الطفل الذي لا يزال متمردًا

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 53
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 إبراهيم عبد المجيد

الدكتور عمار علي حسن يملأ الحياة الثقافية والفكرية في مصر والعالم العربي , مابين كتب فكرية في النقد الأدبي والفلسفة الإسلامية والسياسة , وروايات وقصص  , ومقالات صحفية , وحضور لافت في الفضائيات العربية حول قضايانا التي لا تنتهي . قرأت لعمارعلي حسن أكتر من رواية . وهو بخلفيته الفلسفية والسياسية عن الإسلام والمسلمين يختار موضوعات جديدة مثل “السلفي” و”شجرة العابد” وروايته  “سقوط الصمت” التي كانت من أوائل ما كتب عن ثورة يناير . قرأت له أكثر من كتاب فكري وخاصة كتابه الهام جدا ” التنشئة السياسية للطرق الصوفية في مصر” الذي حصل به علي جائزة الشيخ زايد عام 2010. صدر لعمار مؤخرا كتابه ” مكان وسط الزحام ”  عن الدارالمصرية اللبنانية . للكتاب عنوان فرعي هو ” تجربة ذاتية في عبور الصعاب ” ورغم أني أعرف أن التجارب الذاتية في عالمنا العربي غالبا إن لم يكن دائما تبتعد عن الأمور شديدة الخصوصية التي قد تُواجَه , بل وتُواجَه بالانتقاد والهجوم باعتبار أننا خير أمة أخرجت للناس ومايصحش كدا !. ورغم  صغر سن عمار علي كتابة السيرة  دخلت إلي الكتاب . عمار من جيل يبعد عني بعشرين سنة . هو التحق بالمدرسة عام 1973 وفها كنت تخرجت من الجامعة . قسّم عمار كتابه إلي ثلاثة أقسام . الأول بعنوان ” طفل كبير ” وهو عن النشأة في قرية صغيرة بمحافظة المنيا في جنوب مصر واخترت عنواني هنا من التحاقه بالمدرسة . فهو الطفل ابن الأسرة الفقيرة التي دار عليها الزمن واختار له أبوه أن لا يتعلم . لكنه رأي التلاميذ يذهبون إلي المدرسة سعداء يجرون فجري معهم وجلس في الفصل الدراسي وهم غير مقيد في التعليم . هكذا حياة عمار دائما . يسعي بقوة لما يريد . تم قبوله في التعليم  بعد محاولات إدارية من ناظر المدرسة واقتنع والده وقال له” أنت عكازي ” أى العصاة التي أتوكأ عليها , وقد كان بعد رحلة كبيرة . راهن عمارعلى الاستمرار بالمدرسة بأعمال شاقة مع عمال التراحيل أو المزارعين .  الريف فيه كل البؤس  ولم يتغير عن أيام الإقطاع التي صدعونا في التعليم أنها انتهت مع ثورة يوليو . لا ينتهي الفصل إلا بعد دخوله جامعة القاهرة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية هو الطالب النجيب الذي لم يمنعه العمل الشاق عن القراءة وسط الحقول وبين ساعات العمل وعن البحث عن المكتبات والكتب . ويبدأ الفصل المعنون ب ” صيد الحكايات ” وهنا ينشطر عمار بين الأدب وبين البحوث السياسية والتاريخية والفلسفية . وهي مسألة ليست سهلة في عالمنا رغم أن جيل ثورة 1919 مثل طه حسين وتوفيق الحكيم فعلوا ذلك كله . كتبوا بين الأدب والابداع والفكر وكانوا يحاولون أن يقدموا للأمة ماخفي عنها من فنون ومن أفكار . مهمة عمار أصعب فالأدب صار له كتابا بالمئات والبحث العلمي يحتاج إلي مال وتفرغ والإنسان بين ذلك يحتاج الي حياة . كيف ومن أين استقي عمار حكاياته ليكون قاصا وروائيا ومن قرأ لهم