلك الأحلام ملامحها وظلالها من أيام الرخاء الذي عاشه في الماضي. ولكن نفسه كانت غير مقتنعة حيث جعل ينقم على تفائله عندما اندست به خواطر متشحة بالسخط. استمر على ذلك حتى تساءل في نفسه: أجتر خواطري مع نفسي أم مع الشيطان! النفوس الهاجعة تحتمي برب الليل وتطلب الطمأنينة والرحمة، بينما كانت الشياطين تتراقص أمام عينيه فوق جبهة الظلام. لاحظ أنفاس زوجته تعلو متسرعة على غير العادة وتصعد فوق موجات كابوسية. ارتجفت أوصاله واقشعر بدنه ثم ساد صمت ثقيل بلا تكهنات. اقترب من وجه زوجته لينظر إليه بتمعن، فبالكاد كان يرى عينيها المستيقظتين، يشع منهما بريق غريب، يكشف بضوئه عن نظرة لها معنى كأنها تخاطبه بلهجة تعرفها خواطره، بل ربما كانت تلومها. بينما كانت أنفاسها المتلاحقة تهدم جدران الصمت، أغلقت عينيها وارتعدت ملامح وجهها، وفتحت فمها ببطء قبل أن تطلق صرخة مدوية خرجت ساخنة من جوفها. نهضت لتجلس بجسدها المعروق فأحست بوجود زوجها مستيقظًا بجوارها بعدما لاحظت اضطراب أنفاسه، الذي بنبرة متهدجة سألها عما بها. مضى وقت قليل قبل أن تستعيد هدوءها وترد عليه: رأيت الدم يلطخ جلبابك. التي لولا الظلام لذهلت من رؤية وجهه الممتقع. عندئذ ازدادت ضربات قلبه اضطرابًا لشعوره بالخوف من حدس زوجته الذي كان لا يخطئ أبدًا؛ حيث شعر بأن كل ما يجول بذهنه قد مر على ذهنها، والكابوس الذي داهمها وجعلها تفزع ما هو إلا دليل على أنها لاحظت نظراته المليئة بالطمع وهي مصوبة نحو حقيبة حسان صديق ابنه. كان القمر ما زال مستيقظًا في السماء ليرسل بنور شاحب يجعل العين بالكاد تتلمس خطاها في الدروب، بينما الفجر كان على وشك أن يترنم بصوته الرخيم. كان مرزوق يترنح بحمله الثقيل الذي يعتلي ظهره في درب ضيق يفضي إلى الخلاء. الدم الساخن يزكم أنفه ويلطخ جلبابه بعد أن تسرب من مسام الجوال. خاف أن يباغته صوت الفجر الذي يشعل اليقظة في عيون بعض الناس، كما لازمه إحساس بأن قواه ستنهار قبل وصوله إلى الترعة الكبيرة التي سيلقي فيها بحمله، في حين بدأ يفقد الإحساس بأطرافه المرتجفة. كان الخلاء أرضًا واسعة مليئة بالحفر ونتوء الحشائش، تدوي بين أرجائه أصوات الكلاب والقطط التي يرجع صدى صوتها خافتًا إلى الدروب، فيما كانت في تلك الأثناء وشوشة سعف النخيل القائم على الأطراف تناجي السماء.
عندما وصل عند حافة الترعة أنزل عن ظهره الجوال الغارق في الدماء ثم انتصب بجسد منهك يكبل الخوف أطرافه، وذلك بعد أن جال بعينيه في الأرجاء واطمأن إلى عدم وجود أحد. ولكن قبل أن يهم بإلقاء الجوال في الترعة رأى من الأفضل أن يضع بداخله حجرًا ثقيلا من تلك الأحجار المرصوفة عند الحافة حتى يغوص إلى القاع بسرعة. فلما نظر بداخل الجوال أصابته رجفة صاعقة على أثرها اكتسى وجهه قتامة الندم المخبول الذي أصاب عقله، واتسعت عيناه في حرقة كي يرى المفاجأة المهلكة التي لم تكن في الحسبان.
وبينما خيل إليه بأنه يصرخ بصوت خافت كان صراخه يزلزل الأفق الذي بدأ ينضح بنور الصباح.