وغيروا أفكاره عن الكتابة وبناء الحكاية ثم دورانه بين الأجهزة الثقافية لينشر عملا من أعماله القصصية الأولي . وهو عبر ذلك يحدثنا كيف تطور مفهومه للأدب مع القراءة للكتاب المحدثين ولا يخجل أن يعترف إنه سعد بعدم نشر مجموعته القصصية الأولي وكيف تخلي عنها من أجل كتابة أفضل  . ينتقل عمار علي حسن إلي الجزء الثالث وعنوانه “حفر في صخر ” وهي الرحلة الأصعب  رغم أن الحفر في الصخر لم يفارقنا منذ طفولته . هنا يبحث عن  مكان في عالم البحث العلمي وعالم الصحافة . ينجح لكن بعد مفارقات كثيرة لأنه خلال ذلك كما هو من قبل كان يبحث عن مرفأ من عمل . أعمال كثيرة جدا لا تتخيل إنه يُقبل عليها . لم يستمر في أكثرها كما لم يتجاوب مع من أراده خطيبا لأحد المساجد وكيف اعتذر مساء أن وافق .أكثرها كان يخرج منها في اليوم الثاني مثل عمله في شركة استثمار أو دعاية أو غيره لكن المهم أن لا ييأس ويجد مكانا له في القاهرة التي جاع فيها أكثر من مرة وهو مصمم علي البقاء في هذه المدينة القاسية . في النهاية ينجح عمار في الاستقرار وينجح أكثر حين ذهب للعمل في أبوظبي وعاد وصارت له شقة وزوجة وبيت وأوطفال عادوا جميعا بعد أربع سنوات لم يشأ أن تزيد ليكتب ويبحث وتستقر أقدامه في عالم الفكر رغم إغراءات المال في الخليج . عمار الذي كان قد نجح في الالتحاق بوكالة أنباء الشرق الأسط والذي نُشرت أبحاثه وكتبه عبر هذه الرحلة ,  استطاع الآن الاستقرار وانفتحت أمامه كل الصحف العربية والمصرية . ويا إلهي . حين يفوز عمار علي حسن بجائزة الشيخ زايد عام 2010 يستقيل من كل عمل وهو في السابعة والأربعين من العمر ويكتفي بالكتابة حرا من كل ما يمكن أن يشغله عن الفن والفكر . في حياته كلها تجده كثيرا ما لايتم اختياره في عمل بسبب اعتراضه علي أسئلة من يختبرونه فهو يري نفسه وهو علي حق , يعرف مالايعرفون . الطفل المتمرد  يفعل مايريد رغم انه لايجد قوت يومه  . يستطيع الآن أن ينظر إلي القاهرة ضاحكا كعادته ويجلس في أي وقت يشرب الشيشة علي المقهي دون ارتباط بعمل . وهذه من عندي فأنا أعرف أنه يحب ذلك . الجميل في الكتاب أن عمار يذكر بالخير كل من وقف معه في الحياة  ممن كانوا علي طريق أفكاره أو معاكسين لها. طبعا لايمكن المرور علي كل ماجاء بالكتاب وكيف كان يمكن أن تجذبه الجماعات الجهادية في الصعيد وكيف فهم ودرس وابتعد ,لكن هناك فترات في حياته فيها حكايات مؤلمة من نوع آخر مثل حكاية ابنه الذي أخبرهم طبيب غير جاد في أبوظبي أنه مصاب بالتوحد وأن لا أمل في تغيره وكيف استطاع هو وزوجته أن ينجحا في أن يصبح إبنهما عاديا في سلوكه متفوقا في الكلام وفي قدرته علي تلقي العلم والتعليم . قرأعمار عشرات من كتب علم النفس لينقذ إبنه . عمارنفسه تأخر نطقه للكلام في طفولته لكنه جري إلي المدرسة غير المقيد بها مع الأطفال ! الكتاب رغم أنه ثلاثة أقسام إلا أن كل قسم فنيا يكاد يكون رواية فهو يقفز في الزمان ويعود مع الحدث وتداعياته أو تكراره وهكذا تقرأ في متعة  كتابا في سيرة التمرد في وطن من جحيم . 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم